هل يمكن للقصيدة أن تصل إلى أماكن لا يمكن أن يصل إليها النثر؟ هذا ما يؤمن به، وفعله، منظمو اليوم الوطني للشعر في بريطانيا، أو فلنقل عشاق الشعر المجاهدون في زمن النثر، في تجارب غير مسبوقة.
فمن كان يتصور، في عصرنا هذا، أن حمامًا زاجلاً يمكن أن يطير في سماء لندن وهو محمل بالقصائد في تجربة مبتكرة هي الأولى من نوعها في العالم؟ هذا ما فعلوه يوم الخميس الماضي، يوم الشعر الوطني، في أماكن كثيرة بلندن. حمام زاجل كنا نتصور أنه انقرض منذ زمن بعيد جدًا، وها هو يعود محملاً هذه المرة بقصائد تهبط فجأة من السماء لتحط فوق أرصفة الأرض المكتظة بالبشر العابرين. لم يكتفِ بذلك عشاق الكلمات، بل طبعوا حتى على محافظ تذاكر القطارات في كنجز كروس، وهي أكبر محطة نقل داخلي وخارجي، تزدحم بالآلاف المؤلفة كل يوم، شعار اليوم الوطني للشعر لتستقر في جيوب المسافرين، ونظمت في أركان هذه المحطة الهائلة قراءات شعرية، فتحولت إلى ما يشبه قاعة شعرية، كأنها تقول للبشر المسرعين نحو الخبز والمؤونة، إذا استعرنا كلمات صلاح عبد الصبور، تذكروا أن هناك شعرًا في هذه الحياة. لم يكتفِ عشاق الشعر هؤلاء بذلك. بل جعلوا حتى المعالم الأثرية والتاريخية تنطق شعرًا عبر 40 شاعرًا. كل في مدينته. تحدثت هذه المعالم عن نفسها بالشعر، وعرفت أيضًا شعراءها، الذين ربما لم تعرفهم من قبل. دع مدينتك تعرفك أولاً، وحينها سيعرفك العالم. وهو درس لكل أولئك الكتاب، وخصوصًا أولئك الذين يبحثون واهمين عما يسمى بـ«العالمية». لكن الشاعر الحقيقي، أو الكاتب الحقيقي، هو، كما يقول دبليو. إتش. أودن، يريد أولاً، مثل جبن الوادي، أن يكون محليًا، ثم تأتي الجائزة لاحقًا من مكان آخر.
لم يكتفِ منظمو يوم الشعر الوطني بذلك. بل «طاردوا» حتى أولئك الناس المشغولين بجوالاتهم الذكية، الساهين عن أنفسهم والعالم، طالبين منهم أن يبدأوا رسائلهم لأصدقائهم وأحبائهم ببيت شعر، بدل «شكرًا» و«آسف» و«أحبك». وكان هناك الأطفال أيضًا. مسابقات شعرية، وقراءات، بالاشتراك مع المشروع الإسباني الشعري، الذي حضر ممثلوه إلى العاصمة البريطانية خصيصًا للاشتراك بالمناسبة. والأجمل، هي تلك الفعاليات التي نظمت وقت الفطور في مطاعم وفنادق في العاصمة البريطانية. هل هناك في الدنيا أجمل من أن تفتتح يومك على صوت فتاة عذب يقرأ لك قصيدة من كيتس أو تشيلي، أو بايرون، أو أليوت، أو تيد هيوز؟
وتوجت هذه الاحتفالات بقراءة الأمير فيليب تشارلز قصيدة للشاعر الآيرلندي الراحل شيموس هيني، الحاصل على نوبل للآداب عام 1995، التي نقلتها كل المحطات البريطانية والمواقع الثقافية بصوته. وهذا ليس قليلاً من ملك بريطانيا العظمى المقبل، خصوصًا أن هيني، المولود في آيرلندا الشمالية، قد رفض من قبل وبشدة حمل جواز بريطاني، مفضلاً عليه جواز آيرلندا الجنوبية، التي عاش فيها معظم حياته.
ومعظم هذه الفعاليات كانت تنقلها «بي بي سي» عبر قنواتها المتعددة إلى كل مناطق بريطانيا.
إذن، هل الشعر بخير؟ وهل وصلت «القصيدة» إلى أماكن لا يمكن أن يصلها النثر؟
لا يمكن أن نقول ذلك. إننا نعيش زمن النثر، وقراء الشعر يتقلصون لأسباب تتعلق بالعصر الذي نعيش. هذه حقيقة، ولكنها ليست حقيقة مطلقة لا يمكن تغييرها. إذا لم يذهب الناس إلى الشعر، فليذهب الشعر إلى الناس، وهذا ما حاول فعله شعراء ومثقفو هذا البلد في «جهادهم» الشعري.
ولكن هذا الاحتفال ما كان ممكنًا لولا الجو الثقافي العام في بريطانيا. فهناك مجلات شعرية لا تزال تصدر، معتمدة إلى حد كبير على الاشتراكات والتبرعات، وهناك دار عريقة متخصصة بطباعة الشعر فقط، مثل «بلودأكس»، وهي لا تزال نشطة في هذا المجال، بالإضافة إلى الدور العريقة مثل دار «بنغوين»، و«ليبر آند ليبر»، التي لم تتوقف مرة واحدة طوال تاريخها العريق، بحجة قوانين السوق، عن طباعة الشعر، كما يفعل قسم من ناشرينا العرب للأسف، إلا إذا دفعت لجيوبهم المفتوحة دائمًا التسعيرة المطلوبة، ولا يهم بعد ذلك أن يتراكم هذا «الشعر المدفوع الثمن» على الأرصفة.
فليذهب الشعر إلى الناس
فليذهب الشعر إلى الناس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة