في وقت تتدفق فيه الأموال الإيرانية إلى جميع الاتجاهات في الشرق الأوسط لتأمين ميزانية الميليشيات المتعددة الجنسيات التي يرعاها الحرس الثوري الإيراني خاصة في سوريا خلال السنوات الخمس الأخيرة فإن المواطنين في عدد كبير من المناطق الإيرانية يواجهون ظروفا صعبة بسبب تراجع مؤشر الرفاه والوضع المعيشي، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل أصبح الوضع الصحي وضعف الإمكانات الطبية وارتفاع الأدوية والخدمات الطبية من التحديات الكبيرة في داخل إيران.
وانتقد وزیر الصحة الإيراني حسن قاضي زاده هاشمي تجاهل الوضع الصحي وأوضاع الإمكانات والأجهزة الطبية في إيران لافتا إلى أن تاريخ دخولها الخدمة يعود إلى 50 عاما، مطالبا المسؤولين بالاهتمام بالمستشفيات وتحديث المركز الصحية.
وذكرت وكالة «إرنا» الرسمية عن قاضي زاده هاشمي قوله خلال مؤتمر طبي في طهران أمس أنه خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو التي يساوي تعدادها السكاني طهران اكتشف وجود 80 ألف سرير طبي في المستشفيات الخاصة والحكومية في وقت لا تملك فيه العاصمة الإيرانية سوى 26 ألف سرير والتي لا تتجاوب مع حاجة الإيرانيين، حسب زعمه.
وأشار قاضي زاده هاشمي إلى ضرورة فتح ملف ضعف الإمكانات الطبية في إيران خاصة أن التعداد السكاني سيدخل مرحلة الشيخوخة في السنوات المقبلة، وبذلك ستكون بحاجة إلى رعاية طبية للمرضى وكبار السن أكثر من أي وقت مضى.
وتأتي تصريحات قاضي زاده هاشمي بعد أقل من أسبوع على كرنفال الخطابات الحماسية بمناسبة حرب الخليج الأولى التي أكد خلالها قادة الحرس الثوري تعزيز صناعة وتطوير الصواريخ الباليستية للحفاظ على نظام ولاية الفقيه من تهديدات خارجية وحرب يسوق لها الحرس الثوري منذ سنوات لمد نفوذه على جميع المستويات. غابة الصواريخ الموزعة على أنحاء إيران في مستودعات الحرس الثوري يقابلها اليوم شح الأدوية وفقدان المراكز الطبية للأجهزة لعلاج أبسط الحالات.
ورغم مرور ما يقارب أربعة عقود على صعود النظام الجديد وتحكم جماعات الحوزة العلمية بمقادير الدولة الإيرانية فإن سوء الإدارة والتخبط ترك نتائج سلبية على بلد اشتهر في فترة النظام السابق بقوة نظامه الطبي بعد تخرج عدد كبير من الإيرانيين في الجامعات الغربية في المنتصف الأول من القرن الماضي. لكن مع تدهور الأوضاع المعيشية وتراجع الحريات في إيران مع إعلان نظام ولي الفقيه فإن القطاع الطبي كحال بقية القطاعات العلمية فقد الكثير من عقوله بعد موجة الهجرة التي انطلقت باتجاه الدول الغربية في بداية تثبيت أركان حكم نظام الخميني نتيجة الخوف من الإعدامات والسجن.
منذ ذلك الحين يفتقر المجتمع الطبي الإيراني للتوازن وتهدد المشكلات الجذرية باندثاره قريبا نتيجة الفساد وتجاهل السلطة والتركيز على تطوير وتعزيز الذخائر بأنواع من الأسلحة لحروب من المفترض أن يخوضها جنرالات نظام ولاية الفقيه ضد «أعداء» مفترضين. كما واجه القطاع الطبي على مدى السنوات الماضية تحديات حقيقية تمثلت في تآكل المنشآت والمرافق الطبية بسبب ضعف الإمكانات وتراجع مستوى الخدمات والرعاية في وقت تجاوز فيه العدد السكاني الإيراني 80 مليونا هذا الصيف.
وفي الوقت الحالي يعتبر ضعف الإمكانات الطبية في المدن الحدودية والبعيدة عن المدن الكبيرة من العوامل الأساسية في تدفق ملايين الإيرانيين من الأرياف والقرى والمدن الصغيرة إلى المدن الكبيرة. كما أن تجاهل الوضع الصحي في المناطق الفقيرة من أوضح القضايا على تجاهل الحكومة حالة المناطق المهمشة. رغم إعلان وزارة الصحة ضعف البنية التحتية وافتقارها للأجهزة الحديثة لكن المستشفيات الحكومية تعاني من إهمال كبير في تأمين الميزانية المطلوبة لإنشاء المراكز الاختصاصية.
وسط هذا كله يخيم شبح الإهمال الطبي وضعف المعدات الطبية وتراجع مستوى العلمي والمهني للكوادر الطبية ونقص عدد الموظفين وعجز الميزانية على هيكل المؤسسة الصحية الإيرانية خاصة أن المستشفيات الحكومية تتحمل الأعباء الكبيرة بسبب حجم المرضى والحاجة المتزايدة إلى العلاج. مساعد وزير الصحة محمد آقاجاني منتصف أغسطس (آب) الماضي كشف خلال تصريحات للتلفزيون الإيراني إن وزارة الصحة بحاجة إلى إعادة إعمار قسم كبير من المستشفيات في البلد. وأضاف آقاجاني أن 67 في المائة من المستشفيات مترهلة، وهو ما يعادل 58 ألف سرير في المستشفى. وتابع مساعد وزير الصحة بأن من بين هذا المجموع 16 ألف سرير يتجاوز معدل استخدامها 50 عاما.
وأشار حينها آقاجاني إلى مشكلات حقيقة منها نقص كبير في أسرة المستشفيات. وأبان مساعد وزير الصحة أن متوسط عدد الأسرة في المستشفى يساوي 1.6 سرير لكل ألف شخص. ويعتبر هذا المؤشر أقل من المتوسط العالمي بين الدول المتقدمة، وفق ما أوردت وكالة أنباء «إرنا» الإيرانية. وتتأثر فترة دخول المرضى وتلقي العلاج في المستشفيات مباشرة بالأسرة الشاغرة، خاصة في الأقسام المختصة بعلاج الحالات الطارئة. وأوضح المسؤول أن أكثر المستشفيات لا يمكنها تقديم خدمات للمرضى بسبب ضيق المكان.
من جانب آخر يدافع المسؤولون في وزارة الصحة عن النفقات الطبية التي يعتبرها الإيرانيون مبالغا فيها. وارتفعت تلك النفقات نحو 20 في المائة في زمن حسن روحاني. ويعتبر تراجع الصحة في إيران وتدهور الوضع البيئي والصحي من التحديات الكبيرة التي تواجه المجتمع في حين تفضل السلطة التركيز على دعم الأجندة الخارجية والتدخل في الدول المجاورة على التنمية. خلال السنوات العشر الماضية حافظت إيران على وجدها في قائمة المدن الأكثر تلوثا في العالم. فقط خلال السنوات الخمس الماضية احتلت مدينة الأحواز لثلاث مرات على التوالي ومدينة زابل في محافظة بلوشستان قائمة منظمة الصحة العالمية.
قبل أربعة أعوام خلال حملته للانتخابات الرئاسية رفع حسن روحاني شعار تحسين النظام الصحي، وتدعي حكومته أنها قدمت مساعدات إلى 16 مليون إيراني للحصول على تأمين صحي، كذلك تقول وزارة الصحة إن أسعار المستلزمات الطبية تراجعت نحو 40 في المائة لكن ذلك لا يعني خروج المؤسسة الصحية من النفق المظلم.
في يناير (كانون الثاني) الماضي كشف المستشار الاقتصادي لوزير الثقافة الإيراني إبراهيم رئيسيون أن إيران بحاجة إلى 115 ألف سرير طبي. ويكلف السرير الواحد 500 مليون تومان (ما يعادل 175 ألف دولار)، وبذلك فإن إيران بحاجة إلى أكثر من 20 مليار دولار لتجاوز نقص معداتها الطبية. وبحسب المسؤول الإيراني فإن بلاده بحاجة إلى 12 ألف مليار تومان سنويا لتحديث مستشفياتها، هذا في حين لم تتجاوز ميزانية إيران 700 مليار تومان.
على الصعيد نفسه، ذكرت وكالة «مهر» الحكومية نقلا عن عضو لجنة الصحة والعلاج في البرلمان الإيراني رسول خضري أن «عمر المستشفيات يتجاوز 40 عاما وأنها في ظل الميزانية الحالية بحاجة إلى عمر نوح من أجل تحديث الأجهزة وإنشاء الأقسام المطلوبة».
وتواجه وزارة الصحة الإيرانية مفترق طرق، إذ إن تحديث المستشفيات وإعادة بناء أجزائها المتهالكة بسبب إهمال الحكومة. وفق التقارير الحكومية فإن مشروع تحديث المستشفيات فضلا عن النفقات التي تكلف ميزانية البلد تستغرق سنوات طويلة، وهو ما يجعل تكاليفها تساوي ميزانية البلد.
وبينما لا يصعب على الحكومة الإيرانية في الوقت الحالي تأمين ميزانية البلد فإن وزارة الصحة تعول على المستثمرين لتأمين نقص ميزانيتها، وهو ما يجعلها ضحية مفضلة للحرس الثوري الإيراني كغيرها من القطاعات التي استحوذ عليها من خلال الاستثمار في السنوات الماضية.
بموازاة تدخله في الاقتصاد والقضايا التي من شأنها تدر الأرباح إلى خزائنه سيطر الحرس الثوري الإيراني على قطاعات كبيرة من المراكز الصحية وشركات استيراد وإنتاج الأدوية في إيران منذ حرب الخليج الأولى.
فضلا عن الحرس الثوري الذي ينشط كقطاع خاص على الصعيد الطبي في إيران. ويقول الحرس الثوري إنه على علاقة وثيقة بالجامعات الطبية المسؤولة عن إدارة المستشفيات.
وتستهدف المراكز الطبية التابعة للحرس الثوري مناطق تعاني من الفقر والتهميش المتعمد مثل بلوشستان وبندرعباس ومناطق واسعة من إقليم خراسان وكردستان والأحواز بسبب كثرة المراجعات الطبية وتدهور الوضع الصحي وتجاهلها من وزارة الصحة، وهو ما يغري الحرس الثوري لجني الأموال والتنافس مع القطاع الخاص والحكومي في تلك المناطق.
في هذا الصدد قال رئيس لجنة الصحة في بلدية طهران رحمت الله حافظي إن 75 في المائة من المستشفيات في العاصمة تعاني من ترهل كبير وإنها ستدمر بشكل كامل في حال وقع زلزال بمستوى 5 درجات على مقياس ريختر، كما توقع المسؤول الإيراني ارتفاع عدد الضحايا عند أدنى زلزال في طهران. وتترقب العاصمة الإيرانية منذ سنوات زلزالا مدمرا وفق توقع الخبراء بسبب وقوعها على خط زلزال حافل بالهزات المدمرة خلال السنوات ولكن الزلزال الذي طال انتظاره في طهران يتوقع أن يترك نتائج كارثية في ظل الوضع الواهن للقطاعات الصحية.
لكن مؤشر الوضع الصحي في إيران يختلف وفق ابتعاد المنطقة من دائرة اهتمام الحكومة. في مدينة الأحواز مثلا التي تعتبر مصدرا أساسيا في الميزانية الإيرانية بسبب احتضانها لثروات هائلة من النفط والغاز تشتكي كل المستشفيات من ضعف الإمكانات الطبية ونقص المعدات كما أن أغلب المستشفيات بسبب حجم المساحة أشبه بمستوصفات عادية. ولا تستجيب تلك المستشفيات لاحتجاجات أهل تلك المناطق مع زيادة التعداد السكاني واتساع رقعة المدن. وأكثر تلك المستشفيات أنشئت في زمن الشاه من تبرعات تجار المنطقة.
في مايو (أيار) الماضي نقلت وكالة «مهر» عن رئيس جامعة العلوم الطبية في الأحواز إسماعيل ايدني قوله إن وزارة الصحة تملك مستشفيات قيد الإنشاء، لكنه كشف عن تقدم بطيء منذ سنوات لعجز الميزانية. المسؤول الإيراني كشف عن حاجة المستشفيات إلى 1500 سرير طبي على الأقل لتلبية حاجة تلك المناطق المحرومة. وكان يعتمد أهل المناطق الحدودية على مستشفيات صحراوية أقامت القوات المسلحة زمن الحرب قرب الحدود.
ورغم الإمكانات الطبية فإن انعدام تلك الإمكانات في المحافظات والمناطق القريبة من الأحواز جعلها وجهة الوافدين من محافظات لرستان وبوشهر وكهغلوية بور أحمد وإيلام فضلا عن العراقيين الذين يقصدون مراكز جنوب غربي إيران لتلقي أبسط العلاج. وتستضيف الأحواز المستشفى الوحيد للأطفال والمركز الطبي الوحيد لمعالجة الحروق (غير مكتمل البناء).
قبل أيام في 28 من سبتمبر (أيلول) أعلن قائد القوات البرية في الحرس الثوري الإيراني إنشاء 43 مستشفى صحراويا في محافظة بلوشستان. وتعتبر المنطقة نموذجا صارخا على غياب طويل لوزارة الصحة الإيرانية في المناطق المهمشة.
إلى جانب ذلك يعد ضعف الكوادر الطبية والإهمال الطبي من أبعاد تراجع الوضع الصحي في إيران. ربما القضية التي جعلت هذه القصة المحرمة الأكثر أثارة للنقاش في الفترة الأخيرة الملف الطبي المتعلق بالمخرج العالمي عباس كيارستمي الذي كان أبرز ضحايا الإهمال الطبي في الآونة الأخيرة.
وفقد الوسط الفني الإيراني المخرج عباس كيارستمي نتيجة ثلاثة أخطاء متتالية في ثلاث عمليات جراحية خلال فترة زمنية لا تتجاوز 45 يوما مما أدى إلى وفاته في بداية يوليو (تموز) الماضي عندما انتقل للعلاج إلى باريس.
وتشابهت قصة وفاة كيارستمي مع مشهد طريف من فيلمه «التقرير» في عام 1986، الذي هجا فيه بطريقة طريفة ما آلت إليه الأوضاع بعد الثورة وتفشي الإهمال الطبي في إيران، ويصور الفيلم كيفية نقل امرأة حاولت الانتحار من خلال المصعد إلى الطابق الرابع وبينما كان زوج المرأة يسابق الزمن لإنقاذ زوجته تفاجأ ببرود الطبيب ومغادرة المستشفى الذي يرد عليه بأن المستشفى لم يعد بحاجة إليه وأن الحبوب ليست قاتلة كان بإمكانه أن ينتظر الصباح. وكأن كيارستمي كان عالما بنهايته فأراد أن تكون وفاته حجة لفتح ملف الإهمالات الطبية مثلما تناولت أفلامه الكثير من القضايا في الشارع الإيراني.
وتتخوف كل من وزارة الصحة والحكومة الإيرانية من التأثير السلبي لقضية الإهمالات الطبية وحصلت إيران في 2010 على 600 مليون دولار من 85 ألف سائح أغلبهم من أفغانستان والعراق زار إيران من أجل تلقي العلاج. وفق إحصائية منظمة الصحة العالمية في 2011 تجني دول العالم سنويا 50 مليار دولار.
وفق وكالة مهر تتطلع الحكومة الإيرانية تخصيص مستشفياتها المتقدمة في طهران والمناطق الأخرى من أجل استضافة مليون سائح طبي وجني ما يقارب سبعة مليارات دولار سنويا. وتتقاسم وزارة الصحة مع منظمة السياحة الإيرانية ووزارة الخارجية إدارة ملف السياحة الطبية.
لكن رغم الوعود الحكومية ومشاريع «السياحة الطبية» تواجه إيران تحدي افتقار المستشفيات للمعايير المطلوبة. وبحسب وكالة «مهر» الإيرانية فإن هناك شكوكا جدية تحوم حول قدرة تلك المستشفيات على استضافة السياح الأجانب من أجل العلاج. إضافة إلى ذلك تتطلع الحكومة إلى تعزيز دور المستشفيات الخاصة في السياحة الطبية لكن الإهمال الطبي الذي أصبح صفة مشتركة لتلك المستشفيات وضعف كادرها الطبي يعرضان الخطط الإيرانية لمخاطر حقيقية.
في هذا الصدد أدى تدفق السياح الأجانب إلى ظهور السماسرة في هذا المجال. وفق التقارير الحكومية فإن الكثير من السياح الذين يقصدون إيران من أجل تلقي العلاج يقعون ضحية عصابات السماسرة في طهران. وهو ما دفع وزير الصحة الإيراني حسين قاضي زادة هاشمي للتعبير عن مخاوفه من تعرض «السمعة الطبية الإيرانية للخطر» بسبب دخول السماسرة على خط العلاج.
إيران.. ترسانة صواريخ.. ومستشفيات خارج الخدمة
طهران بحاجة إلى 20 مليار دولار وأكثر من نصف قرن لتحديث المراكز الطبية
إيران.. ترسانة صواريخ.. ومستشفيات خارج الخدمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة