ليبيا.. العودة إلى «المربع صفر»

البحث عن حكومة جديدة لتوحيد المؤسسات المنقسمة على نفسها

ليبيا.. العودة إلى «المربع صفر»
TT

ليبيا.. العودة إلى «المربع صفر»

ليبيا.. العودة إلى «المربع صفر»

عادت محاولات التوصل إلى توافق بين الليبيين إلى «المربع صفر». ويجري حاليا البحث عن حكومة جديدة لتوحيد المؤسسات المنقسمة على نفسها. وتشهد العاصمة طرابلس استنفارا بين الميليشيات بعد نحو أسبوع على إعلان «حكومة الإنقاذ» برئاسة خليفة الغويل العودة للعمل، في أقوى تحدٍ للمجلس الرئاسي وحكومته برئاسة فايز السراج المدعوم من الأمم المتحدة. ويبدو مستقبل طرابلس غامضا مع توجه عدة ميليشيات موالية للسراج لمواجهة الميليشيات التي وقفت وراء الغويل معتبرة ما قام به هذا الأخير «انقلابا». لكن مجموعة الغويل بدأت هي الأخرى في اتخاذ إجراءات لترسيخ سياسة الأمر الواقع، فقد دعت البرلمان للحوار ودعت الحكومة المنبثقة عنه، المعروفة باسم الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الله الثني، للتوافق.
من خلال اللقاءات التي أجريت على عجل في المنطقة الشرقية من ليبيا والبرلمان الذي يعقد فيها، بدا أنه لا توجد بعد تلك الثقة الكاملة في قدرة خليفة الغويل، رئيس ما يسمى «حكومة الإنقاذ»، على بسط سلطانه على العاصمة طرابلس، خصوصا بعد أن قام فايز السراج، رئيس حكومة المجلس الرئاسي المدعومة دوليًا، خلال اليومين الماضيين بجولة في طرابلس التقى خلالها شخصيات أمنية وعسكرية. ومن ثم حصوله على دعم دولي جديد، حتى لو كان من خلال التصريحات التي أطلقها بعض زعماء الدول خصوصا «مجموعة دول جوار ليبيا» في اجتماعها الأخير في مدينة نيامي عاصمة النيجر.
مع ذلك، يبقى الشأن الليبي في أيدي الليبيين أنفسهم رغم أي طموحات دولية. ويقول نائب رئيس الوزراء الليبي الأسبق، الطيب الصافي، لـ«الشرق الأوسط»، إنه ينبغي على رئيس مجلس النواب (البرلمان) عقيلة صالح، التدخل بشكل عاجل لتوحيد المؤسسات الليبية من الحكومة إلى مؤسسات النفط والبنك المركزي. ومن جانبه، يتحدث لـ«الشرق الأوسط»، إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان الذي يضطر لعقد جلساته في طبرق منذ عام 2014، بثقة كبيرة عن أن المرحلة الجديدة في ليبيا ستكون في أيدي الليبيين، وليس المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر. وكان كوبلر يشرف على الحوار بين عدد من الأطراف الليبية، وتمكن في ديسمبر (كانون الأول) الماضي من إعلان توافق بين هذه الأطراف في مفاوضات احتضنتها مدينة الصخيرات المغربية. ونتج عن الصخيرات مجلس السراج الرئاسي وحكومته التي ما زالت تراوح مكانها بسبب رفض برلمان صالح منحها الثقة.

مرحلة الصخيرات
يعلن السراج في الاجتماعات التي حضرها مع شخصيات عسكرية وأمنية في العاصمة أنه مستمر في مزاولة أعماله، وأنه سيتخذ إجراءات سريعة لإثبات وجود حكومته في العاصمة وفي عموم البلاد، والتواصل مع باقي الخصوم. لكن عميش يرد بشكل قاطع قائلا إن مرحلة اتفاق الصخيرات انتهت، وإن «الحوار الليبي - الليبي» بدأ، و«أنا مستعد للمغادرة إلى طرابلس لبحث الأمر مع المؤتمر الوطني (جماعة الغويل)».
وموقف رئيس لجنة العدل والمصالحة هذا يدعمه عدد كبير من نواب البرلمان الذين كان لهم موقف سابق من رفض حكومة السراج. وهم في الوقت الراهن يمدون خيوط التواصل بالفعل مع حكومة الغويل. لكن الأمر ربما لن يكون بتلك البساطة. فمن جانبه، بعثت أطراف في البرلمان ما يمكن تسميته «كشافين» إلى العاصمة للاطلاع على الحالة الأمنية فيها، وعلى موازين القوى التي تسيطر على الشارع، وما إذا كانت الغلبة للسراج أم للغويل.
وشعر كثير من نواب البرلمان، الذي يرأسه المستشار صالح، بارتياح ملحوظ لما قاله كوبلر قبل أيام من أنه ينبغي إيجاد حل لكيفية إنشاء جيش موحّد على أن يكون تحت إمرة قائد الجيش الوطني الجنرال خليفة حفتر، بشرط أن تكون القيادة العليا للجيش بيد المجلس الرئاسي. وفي المقابل رد قادة مقربون من السراج بغضب على ما قاله كوبلر. وقام السراج نفسه مع قيادات، مثل عبد الرحمن السويحلي رئيس مجلس الدولة، بالاجتماع مع ضباط من الجيش ليسوا ممن يأتمرون بأوامر حفتر. وشن عدد من هؤلاء الضباط هجوما لاذعا على الجنرال الذي يتخذ من منطقة الرجمة القريبة من بنغازي مقرا له.
ووفقا لمصادر حضرت اجتماع طرابلس، فقد كان هناك «ضباط من أبناء المنطقة الغربية من طرابلس وما حولها، وضباط من الشرق الليبي ممن يقيمون منذ زمن في العاصمة وفي بلدات أخرى في غرب البلاد». إلا أن مجموعة الضباط المشار إليها لا يبدو أنها تملك تلك القوة التي يمكن من خلالها تقديم أي دعم يذكر للسراج وجماعة اتفاق الصخيرات. وعموما لا تقارن إمكانيات الضباط الذين شاركوا في الاجتماع في قاعة فندق المهير بالعاصمة، مع إمكانيات الميليشيات من حيث عدد العناصر المقاتلة والتسليح.
وترفض قوى في الشرق ترك القيادة العليا للجيش للسراج، كما يريد كوبلر. وترى في المقابل أن القيادة العليا للجيش ينبغي أن تستمر في يد رئيس البرلمان المستشار صالح، وفقا لما ينص عليه الإعلان الدستوري المعمول به منذ سقوط نظام معمر القذافي. أو كما يقول عميش: «أمور الليبيين يجب أن يقررها الليبيون. يكفي ما أصابنا من عثرات بسبب مبعوث الأمم المتحدة، السيد كوبلر. اتفاق الصخيرات، بمخرجاته، أصبح من الماضي، والآن نفتح ملف الحوار مع المؤتمر الوطني ومع حكومة الغويل».

لا اتفاق مع كوبلر
مع ذلك لا يوجد اتفاق كبير بين بعض القيادات السياسية الموالية لحفتر تجاه ما قاله كوبلر عن إيجاد دور للجنرال على رأس جيش موحّد في المرحلة المقبلة. هناك من يرى أنه موقف إيجابي من كوبلر وهناك من يرى أنه «تدخل سافر من كوبلر في سلسلة تدخلاته في الشأن الليبي»، وخطوة لإرباك المشهد، أو كما يقول عميش: «حين يأتي كوبلر اليوم ليفرض ويتحدث في هذا الموضوع يمكن أن يخلق فتنة ويعقد العملية أكبر مما هي عليه». ومن جانبه، رفض مجلس السراج طرح كوبلر بشأن حفتر بطريقة غير مباشرة وذلك عن طريق اجتماعه أخيرا مع ضباط من الجيش في المنطقة الغربية، وكأنه يريد أن يقول إنه يوجد جيش هنا أيضا يمكن التعويل عليه في المعادلة.
عمومًا، تبدو حكومة السراج المقترحة وكأنها قد تعلمت الدرس مما قام به رئيس حكومة الإنقاذ. وهي تريد أن تصلح كثيرا من الملفات العالقة، وإزالة العراقيل التي تفاقم الأزمة الأمنية والاقتصادية ليس في طرابلس فقط، ولكن في عموم البلاد. ويقول الدكتور عارف الخوجة، وزير الداخلية في حكومة السراج، لـ«الشرق الأوسط»، في لقاء معه: «فلنعمل بكل قوة، وبتعاون كل القوى الوطنية سواء من خلال قوى رسمية أو غير رسمية لحلحلة الموضوع من خلال مشروع عام لكل المؤسسات وليس فقط مؤسسة وزارة الداخلية»، في إشارة إلى ما أعلنه السراج في لقائه مع قيادات الوزارة قبل يومين، من أنه لا بد من إصلاح وزارات الحكومة.

أخطاء السراج
من الأخطاء التي ارتكبها السراج وأدت إلى عودة حكومة الغويل، تركه للأمور في طرابلس بما فيها من هشاشة دون حسم الموضوع منذ البداية. فوفقًا لمصادر في المجلس الرئاسي، كان الغويل يلتقي دبلوماسيين أجانب في العاصمة باعتباره رئيس حكومة الإنقاذ على الرغم من أن العالم يعترف بحكومة السراج ويدعمها. ومن الأخطاء أيضا عدم حسم قضية الميليشيات والمجاميع المسلحة في طرابلس. ومن بينها ميليشيات ومجاميع مسلحة دعمت عودة الغويل بعد أن كان الاعتقاد يسود بأنها موالية للسراج.
ولكن رغم التربص والتحركات المريبة لكثير من الميليشيات التي تمتلئ بها طرابلس، فإن السراج يبدو متماسكا. وهو ما زال يسيطر وما زال يدير الأمور، والعاصمة تبدو هادئة. إلا أن هذا الواقع يدفع كلا من جماعة المؤتمر الوطني العام في طرابلس وجماعة البرلمان في طبرق، للضرب بقوة من أجل استثمار العاصفة التي أثارها الغويل. ويقول عميش: «يكفينا أنه أصبح يوجد تغير في السياسة الدولية فيما يتعلق بعدة ترتيبات لم تكن مطروحة من قبل».
وبينما يستمر التجاذب السياسي وتستمر محاولات التوافق مرة هنا ومرة هناك، يبدو أن البلاد تسير في حلقة مفرغة، أثرت بالسلب على الحالة الأمنية المنفلتة، وبخاصة عقب اقتحام مقر المخابرات في طرابلس على يد إحدى الميليشيات، وانتشار حالات الخطف والتصفية الجسدية في الشارع. كما أثرت هذه الأوضاع بالسلب على اقتصاد الدولة التي تعد من أغنى الدول الأفريقية بالنفط. ورغم تعدد الحكومات، فإن معظم المواطنين لا يجدون الأموال في المصارف، والرواتب تتأخر لعدة أشهر، بالإضافة إلى نقص حاد في السلع الأساسية والخدمات، مثل الكهرباء والمياه وغيرها.
وعن رؤيته للتطورات في ليبيا بعد ما قام به الغويل على الساحة السياسية والتنفيذية من خلال إعلانه الاستمرار في العمل رئيسا لحكومة الإنقاذ، يوضح الطيب الصافي: «ما أريد أن أقوله إننا في ليبيا لسنا مع تعدد الحكومات. تعدد الحكومات ظاهرة سلبية. حكومة الغويل وحكومة الثني وحكومة السراج.. أصبح لدينا مصرفان مركزيان ومؤسستان للنفط، ومؤسستان ليبيتان للاستثمار. هذه لها آثار سلبية وربما آثارها السلبية أكثر من إيجابياتها. أنا أدعو الجميع إلى أن نوحد جهودنا، وهذه الدعوة أوجهها للسيد المستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب بأن يتبنى توحيد كل الإطارات الليبية من الحكومة إلى المصرف المركزي إلى المؤسسة الليبية للاستثمار إلى المؤسسة الوطنية للنفط».

المؤتمر الوطني العام
وعن دعوة رئيس حكومة الإنقاذ للحوار مع حكومة عبد الله الثني، والحوار بين المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق) والبرلمان الحالي، يقول الصافي إنه عندما تتحدث عن المبادرة التي طرحها السيد الغويل، «نعتبرها شيئا من التفكير بصوت عال وتفكيرا إيجابيا، ويجب أن ينسق مع إخوته في البرلمان، وأن يحيل هذه المقترحات للمستشار عقيلة صالح وأن يكون البرلمان هو من يتبنى مثل هذه المقترحات».
ويضيف الصافي أن أي تبن لأي حكومة جديدة يجب أن يمر من خلال البرلمان.. «نحن صراحة نتطلع إلى حكومة كفاءات وليس إلى حكومة محاصصة. أنت تعلم ظروف ليبيا الآن ظروفها السياسية وظروفها الاقتصادية وظروفها التنموية. البلد الآن يحتاج إلى إنقاذ، وإلى كفاءات، وإلى أناس لديهم القدرة والكفاءة على تناول كثير من الملفات الشائكة مثل ملف الصحة وملف التعليم والنفط والإنتاج والخدمات والاستثمار وغيرها».
ومن جانبه، يجيب عميش عما إذا كان ما قام به الغويل يمكن أن يتوافق مع البرلمان ومع حكومة الثني، بقوله إن الحوار قائم بين الطرفين.. كل ما حدث هو أننا عدنا لموضع الحوار الليبي الليبي. وإلى المسودة التي جرى إعدادها مع قيادات المؤتمر الوطني، في إشارة إلى الاتفاق المبدئي الذي توصل إليه مندوب البرلمان، عميش نفسه، ومندوب المؤتمر الوطني، الدكتور عوض عبد الصادق، نائب رئيس المؤتمر، التي بدأت لأول مرة في أواخر العام الماضي، وكانت محل اعتراض من كوبلر ومن أطراف دولية.
وقبل أيام من عودة الغويل والمؤتمر الوطني للواجهة أجرت «الشرق الأوسط» مقابلة مع الدكتور عبد الصادق، تحدث فيها عن العراقيل التي تعرضت لها محاولته مع النائب عميش لبدء حوار ليبي ليبي بدلا من حوار الصخيرات. ويقول: «للأسف نحن تم التضييق علينا (في المؤتمر الوطني) من المجتمع الدولي، منذ البداية.. المجتمع الدولي اعترف بالبرلمان وأغلق الباب في وجهنا». وتطرق أيضا إلى أسباب فشل المجلس الرئاسي في حل كثير من الملفات، ويقول إن من بين هذه الأسباب أن المجلس تم تكوينه بطريقة يصعب معها العمل.. «مجلس يتكون من تسعة أشخاص هؤلاء التسعة يمثلون ربما أجندات مختلة ويمثلون أفكارا فيها عدم التجانس وعدم التطابق»، بالإضافة إلى أن المجلس الرئاسي وحكومته «لم ينتج عن توافق حقيقي على الأرض، وإلا لكان تمكن من الحصول على دعم من قبل كل الشرفاء وكل الوطنيين لإنجاحه، ولكن هذا المجلس من البداية أصبح فيه غلبة لتيار.. أو لطيف معين».
ويضيف الدكتور عبد الصادق موضحًا أن المؤتمر الوطني لم يوافق منذ البداية على اتفاق الصخيرات، وأن ما حدث هو أن «هناك تيارا يمثل (الإخوان المسلمين) هو من ادعى أنه يمثل المؤتمر الوطني وذهب إلى الصخيرات ووقع على الاتفاق، وبالتالي خلق خللا حتى داخل طرابلس العاصمة وكذلك في المنطقة الشرقية، والآن ما نراه هو أن مجلس النواب لم يوافق على حكومة هذا المجلس، ولم يوافق على أعضائه بالكامل، ويرغب في العودة إلى المسودة الرابعة ليكون المجلس الرئاسي من رئيس ونائبين».
ويلخص عبد الصادق القضية بقوله إن «الإشكالية السياسية حدثت في ليبيا ما بين المؤتمر الوطني العام وما بين مجلس النواب ومن يريد أن يقفز على الحل أطراف بعيدة عن المؤتمر الوطني وبعيدة عن مجلس النواب»، لافتا إلى أن أسباب المشكلة في ليبيا كثيرة، منها أن «الأمم المتحدة لم تجد الحل بالطريقة الصحيحة والسليمة، وأن أطرافا دولية، وربما دول إقليمية، عندها مخاوف من تيارات معينة ربما قفزت وأصبحت في هرم السلطة من جديد. لكن هذه التيارات ستُبعد عن المشهد وسيكون هناك دور للشرفاء الوطنيين الذين لا يحملون أجندات سياسية إلا أجندة ليبيا والوطن وبناء ليبيا في محيط عربي ومحيط إقليمي يعمل على أن تكون شريك خير يستفيد بوصفه بلدا وتستفيد كل الدول المحيطة به».
وفي سؤال للنائب عميش بشأن ما إذا كان يخشى أن يكون هناك عقبات جديدة في الحوار مع المؤتمر الوطني حول شخصية المشير حفتر، يجيب قائلا: «لا.. أعتقد أننا كنا قد وصلنا في السابق إلى أننا لا نتحدث عن أشخاص وشخصيات، ولكن نتحدث عن مؤسسة عسكرية لا بد أن تكون باقية. وحين تحدثنا عن هذا الموضوع (مع المؤتمر الوطني) قلنا إن القضية تتعلق بالعسكريين وبالمؤسسة العسكرية، وإن هذا الأمر ليس من اختصاصنا نحن الآن. نحن يمكن أن نتحدث عن حرب في بنغازي أو عن إرهاب في المكان الفلاني، وعن سرت.. من الممكن أن نتحدث عن هذه القضايا وعن أسرى موجودين لدى الطرفين وعن تهدئة يمكن أن تتم حتى يتم حوار صحيح».
أما الدكتور عبد الصادق فيرد قائلا عن موقف المؤتمر الوطني من الجيش الوطني الليبي وقائده المشير حفتر: «نحن نسعى إلى إقامة مؤسسات أمنية عسكرية بالطريقة الصحيحة.. نسعى إلى إقامة جيش وطني.. لا يمكن لبلد أن تستمر بهذه الطريقة. نحن نسعى إلى إقامة مؤسسة شرطة وغيرها من كل المؤسسات الأمنية التي لا تقوم أي دولة الآن في العالم إلا على هذه المؤسسات. لكن أي شخصيات جدلية أو أي شخصيات، فنحن مستعدون أن نبحث (في أمر) هذه الشخصيات».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.