تشومسكي: تصنيع الموافقة وتهميش المقاومة

5 عقود من النشاط السياسي الميداني

نعوم تشومسكي
نعوم تشومسكي
TT
20

تشومسكي: تصنيع الموافقة وتهميش المقاومة

نعوم تشومسكي
نعوم تشومسكي

عبر عشرات الكتب ومئات المحاضرات والندوات والمناظرات، وعلى مدى نحو خمسة عقود من النشاط الميداني الذي تضمن المشاركة في المظاهرات والرحلات، يقف عالم اللغة والكاتب السياسي نعوم تشومسكي، الأستاذ في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، دون موازٍ تقريبًا في سعة الانتشار وحجم التأثير. والحديث هنا ليس عن تشومسكي عالم اللغة ومبتدع النحو التوليدي أو العام وإنما تشومسكي الناشط والمؤلف السياسي، أي الكاتب الذي لا يهتم به اللغويون وطلاب اللسانيات من حيث هم معنيون باللغة وعلومها، وإنما يعرفه القارئ العام المعني بالشأن السياسي المعاصر. وتشومسكي في صورته هذه يبدو أحد أكثر المعاصرين تمثيلاً لوضع المثقف الذي يقول الحق في وجه القوة، حسب التعبير المشهور لإدوارد سعيد، أحد أصدقاء تشومسكي.
العبارات الشعارية التي تحضر إلى الذهن بمجرد ذكر تشومسكي كثيرة وخطيرة: الولايات المتحدة دولة إرهابية؛ إسرائيل دولة استعمارية وفاشستية؛ الإعلام الأميركي متواطئ مع السياسة الأميركية؛ الديمقراطية تخيف الأنظمة السياسية والولايات المتحدة تفتقر إلى الديمقراطية الحقيقية. وفي أعمال تشومسكي ما يحمل هذه العبارات في عناوينه سواء أكانت كتبًا أم محاضرات متاحة على «يوتيوب». وفي الغالب تتسم تلك الآراء بالتكرار من كتاب إلى آخر ومن محاضرة إلى أخرى، فالمواقف الأساسية لا تتغير وإنما تضاف تفاصيل. ومن سمات تلك الآراء بساطتها ومباشرتها وتوجهها للقارئ العادي في بعدها عن العمق الفلسفي وذلك فيما يبدو بهدف التأثير، فثمة قدرة بلاغية هائلة هنا استطاعت أن تصنع لتشومسكي شعبية ضخمة ليس في بلاده بقدر ما هو في أجزاء كثيرة من العالم.
في كتابه «أسرار، كذب، وديمقراطية» (1994) نجد نماذج لآراء تشومسكي التي نجدها في أماكن أخرى. هنا يجيب المفكر الأميركي عن سؤال حول الديمقراطية في الولايات المتحدة فيشير إلى أن تلك الديمقراطية تتسم بمسائل شكلية مثل الانتخابات الأولية والاستفتاءات ثم ينتهي إلى المشاركة الشعبية متسائلاً عنها، فيرد تشومسكي: «على مدى فترات طويلة، كانت مشاركة الجمهور في تخطيط وتنفيذ السياسة العامة هامشية جدًا. إن هذا مجتمع تديره التجارة. الأحزاب السياسية كانت ومنذ فترة طويلة تعكس المصالح التجارية». ثم يستشهد برأي لعالم السياسة توماس فيرغسون يقول فيه عن الولايات المتحدة: «إن الدولة تحكمها ائتلافات المستثمرين الذي يجتمعون حول مصلحة مشتركة. لكي تشارك في الساحة السياسية، من الضروري أن تكون لديك مصادر كافية من القوة الخاصة تمكنك من أن تكون جزءًا من ذلك الائتلاف».
يشبه ذلك ما طرحه تشومسكي في لقاء أمام جمهور في ولاية أريزونا أجري عام 2015 ضمن إجاباته على محاوره أمام الجمهور. هنا يستشهد المفكر الأميركي بمقدمة الكاتب الإنجليزي جورج أورويل لروايته «مزرعة الحيوان»، المقدمة التي لم تنشر إلا بعد ثلاثين عامًا من نشر الرواية نفسها والتي تتضمن ما قد يفسر سبب عدم النشر. في مقدمته، كما يذكّرنا تشومسكي، يقول أورويل إن الأفكار التي لا تلقى قبولاً سياسيا واجتماعيًا يمكن حجبها حتى في بلد يتمتع بالحرية مثل بريطانيًا وذلك دون استخدام القوة. السبب في ذلك يعود إلى عدة أسباب في طليعتها قوة الإعلام الذي تملكه قوة متنفذة من أصحاب المصالح، إلى جانب تواطؤ مثقفين يرون أن المصلحة العامة في عدم توجيه النقد إلى جهات أو تيارات محددة هي في حالة أورويل الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي في تلك الفترة. ولعل من المفيد قبل المضي في متابعة آراء تشومسكي نفسه أن نقف على ما يقوله أورويل في المقدمة المشار إليها. فبعد إشارة الكاتب إلى رفض أحد الناشرين نشر رواية «مزرعة الحيوان» بناء على ملاحظات من أحد المسؤولين في وزارة الإعلام البريطانية آنذاك يشير أورويل إلى أنه لا خلاف على ضرورة بعض أنواع الرقابة في أزمنة الحروب، بل ويثني على الحكومة بشكل عام في تعاملها مع الصحافة وما تتمتع به من حريات. المشكلة ليست مع الحكومة وإنما في مكان آخر: الشر الحقيقي فيما يتعلق بالرقابة الأدبية في إنجلترا هي أنه في الغالب اختياري. الأفكار التي لا تتمتع بالشعبية يمكن إسكاتها، والحقائق المزعجة يمكن إخفاؤها، دون حاجة إلى منع رسمي.
الإعلام يخضع لمصالح فئوية وفردية، ولكن حرية التعبير تخضع أيضًا لمراعاة البعض لما يسمى الرأي العام أو المصلحة العامة وهي أحيانًا ليست سوى مصلحة شخصية يمارسها بعض المثقفين الجبناء، بتعبير أورويل، لحماية أنفسهم. كلامه سيذكرنا بما واجهه بعده ميشال فوكو مع التيار الماركسي، كما سبقت الإشارة في مقالة سابقة في هذا المكان، وما واجهه وسيواجهه آخرون أمام نخب ينتمون إليها أو تحيط بهم سواء في الإعلام أو في مجالات النشاط الفكري والأكاديمي.
تشومسكي لا يتحدث عن هذا اللون من المواجهة بقدر ما يتحدث عن مشاكله مع الإعلام ومع قطاع مهم آخر هو التعليم أو «التعليم الجيد» good education، حسب تعبيره في اللقاء المشار إليه آنفا. ذلك التعليم يغرس في أذهان التلاميذ الانسجام مع المقبول على مختلف المستويات وبعيدًا عما يراه ذلك التعليم متطرفًا أو مهددًا للمصلحة العامة. الإعلام والتعليم قوتان تمارسان ألوانًا من الرقابة هي كل ما يمكن ممارسته في فضاء سياسي واجتماعي تبقيه الدساتير والقوانين مفتوحًا إلى حد بعيد. والكل يتذرى ويتذرع بالمصلحة العامة. والمصلحة العامة مفهوم ملتبس بطبيعته فالكل يدعي أنه أدرى به ويعمل من خلاله، كما أنه متصل عضويًا بما سماه تشومسكي وإدوارد هيرمان في كتابهما المشترك «تصنيع الموافقة» (1988)، أي قبول المصلحة العامة كما يفسرها الإعلام أو يراها أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية.
يردد تشومسكي كثيرًا أنه حتى الصحف الأميركية التي تنتقد الحكومة كـ«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» لا تنشر له شيئا أو تتجاهله، مثلما يفعل التلفزيون الأميركي غالبًا. ولذا فجمهور تشومسكي غالبًا من النخب الجامعية وبعض المؤسسات الثقافية العامة، وهو في حقيقة الأمر جمهور على ضخامته محدود من حيث النوع والمستوى. غير أن ما يسترعي الانتباه أن تشومسكي على حدة آرائه التي يطرحها أمام ذلك الجمهور لم يعرف أنه تعرض لمضايقات أو تهديد كما حدث لإدوارد سعيد أو ضيق عليه في التحدث إلى الناس كما حدث للمؤرخ البريطاني توني جت، كما أشرت في مقالة سابقة. المنع الشهير الذي واجهه تشومسكي كان في إسرائيل حيث منع من الدخول لإلقاء محاضرة في جامعة بيرزيت الفلسطينية عام 2010، لكن ذلك المنع الواضح والمباشر والمألوف في معظم أنحاء العالم يهون، فيما يبدو، عند المنع الأخفى الذي يواجهه مفكر وناشط بحجم تشومسكي حين يجري تجاهله أو تهميشه فيما يرقى إلى تجاهل لأفكاره وتهميش لمقاومته.



أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
TT
20

أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

يحتلّ موقع ساروق الحديد مكانة عالية في سلسلة المواقع الأثرية التي كشفت عنها عمليات التنقيب المتلاحقة في الإمارات المتحدة، ويتميّز بترابه الأثري الذي يشهد له الكم الهائل من اللقى التي خرجت منه في العقدين الأخيرين. تشكّل هذه اللقى مجموعات عدة مستقلة، منها مجموعة كبيرة من الأسلحة المعدنية تحوي خنجرين فريدين من نوعهما، لكل منهما مقبض منحوت على شكل فهد رابض يمدّ قائمتيه الأماميتين في الأفق.

تتبع منطقة ساروق الحديد إمارة دبي، وتجاور قرية الفقع بين مدينة دبي ومدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي. شرعت دائرة التراث العمراني والآثار التابعة لبلدية دبي في استكشاف هذا الموقع في عام 2002، بالتعاون مع عدد من البعثات الأجنبية، وأدت حملات التنقيب المتواصلة خلال السنوات التالية إلى العثور على مجموعات متنوعة من اللقى تعود إلى فترات زمنية تمتد من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، منها مجموعة من الأختام، ومجموعة من الأواني الطينية، ومجموعة من الأدوات المعدنية.

تنقسم مجموعة الأدوات المعدنية إلى مجموعات عدة، أكبرها مجموعة من الأسلحة تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، تشابه في صناعتها وفي صياغتها أسلحة معاصرة لها خرجت من مواقع أثرية أخرى في الإمارات وفي المناطق المجاورة لها. يأخذ القسم الأكبر من هذه الأسلحة شكل خنجر من الحجم المتوسط، يتكوّن من مقبض بسيط ونصل مروّس. يبدو المقبض مجرّداً من الزينة في أغلب الأحيان، غير أن بعض النماذج تخرج عن هذا السياق، وتتميّز بنقش زخرفي متقن يشهد لأسلوب فني ساد في هذه الناحية من الجزيرة العربية كما يبدو.

يتجلّى هذا النقش الناتئ في خنجر من البرونز يتكون من مقبض يبلغ طوله 13 سنتيمتراً، ونصل طوله 16 سنتيمتراً. يتكوّن هذا النقش من مساحات زخرفية مختلفة، تشكّل معاً تأليفاً تجريدياً يجمع بين تقاسيم متناغمة. يعلو هذا التأليف شريط أفقي يحدّ قاعدة نصل الخنجر، تزيّنه سلسلة من الحبيبات المتلاصقة. يستقرّ هذا الشريط فوق مساحة مكعّبة تأخذ شكل تاج تزيّنه زخرفة حلزونية مكوّنة من مفردتين تشكيليتين معاكستين. في النصف الأسفل من هذا المقبض، تحضر مساحة مستطيلة تزينها سنابل منتصبة محوّرة هندسياً، تستقرّ في إطار يحدّه شريطان مزخرفان بشبكة من الخطوط الأفقية. ترتفع هذه الكتلة المتراصة فوق قاعدة أسطوانية، وتشكلّ هذه القاعدة الطرف الأسفل لهذا المقبض البديع.

يحضر هذا النقش بشكل مشابه في خنجر آخر يبلغ طول نصله الحديدي 13.7 سنتيمتر، وطول مقبضه البرونزي 9 سنتيمترات. ويظهر هذا التشابه من خلال السنابل المنتصبة في كتلة مستطيلة تشكّل عموداً يعلوه تاج يزينه تأليف حلزوني مماثل. يستقر هذا العمود فوق قاعدة أسطوانية مجرّدة، ويشكّل معها تكوين مقبض هذا الخنجر الذي تأكسد نصله الحديدي العريض.

يبرز في هذا الميدان خنجران فريدان من نوعهما يحمل كل منهما مقبضاً نُحت على شكل حيوان من فصيلة السنّوريّات، يمثّل كما يبدو فهداً رابضاً. يتشابه هذان الخنجران البرونزيان من حيث الحجم تقريباً، غير أنهما يختلفان في التكوين، ويظهر هذا التباين عند دراسة مقبض كل منهما؛ إذ يحمل أحدهما صورة فهد مجسّم، ويحمل الآخر صورة مزدوجة لهذا الفهد. يظهر الفهد المفرد في خنجر يبلغ طول نصله المقوّس بشكل طفيف 19.5 سنتيمتر، وطول مقبضه 14 سنتيمتراً. يتكوّن هذا المقبض من مجسّم على شكل فهد ينتصب عمودياً فوق قاعدة تأخذ شكل تاج تزينه زخرفة حلزونية، تماثل في تأليفها النسق المعتمد. يشكّل رأس هذا الفهد قمة المقبض، وملامحه واضحة، وتتمثّل بعينين دائريتين، وأنف شامخ، وشدقين مفتوحين. يرتفع هذا الرأس فوق عنق طويل مقوّس، يحدّه عقد من الحبيبات الناتئة، يفصل بينه وبين البدن. يتكوّن هذا البدن من صدر طويل مستطيل، تعلوه قائمتان أماميتان تمتدّان في الأفق، مع قدمين مقوّستين بشكل طفيف. الفخذان عريضتان، والذيل منسدل، وهو على شكل ذيل الأسد، ويتميز بخصلة عريضة تعلو طرفه، تنعقد هنا بشكل حلزوني.

يتكون الخنجر الآخر من نصل يبلغ طوله 16 سنتيمتراً، ومقبض على شكل قوس منفرج طوله 12.5 سنتيمتر. تتكرّر صورة الفهد، مع اختلاف في التفاصيل؛ إذ يغيب الطوق الذي يحيط بالعنق، وتستقيم القائمتان الأماميتان عمودياً، وتحضر في وسط العين نقطة غائرة تمثّل البؤبؤ. ينتصب هذا الفهد فوق فهد آخر يظهر بشكل معاكس له، ويشكّل رأس هذا الفهد المعاكس الطرف الأسفل للمقبض، وقاعدة للنصل المنبثق من بين فكّيه.

يمثّل هذان الخنجران حالة فنية استثنائية في ميدان مجموعات الأسلحة المتعددة التي خرجت من مواقع الإمارات الأثرية، ومواقع سلطنة عُمان التي شكّلت امتداداً لها، ويبرزان بطابعهما التصويري الذي يأخذ هنا شكل منحوتتين مجسّمتين. تعكس هاتان المنحوتتان أثر بلاد السند وبلاد الرافدين، غير أنّهما تتميّزان بطابع محلّي خاص، ويظهر هذا الطابع في قطع أخرى تنتمي كذلك إلى ما يُعرف تقليدياً بالفنون الصغرى.