إيمانويل ماكرون: «بروتوس» جديد في الحياة السياسية الفرنسية

سياسي واقتصادي مستقبلي متميز بـ«ليبراليته» وطموحه

إيمانويل ماكرون: «بروتوس» جديد في الحياة السياسية الفرنسية
TT

إيمانويل ماكرون: «بروتوس» جديد في الحياة السياسية الفرنسية

إيمانويل ماكرون: «بروتوس» جديد في الحياة السياسية الفرنسية

من الثابت أن إيمانويل ماكرون، النجم الصاعد في سماء فرنسا السياسية، لن يصبح رئيسا للجمهورية في شهر مايو (أيار) من العام المقبل. والمرجح أنه لو ترشح لهذا المنصب، فإنه لن يجتاز الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي تبين استطلاعات الرأي أن الهيمنة عليها ستعود لمرشح اليمين - الرئيس السابق نيكولا ساركوزي أو رئيس الحكومة الأسبق ألان جوبيه - من جهة، ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن من جهة أخرى. ولكن رغم ذلك كله، فإن الأنظار كلها منصبة على ماكرون الذي أطلق عليه الاشتراكيون الفرنسيون لقب «بروتوس» قاتل الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر عام 44 قبل المسيح. بروتوس، الذي كلّمه القيصر قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قائلا له: «حتى أنت يا بروتوس؟!» كان الابن غير الشرعي ليوليوس قيصر من عشيقته سرفيليا. وسياسيا، كان بروتوس صنيعة يديه لأنه مكّنه من الدخول إلى مجلس الشيوخ. لكن الوعود أغرت بروتوس بخيانة ولي نعمته فلم يرجف ذراعه عندما وجه ضربات نصله إلى «والده» القيصر.

إذا كان إيمانويل ماكرون قد «خان» ولي نعمته الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، فلأنه استقال من الحكومة الاشتراكية وأسس في الربيع الماضي حركة «إلى الأمام»، التي تحمل هيئة الحزب السياسي، مُخطِّطًا لها أن تكون منصته للوصول إلى المنصب الأعلى في الجمهورية الفرنسية.
حتى الآن، امتنع ماكرون - وهو وزير الاقتصاد السابق - عن الإعلان عن ترشحه الرئاسي وهي حال الرئيس هولاند نفسه، الذي قرّر تأجيل الكشف عن نياته إلى شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل. إلا أن الرئيس الحالي يجد نفسه في وضع صعب للغاية، فشعبيته وفق آخر استطلاع للرأي لم تعد تتجاوز الـ4 في المائة وهي نسبة حضيضية لم يهبط إليها أي من الذين سبقوه إلى قصر الإليزيه منذ تأسيس «الجمهورية الخامسة» على يدي الرئيس الجنرال شارل ديغول في 4 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1958. لكن المؤشرات كلها تدل على أن ماكرون سائر في مشروعه السياسي الذي سيقوده لا محالة إلى المنافسة الرئاسية سواءً ترشح هولاند أم لم يترشح. ذلك أنه منذ خروجه من الحكومة، دأب وزير الاقتصاد السابق على انتقاد عهد هولاند متهما إياه بـ«الميوعة»، وبالتراجع عن تطبيق الإصلاحات الجذرية التي تحتاجها فرنسا، مع العلم أنه كان طيلة سنتين «مشاركا» في عمل الحكومة. وبالتالي، يمكن اعتباره، سياسيا ومعنويًا، مسؤولاً عن الفشل إذا كان هناك فشل.. وشريكًا في النجاح في حال أفضت السياسة المتبعة إلى نجاح ما.
مقابل «بروتوس - ماكرون» الخائن، يلبس رئيس الجمهورية صورة المسؤول «الساذج». فعلى الرغم من التحذيرات التي جاءته من أكثر من مصدر، قال هولاند علنا إنه «يثق» بولاء ماكرون لأنه «يدين له بكل شيء». والحال أن الأول قتل «الأب» سياسيا، بحسب نظرية مؤسس علم النفس سيغموند فرويد. وظاهرة «القتل السياسي» تقليد شائع ولا يعرف الحدود والعصور. ألم يعتد بعض سلاطين الخلافة العثمانية قتل أبنائهم مخافة أن ينازعوهم السلطة؟
لا يسار ولا يمين
إيمانويل ماكرون، الرجل الذي ما زال دون الأربعين، يريد أن يكون «ظاهرة» الحياة السياسية الفرنسية. وهو يقول إنه لا ينتمي لا إلى اليمين ولا إلى اليسار بل يريد تخطي «الثنائية القطبية» التي يرى أنها لم تعد تتوافق مع العصر الحالي. إنه عازم على «تحريك الخطوط» السياسية ولو كان حتى الآن لم يكشف عن برنامج سياسي أو اقتصادي.
من ناحية ثانية، لم يسبق لماكرون أن عرف الانتخابات لا المحلية ولا النيابية، وهو يثير الفضول والاهتمام في حله وترحاله، ويريد أن يزحزح الجبال من أماكنها، مراهنًا على إعادة الأمل إلى الفرنسيين. شعار ماكرون: «التغيير والحداثة ومجاراة العصر والانتقال من حال إلى حال».
هل هو حقيقة «وعد» بفرنسا أفضل؟ أم أن «بروتوس» الحياة السياسية الفرنسية الشاب فقاعة صابون ستقضي عليها أول هبة ريح؟ هذا هو السؤال.
من هو ماكرون؟
حتى 15 مايو (أيار) من العام 2012، أي حتى انتخاب فرنسوا هولاند الاشتراكي رئيسا للجمهورية، لم يكن الجمهور الفرنسي قد سمع باسم إيمانويل ماكرون. فهذا الشاب الذي عينه هولاند مساعدا لأمين عام قصر الإليزيه يدين بمنصبه للرئيس الجديد ولدعم بعض الأطراف المحيطين بالرئيس ومنهم جاك أتالي، مستشار الرئيس الاشتراكي الأسبق فرنسوا ميتران. وأتالي - الجزائري المولد - معروف عنه أنه أحد «رجال الظل» الأكثر تأثيرا في دوائر قرار الحزب الاشتراكي. وكما زكّى تعيين ماكرون في الأمانة العامة، سبق له أن اقترح اسمه للدخول إلى مصرف روتشيلد المعروف بصفته مصرفا لإدارة الثروات الخاصة وبنك أعمال. وما بين العامين 2010 و2012 - أي حتى تاريخ دخوله قصر الإليزيه - يقرّ ماكرون أنه كسب مليوني يورو، أي ما يكسبه موظف مبتدئ خلال 128 سنة. ويقول عنه فرنسوا هنرو، وهو المسؤول الذي أدخله إلى بنك روتشيلد، إنه لو بقي في منصبه لكان أصبح «أفضل المصرفيين في فرنسا لا بل في أوروبا».
كغالبية النخبة الفرنسية، سلك إيمانويل ماكرون، وهو ابن عائلة تتحدر من مدينة أميان، بشمال فرنسا، مسار أقرانه التعليمي والإداري. والده طبيب أعصاب معروف وأستاذ جامعي وأمه أيضا طبيبة كانت تعمل مستشارة للضمان الاجتماعي. أما سنوات دراسته الأولى فأمضاها ماكرون في مدينته أميان بمدرسة خاصة تابعة لليسوعيين. إلا أنه انتقل إلى باريس في نهاية مرحلته الثانوية حيث التحق بإحدى أشهر مدارس العاصمة الرسمية، وهي ليسيه هنري الرابع، ومنها انتقل إلى معهد العلوم السياسية Sciences Po المرموق في العاصمة قبل أن ينضم إلى المعهد الوطني للإدارة ENA الذي هو «المصهر» الذي يخرّج النخبة المتميزة والمدخل إلى الوظائف العليا في الدولة أو في القطاع الخاص.
بيد أن ماكرون «متميز» عن غيره. فإلى جانب دروسه السياسية والإدارية كان يهتم بالآداب والعلوم الاجتماعية، وهو حاصل فيها على شهادات عليا. وبموازاة ذلك، هو عازف بيانو متمرّس إذ درس الموسيقى طيلة عشر سنوات ومارس رياضة الملاكمة. وبما أنه يريد التميز في كل شيء فقد تزوج بريجيت، التي كانت أستاذته لمادة الآداب الفرنسية وتكبره بـ24 سنة. وصور الزوجين إيمانويل وبريجيت معروضة على أغلفة المجلات الاجتماعية التي تهتم بالمشاهير وهو أحدها. فاليوم، هناك حالة نفسية عامة في فرنسا تسمى «الماكرومانيا»، أي الهوس بوزير الاقتصاد السابق الذي يتبنى رؤية ليبرالية للاقتصاد والذي يرى أنه يتوجب القيام بعملية إصلاح جذرية للاقتصاد والمجتمع الفرنسي. ويأخذ على الرئيس هولاند، وهو كان وزيره طيلة سنتين، أنه لم يذهب بالإصلاحات حتى نهاياتها، بل تردد وتراجع، وفي النهاية فشل.
عضوية الحزب الاشتراكي
عند تخرجه، التحق ماكرون بإدارة التفتيش المالي حيث أمضى ست سنوات. وسياسيا، انضم ماكرون إلى الحزب الاشتراكي ما بين عام 2006 و2009، لكنه لاحقًا تخلى عنه رغم بقائه في دائرة اليسار. وفي عام 2006، التقى للمرة الأولى فرنسوا هولاند عبر وسيط هو جان بيار جوييه، الوزير السابق والأمين العام الحالي للرئاسة. وعندما أعلن هولاند في عام 2010 خوض المنافسة الداخلية للحزب الاشتراكي ليفوز بترشيحه للانتخابات الرئاسية وقف ماكرون إلى جانبه، كما كان قد وقف إلى جانب سيغولين رويال، رفيقة درب هولاند السابقة عندما كانت مرشحة اليسار بمواجهة الرئيس نيكولا ساركوزي في عام 2007.
وأشرف ماكرون على مجموعة من الاقتصاديين لتوفير الأفكار والمشاريع والإصلاحات للمرشح هولاند الذي كان يلتقيها مرتين في الشهر. وبسبب هذه القرابة، كان من الطبيعي أن يستدعي هولاند، بعد فوزه، الشاب ماكرون (35 سنة) لتسليمه أحد المناصب الرئيسية في قصر الرئاسة. وقبل سنتين، رفض ماكرون أن يكون مدير مكتب رئيس الحكومة المساعد اليميني فرنسوا فيّون. لكن عندما دخل هولاند قصر الإليزيه دخل معه وفي منصب بالغ الحساسية لأنه يشكل صلة الوصل بين الرئيس والخارج، ولأن كل الملفات تمر في مكتب أمين عام الرئاسة ونائبيه قبل أن تحط على مكتب الرئيس. وكانت مسؤولية ماكرون الملفات الاقتصادية والمالية البالغة الأهمية في عهد جديد يريد إصلاح الاقتصاد وإعادة إطلاق الدورة الاقتصادية والنمو الضروريين من أجل إيجاد فرص عمل، وخفض نسبة البطالة التي تبلغ في فرنسا نحو عشرة في المائة.
في يونيو (حزيران) عام 2014، أعلن الإليزيه تخلي ماكرون عن منصبه. والمرجح أن الأخير أصيب بخيبة أمل لأنه لم ينضم إلى حكومة مانويل فالس الأولى وزيرا. لكن حلمه أصبح واقعًا بعد أشهر قليلة في أعقاب استقالة وزير الاقتصاد أرنو مونتبورغ، أحد المتنافسين داخل الحزب الاشتراكي للفوز بالترشح للانتخابات الرئاسية. وبدخوله الوزارة، بات ماكرون أصغر وزير اقتصاد منذ أن تسلم هذه الحقيبة فاليري جيسكار ديستان (رئيس الجمهورية لاحقًا) في عام 1962، ومع وصوله، أدرك الفرنسيون أن هولاند اختار المنعطف الليبرالي اقتصاديا بالنظر لما هو معروف عن ماكرون. وبدت ملامح الليبرالية مع أول مشروع قانون قدّمه لمجلس الوزراء تحت عنوان: مشروع قانون من أجل النمو ودفع النشاطات وتساوي الفرص الاقتصادية. وفلسفة ماكرون الاقتصادية الليبرالية تدعو إلى رفع القيود عن الاقتصاد والتخفيف من وطأة القوانين التي تنظم العمل وشروطه. وكما حصل في كثير من البلدان الأوروبية كبريطانيا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، دعا الوزير الشاب إلى تسهيل تسريح العمالة من أجل توفير هامش من المناورة لأرباب العمل وتحديد سقف لتعويضات التسريح. وكذلك دافع عن حقوق أرباب العمل في أن يحصلوا على رواتب بالغة الارتفاع، وبعضها خيالي، مع تعويضات مالية لا تقل خيالية عند تركهم لمناصبهم في القطاع الخاص.
منافس من الداخل
وشيئا فشيئًا، بدا ماكرون منافسا جدّيا ليس للرئيس هولاند بل لرئيس الحكومة مانويل فالس؛ فنشبت بين الطرفين حرب مستترة، إذ هشّم ماكرون - الشاب الذي لم يبلغ الأربعين - صورة فالس الذي بدا إلى جانبه كهلاً. ثم جاءت «الموجة الماكرونية» التي دفعت وزير الاقتصاد إلى الواجهة بحيث أخذ يثير اهتمام الوسائل الإعلامية وأخذ اسمه يبرز في استطلاعات الرأي العام ما حفّزه على الأرجح لأن يلعب ورقته الخاصة بأن «يقتل» الأب ويراهن على حظوظه الشخصية. وفي 30 أغسطس (آب) الماضي، قدّم ماكرون استقالته إلى هولاند بعد أن اجتمع به في لقاء مغلق بقصر الإليزيه. ويومذاك حاول الرئيس الفرنسي ثنيه عن ذلك لكن ماكرون أصر على الاستقالة. ولمن اتهمه بالخيانة، رد بالقول إن هولاند كان «بحاجة إليه» أكثر مما كان هو بحاجة للرئيس. وبعكس ماكرون، حرص فالس الذي - بدوره - لا يخفي طموحاته الرئاسية على التأكيد في مناسبة ومن غير مناسبة أنه «مخلص» للرئيس، وأنه طالما الرئيس الفرنسي عازم على الترشح للانتخابات لولاية ثانية، فسيقف وراءه. لكن استطلاعات الرأي التي تبين تهاوي شعبية هولاند إلى الحضيض قد تدفع حلفاء رئيس الحكومة لحثه على الترشح والتنصل من عهوده للرئيس بحجة «إنقاذ» اليسار ومنع اليمين من الوصول إلى السلطة.
هل سيتقدم؟
الصورة لم تتضح حتى الآن. فالس متأرجح بين النعم واللا. لكن، في المقابل، التردد ليس سمة ماكرون الذي أحرز تقدما في تنظيم حركته «إلى الأمام»، وأخيرًا، بعد جولة موسعة على المناطق والمدن الفرنسية للتعرف على «حاجات» الفرنسيين ولبلورة برنامجه الانتخابي، عمد ماكرون إلى تعيين مجموعة من «السفراء» له حتى يكونوا الناطقين باسمه وحاملي أفكاره. ورغم غياب حظوظه الجدية بالفوز بالانتخابات المقبلة أو بالتأهل لجولتها الثانية الأخيرة، فإن ماكرون سيكون سمى له دورا وموقعا في الحياة السياسية الفرنسية في المقبل من السنوات.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».