من الثابت أن إيمانويل ماكرون، النجم الصاعد في سماء فرنسا السياسية، لن يصبح رئيسا للجمهورية في شهر مايو (أيار) من العام المقبل. والمرجح أنه لو ترشح لهذا المنصب، فإنه لن يجتاز الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي تبين استطلاعات الرأي أن الهيمنة عليها ستعود لمرشح اليمين - الرئيس السابق نيكولا ساركوزي أو رئيس الحكومة الأسبق ألان جوبيه - من جهة، ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن من جهة أخرى. ولكن رغم ذلك كله، فإن الأنظار كلها منصبة على ماكرون الذي أطلق عليه الاشتراكيون الفرنسيون لقب «بروتوس» قاتل الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر عام 44 قبل المسيح. بروتوس، الذي كلّمه القيصر قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قائلا له: «حتى أنت يا بروتوس؟!» كان الابن غير الشرعي ليوليوس قيصر من عشيقته سرفيليا. وسياسيا، كان بروتوس صنيعة يديه لأنه مكّنه من الدخول إلى مجلس الشيوخ. لكن الوعود أغرت بروتوس بخيانة ولي نعمته فلم يرجف ذراعه عندما وجه ضربات نصله إلى «والده» القيصر.
إذا كان إيمانويل ماكرون قد «خان» ولي نعمته الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، فلأنه استقال من الحكومة الاشتراكية وأسس في الربيع الماضي حركة «إلى الأمام»، التي تحمل هيئة الحزب السياسي، مُخطِّطًا لها أن تكون منصته للوصول إلى المنصب الأعلى في الجمهورية الفرنسية.
حتى الآن، امتنع ماكرون - وهو وزير الاقتصاد السابق - عن الإعلان عن ترشحه الرئاسي وهي حال الرئيس هولاند نفسه، الذي قرّر تأجيل الكشف عن نياته إلى شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل. إلا أن الرئيس الحالي يجد نفسه في وضع صعب للغاية، فشعبيته وفق آخر استطلاع للرأي لم تعد تتجاوز الـ4 في المائة وهي نسبة حضيضية لم يهبط إليها أي من الذين سبقوه إلى قصر الإليزيه منذ تأسيس «الجمهورية الخامسة» على يدي الرئيس الجنرال شارل ديغول في 4 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1958. لكن المؤشرات كلها تدل على أن ماكرون سائر في مشروعه السياسي الذي سيقوده لا محالة إلى المنافسة الرئاسية سواءً ترشح هولاند أم لم يترشح. ذلك أنه منذ خروجه من الحكومة، دأب وزير الاقتصاد السابق على انتقاد عهد هولاند متهما إياه بـ«الميوعة»، وبالتراجع عن تطبيق الإصلاحات الجذرية التي تحتاجها فرنسا، مع العلم أنه كان طيلة سنتين «مشاركا» في عمل الحكومة. وبالتالي، يمكن اعتباره، سياسيا ومعنويًا، مسؤولاً عن الفشل إذا كان هناك فشل.. وشريكًا في النجاح في حال أفضت السياسة المتبعة إلى نجاح ما.
مقابل «بروتوس - ماكرون» الخائن، يلبس رئيس الجمهورية صورة المسؤول «الساذج». فعلى الرغم من التحذيرات التي جاءته من أكثر من مصدر، قال هولاند علنا إنه «يثق» بولاء ماكرون لأنه «يدين له بكل شيء». والحال أن الأول قتل «الأب» سياسيا، بحسب نظرية مؤسس علم النفس سيغموند فرويد. وظاهرة «القتل السياسي» تقليد شائع ولا يعرف الحدود والعصور. ألم يعتد بعض سلاطين الخلافة العثمانية قتل أبنائهم مخافة أن ينازعوهم السلطة؟
لا يسار ولا يمين
إيمانويل ماكرون، الرجل الذي ما زال دون الأربعين، يريد أن يكون «ظاهرة» الحياة السياسية الفرنسية. وهو يقول إنه لا ينتمي لا إلى اليمين ولا إلى اليسار بل يريد تخطي «الثنائية القطبية» التي يرى أنها لم تعد تتوافق مع العصر الحالي. إنه عازم على «تحريك الخطوط» السياسية ولو كان حتى الآن لم يكشف عن برنامج سياسي أو اقتصادي.
من ناحية ثانية، لم يسبق لماكرون أن عرف الانتخابات لا المحلية ولا النيابية، وهو يثير الفضول والاهتمام في حله وترحاله، ويريد أن يزحزح الجبال من أماكنها، مراهنًا على إعادة الأمل إلى الفرنسيين. شعار ماكرون: «التغيير والحداثة ومجاراة العصر والانتقال من حال إلى حال».
هل هو حقيقة «وعد» بفرنسا أفضل؟ أم أن «بروتوس» الحياة السياسية الفرنسية الشاب فقاعة صابون ستقضي عليها أول هبة ريح؟ هذا هو السؤال.
من هو ماكرون؟
حتى 15 مايو (أيار) من العام 2012، أي حتى انتخاب فرنسوا هولاند الاشتراكي رئيسا للجمهورية، لم يكن الجمهور الفرنسي قد سمع باسم إيمانويل ماكرون. فهذا الشاب الذي عينه هولاند مساعدا لأمين عام قصر الإليزيه يدين بمنصبه للرئيس الجديد ولدعم بعض الأطراف المحيطين بالرئيس ومنهم جاك أتالي، مستشار الرئيس الاشتراكي الأسبق فرنسوا ميتران. وأتالي - الجزائري المولد - معروف عنه أنه أحد «رجال الظل» الأكثر تأثيرا في دوائر قرار الحزب الاشتراكي. وكما زكّى تعيين ماكرون في الأمانة العامة، سبق له أن اقترح اسمه للدخول إلى مصرف روتشيلد المعروف بصفته مصرفا لإدارة الثروات الخاصة وبنك أعمال. وما بين العامين 2010 و2012 - أي حتى تاريخ دخوله قصر الإليزيه - يقرّ ماكرون أنه كسب مليوني يورو، أي ما يكسبه موظف مبتدئ خلال 128 سنة. ويقول عنه فرنسوا هنرو، وهو المسؤول الذي أدخله إلى بنك روتشيلد، إنه لو بقي في منصبه لكان أصبح «أفضل المصرفيين في فرنسا لا بل في أوروبا».
كغالبية النخبة الفرنسية، سلك إيمانويل ماكرون، وهو ابن عائلة تتحدر من مدينة أميان، بشمال فرنسا، مسار أقرانه التعليمي والإداري. والده طبيب أعصاب معروف وأستاذ جامعي وأمه أيضا طبيبة كانت تعمل مستشارة للضمان الاجتماعي. أما سنوات دراسته الأولى فأمضاها ماكرون في مدينته أميان بمدرسة خاصة تابعة لليسوعيين. إلا أنه انتقل إلى باريس في نهاية مرحلته الثانوية حيث التحق بإحدى أشهر مدارس العاصمة الرسمية، وهي ليسيه هنري الرابع، ومنها انتقل إلى معهد العلوم السياسية Sciences Po المرموق في العاصمة قبل أن ينضم إلى المعهد الوطني للإدارة ENA الذي هو «المصهر» الذي يخرّج النخبة المتميزة والمدخل إلى الوظائف العليا في الدولة أو في القطاع الخاص.
بيد أن ماكرون «متميز» عن غيره. فإلى جانب دروسه السياسية والإدارية كان يهتم بالآداب والعلوم الاجتماعية، وهو حاصل فيها على شهادات عليا. وبموازاة ذلك، هو عازف بيانو متمرّس إذ درس الموسيقى طيلة عشر سنوات ومارس رياضة الملاكمة. وبما أنه يريد التميز في كل شيء فقد تزوج بريجيت، التي كانت أستاذته لمادة الآداب الفرنسية وتكبره بـ24 سنة. وصور الزوجين إيمانويل وبريجيت معروضة على أغلفة المجلات الاجتماعية التي تهتم بالمشاهير وهو أحدها. فاليوم، هناك حالة نفسية عامة في فرنسا تسمى «الماكرومانيا»، أي الهوس بوزير الاقتصاد السابق الذي يتبنى رؤية ليبرالية للاقتصاد والذي يرى أنه يتوجب القيام بعملية إصلاح جذرية للاقتصاد والمجتمع الفرنسي. ويأخذ على الرئيس هولاند، وهو كان وزيره طيلة سنتين، أنه لم يذهب بالإصلاحات حتى نهاياتها، بل تردد وتراجع، وفي النهاية فشل.
عضوية الحزب الاشتراكي
عند تخرجه، التحق ماكرون بإدارة التفتيش المالي حيث أمضى ست سنوات. وسياسيا، انضم ماكرون إلى الحزب الاشتراكي ما بين عام 2006 و2009، لكنه لاحقًا تخلى عنه رغم بقائه في دائرة اليسار. وفي عام 2006، التقى للمرة الأولى فرنسوا هولاند عبر وسيط هو جان بيار جوييه، الوزير السابق والأمين العام الحالي للرئاسة. وعندما أعلن هولاند في عام 2010 خوض المنافسة الداخلية للحزب الاشتراكي ليفوز بترشيحه للانتخابات الرئاسية وقف ماكرون إلى جانبه، كما كان قد وقف إلى جانب سيغولين رويال، رفيقة درب هولاند السابقة عندما كانت مرشحة اليسار بمواجهة الرئيس نيكولا ساركوزي في عام 2007.
وأشرف ماكرون على مجموعة من الاقتصاديين لتوفير الأفكار والمشاريع والإصلاحات للمرشح هولاند الذي كان يلتقيها مرتين في الشهر. وبسبب هذه القرابة، كان من الطبيعي أن يستدعي هولاند، بعد فوزه، الشاب ماكرون (35 سنة) لتسليمه أحد المناصب الرئيسية في قصر الرئاسة. وقبل سنتين، رفض ماكرون أن يكون مدير مكتب رئيس الحكومة المساعد اليميني فرنسوا فيّون. لكن عندما دخل هولاند قصر الإليزيه دخل معه وفي منصب بالغ الحساسية لأنه يشكل صلة الوصل بين الرئيس والخارج، ولأن كل الملفات تمر في مكتب أمين عام الرئاسة ونائبيه قبل أن تحط على مكتب الرئيس. وكانت مسؤولية ماكرون الملفات الاقتصادية والمالية البالغة الأهمية في عهد جديد يريد إصلاح الاقتصاد وإعادة إطلاق الدورة الاقتصادية والنمو الضروريين من أجل إيجاد فرص عمل، وخفض نسبة البطالة التي تبلغ في فرنسا نحو عشرة في المائة.
في يونيو (حزيران) عام 2014، أعلن الإليزيه تخلي ماكرون عن منصبه. والمرجح أن الأخير أصيب بخيبة أمل لأنه لم ينضم إلى حكومة مانويل فالس الأولى وزيرا. لكن حلمه أصبح واقعًا بعد أشهر قليلة في أعقاب استقالة وزير الاقتصاد أرنو مونتبورغ، أحد المتنافسين داخل الحزب الاشتراكي للفوز بالترشح للانتخابات الرئاسية. وبدخوله الوزارة، بات ماكرون أصغر وزير اقتصاد منذ أن تسلم هذه الحقيبة فاليري جيسكار ديستان (رئيس الجمهورية لاحقًا) في عام 1962، ومع وصوله، أدرك الفرنسيون أن هولاند اختار المنعطف الليبرالي اقتصاديا بالنظر لما هو معروف عن ماكرون. وبدت ملامح الليبرالية مع أول مشروع قانون قدّمه لمجلس الوزراء تحت عنوان: مشروع قانون من أجل النمو ودفع النشاطات وتساوي الفرص الاقتصادية. وفلسفة ماكرون الاقتصادية الليبرالية تدعو إلى رفع القيود عن الاقتصاد والتخفيف من وطأة القوانين التي تنظم العمل وشروطه. وكما حصل في كثير من البلدان الأوروبية كبريطانيا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، دعا الوزير الشاب إلى تسهيل تسريح العمالة من أجل توفير هامش من المناورة لأرباب العمل وتحديد سقف لتعويضات التسريح. وكذلك دافع عن حقوق أرباب العمل في أن يحصلوا على رواتب بالغة الارتفاع، وبعضها خيالي، مع تعويضات مالية لا تقل خيالية عند تركهم لمناصبهم في القطاع الخاص.
منافس من الداخل
وشيئا فشيئًا، بدا ماكرون منافسا جدّيا ليس للرئيس هولاند بل لرئيس الحكومة مانويل فالس؛ فنشبت بين الطرفين حرب مستترة، إذ هشّم ماكرون - الشاب الذي لم يبلغ الأربعين - صورة فالس الذي بدا إلى جانبه كهلاً. ثم جاءت «الموجة الماكرونية» التي دفعت وزير الاقتصاد إلى الواجهة بحيث أخذ يثير اهتمام الوسائل الإعلامية وأخذ اسمه يبرز في استطلاعات الرأي العام ما حفّزه على الأرجح لأن يلعب ورقته الخاصة بأن «يقتل» الأب ويراهن على حظوظه الشخصية. وفي 30 أغسطس (آب) الماضي، قدّم ماكرون استقالته إلى هولاند بعد أن اجتمع به في لقاء مغلق بقصر الإليزيه. ويومذاك حاول الرئيس الفرنسي ثنيه عن ذلك لكن ماكرون أصر على الاستقالة. ولمن اتهمه بالخيانة، رد بالقول إن هولاند كان «بحاجة إليه» أكثر مما كان هو بحاجة للرئيس. وبعكس ماكرون، حرص فالس الذي - بدوره - لا يخفي طموحاته الرئاسية على التأكيد في مناسبة ومن غير مناسبة أنه «مخلص» للرئيس، وأنه طالما الرئيس الفرنسي عازم على الترشح للانتخابات لولاية ثانية، فسيقف وراءه. لكن استطلاعات الرأي التي تبين تهاوي شعبية هولاند إلى الحضيض قد تدفع حلفاء رئيس الحكومة لحثه على الترشح والتنصل من عهوده للرئيس بحجة «إنقاذ» اليسار ومنع اليمين من الوصول إلى السلطة.
هل سيتقدم؟
الصورة لم تتضح حتى الآن. فالس متأرجح بين النعم واللا. لكن، في المقابل، التردد ليس سمة ماكرون الذي أحرز تقدما في تنظيم حركته «إلى الأمام»، وأخيرًا، بعد جولة موسعة على المناطق والمدن الفرنسية للتعرف على «حاجات» الفرنسيين ولبلورة برنامجه الانتخابي، عمد ماكرون إلى تعيين مجموعة من «السفراء» له حتى يكونوا الناطقين باسمه وحاملي أفكاره. ورغم غياب حظوظه الجدية بالفوز بالانتخابات المقبلة أو بالتأهل لجولتها الثانية الأخيرة، فإن ماكرون سيكون سمى له دورا وموقعا في الحياة السياسية الفرنسية في المقبل من السنوات.