انتخابات المغرب.. سباق «داحس والغبراء»

بين رهان «التغيير» ومطمح «مواصلة الإصلاح»

انتخابات المغرب.. سباق «داحس والغبراء»
TT

انتخابات المغرب.. سباق «داحس والغبراء»

انتخابات المغرب.. سباق «داحس والغبراء»

يتوجه أكثر من 15 مليون ناخب مغربي، يوم الجمعة المقبل، إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم بمجلس النواب، في ثاني استحقاق تشريعي، بعد دستور 2011، والرابع من نوعه في عهد الملك محمد السادس، الذي تولى الحكم صيف عام 1999. ويتولى مجلس النواب الوظائف التشريعية ومراقبة عمل الحكومة، عن طريق سن القوانين، ومساءلة الحكومة، شفويًا أو كتابيًا، أو عن طريق لجان تقصي الحقائق أو نزع الثقة.
ويعتبر الاقتراع في المغرب، حقًا وواجبًا وطنيًا. فيما يعني الاقتراع باللائحة تقديم كل حزب جميع مرشحيه ضمن لائحة واحدة، للتصويت عليها. ومن خصائصه أنه «يقوم على التمثيل النسبي، حسب قاعدة أكبر بقية». ومن إيجابياته أنه «يقلل من السمة الفردية للانتخاب، حيث تغيب صورة الفرد ويظهر الحزب، وبغياب السمة الشخصية يبرز البرنامج»، بينما تتلخص أبرز سلبياته في أنه «يؤدي إلى (البلقنة السياسية)» و«تكوين أغلبيات غير متجانسة».
ويحدد قانون تنظيمي، يتعلق بتأليف مجلس النواب، الذي أنهى ولايته التاسعة، عدد الأعضاء في 395، ينتخبون بالاقتراع العام المباشر عن طريق الاقتراع باللائحة؛ 305 منهم على صعيد الدوائر الانتخابية، و90 على الصعيد الوطني، تهم النساء والشباب، أقل من 35 سنة. وتواصلت، منذ الساعة الأولى من يوم السبت 24 سبتمبر (أيلول) الماضي حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً من اليوم السابق لتاريخ الاقتراع، الذي تشارك فيه 27 هيئة سياسية، الحملة الانتخابية، وسط أجواء من التجاذب السياسي، بين عدد من الفاعلين السياسيين.
- تشير معطيات عممتها وزارة الداخلية المغربية، مباشرة بعد انتهاء الفترة المخصصة لإيداع التصريحات بالترشيح للانتخابات النيابية (البرلمانية) إلى أن عدد لوائح الترشيح المقدمة برسم كل الدوائر الانتخابية المحلية والدائرة الانتخابية الوطنية، قد بلغ ما يفوق 1400 لائحة، تشتمل في المجموع على نحو 7 آلاف مترشح ومترشحة، منها 1385 لائحة ترشيح تم إيداعها برسم الدوائر الانتخابية المحلية وتتضمن نحو 4800 مترشح ومترشحة، بمعدل 15 لائحة عن كل دائرة محلية. وتمكنت ثلاثة أحزاب فقط، هي حزب الاستقلال، وحزب الأصالة والمعاصرة، وحزب العدالة والتنمية، من تغطية جميع الدوائر الانتخابية. في حين تتوزع نسبة الناخبين بين الذكور والإناث، على التوالي، ما بين 55 و45 في المائة، تمثل فيهم ساكنة الوسط الحضري نسبة 55 في المائة، وهم يتوزعون، حسب الفئة العمرية، بين 19 في المائة لأكثر من 60 سنة، و8 في المائة لمن بين 55 و59 سنة، و20 في المائة لمن بين 45 و54 سنة، و23 في المائة لما بين 35 و44 سنة، و21 في المائة لما بين 25 و34 سنة، و9 في المائة لما بين 18 و24 سنة.
* الطريق إلى 7 أكتوبر
لعل أهم ما يميز الانتخابات الحالية أنها تجري، حسب عدد من المحللين، وسط «تجاذب سياسي حاد» و«احتقان وصراع» لم يقتصر على الأحزاب السياسية المتنافسة، سواء كانت في المعارضة أو داخل التحالف الحكومي، بل امتد إلى مؤسسات الدولة.
ويرى المراقبون أن اقتراع السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، يشكل مسألة حياة أو موت بالنسبة للحزبين الأساسيين المتصارعين «العدالة والتنمية» (مرجعية إسلامية)، و«الأصالة والمعاصرة» (علماني)، بل إن بعضهم شبّه السباق بينهما بسباق «داحس والغبراء».
ويرى الحسين أعبوشي، أستاذ القانون الدستوري وعلم السياسة في جامعة «القاضي عياض» بمراكش، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «المشهد السياسي والحزبي المغربي الحالي، يمكن قراءته، من خلال استحضار كثير من المعطيات والعناصر: أولها، الحراك الاجتماعي، الذي عرفه المغرب في 2011، وتنامي المطالب بالديمقراطية. وثانيها، الخطاب الملكي لـ9 مارس (آذار) ودستور 2011، الذي تم فيه التفاعل مع المطالب الاجتماعية والسياسية، وبالتالي، الشيء الذي غير كثيرا من المعادلات وفتح المجال لظهور قوى سياسية كثيرة، وخصوصًا التيارات الإسلامية، التي مثلها حزب العدالة والتنمية. أما المعطى الثالث فيتمثّل في تراجع تأثير وقوة أحزاب الحركة الوطنية، ممثلة في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ونسبيا (الاستقلال). وبالتالي فقد عشنا، بعد هذه المرحلة، وصول الإسلاميين إلى المشاركة في ممارسة السلطة، بعد فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية لما بعد 2011، ومن ثم قيادة ائتلاف حكومي تشكل من أربعة أحزاب، هي: العدالة والتنمية، والاستقلال، والتقدم والاشتراكية، والحركة الشعبية، قبل أن يعلن (الاستقلال) انسحابه، ويعوض بـ(التجمع الوطني للأحرار)».
ويقول أعبوشي، إن «قيادة حزب إسلامي للحكومة، أدت إلى ظهور أنماط وأشكال جديدة للصراعات الحزبية في المغرب؛ وهي صراعات يمكن أن نميز فيها الصراعات التي كانت مباشرة بين (العدالة والتنمية) و(الأصالة والمعاصرة)، الذي يقدم نفسه على أنه ينتمي إلى وسط اليسار، وعلى أنه حزب حداثي تقدمي، فضلا عن صراعات بين الأحزاب المكونة للائتلاف الحكومي، وخصوصًا بين (العدالة والتنمية) و(التجمع الوطني للأحرار)». وكان لكل هذا، كما يضيف أعبوشي: «انعكاس على المشهد الحزبي الحالي، وعلى عمل الحكومة، من جهة، وعلى الحياة السياسية في المغرب، بصفة عامة. وهو ما سيظهر، بشكل جلي، عندما دخلت هذه الأحزاب في الحملة الانتخابية الجارية، حيث أفرز لنا الوضع صراعًا ثنائيًا واضحًا بين العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة؛ إذ لم يعد لباقي المكونات الأخرى تأثير كبير في المشهد الحزبي، على الرغم من محاولات الدفع بـ(فيدرالية اليسار) بقيادة نبيلة منيب، وتمكين القوانين الناظمة للانتخابات الأحزاب الصغيرة من الدخول في غمار الاستحقاقات الانتخابية، من خلال تخفيض العتبة الانتخابية إلى 3 في المائة، من ضمان مقعد برلماني. وهذا ما سيساعد على (بلقنة) المشهد السياسي وتشتيت أصوات الناخبين، وبالتالي صعوبة أن يحصل حزب واحد، أو حزبان، أو حتى ثلاثة، على الأغلبية التي تمكنها من تشكيل حكومة في المستقبل».
ولاحظ أعبوشي أن «هذا كله يفسر لنا، اليوم، حدة النقاش السياسي، الذي يصل، أحيانًا، إلى درجة العنف اللفظي في الخطاب السياسي عند الفاعلين السياسيين، خلال مرحلة الانتخابات. كل هذا، من دون أن نغيّب مؤشرات، تتعلق بتنظيم ما عرف بمسيرة (مجهولة الهوية)، بالدار البيضاء، قبل أيام من بدء الحملة الانتخابية، حاملة شعار «لا لأسلمة وأخونة الدولة»؛ فضلا عن الخوض في الحياة الخاصة لرموز وقياديي عدد من الأحزاب السياسية والشخصيات القيادية، وهو ما يتنافى والقيم والأخلاق السياسية».
وأثارت مسيرة الدار البيضاء كثيرًا من ردود الفعل السلبية، الغاضبة والمستهجنة، إلى درجة لم يتجرأ معها أحد على تبنيها، لتشتهر بين المغاربة بـ«المسيرة المجهولة»، ولقد كشفت عن صراع بين وزارتين تشرفان على الانتخابات، هما الداخلية والعدل، بعدما خرج مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، المنتمي للعدالة والتنمية، إلى الرأي العام بـ«إعلان عام» عبر صفحته على «فيسبوك»، قال فيه إنه «لا يستشار ولا يقرر» في كل ما يتعلق بالشأن الانتخابي. وأنه «على بعد ثلاثة أسابيع من انتخابات 7 أكتوبر تقع عجائب وغرائب». ثم أعلن أن «أي رداءة أو نكوص أو تجاوز أو انحراف لا يمكن أن يكون مسؤولا عنها»؛ ليسارع محمد حصاد، وزير الداخلية، بالرد عليه عبر موقع إلكتروني، معتبرًا الأمر مجرد «سوء فهم».
ومن جانبه، رأى إدريس لشكر، الأمين العام للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المعارض، في خلاف الرميد وحصاد، تعبيرًا عن «غياب التجانس في الحكومة»، حيث علق ساخرًا: «أصبحوا يتواصلون فقط عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهم غير قادرين حتى على عقد اجتماع».
في حين قال محند العنصر، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، المشارك في الائتلاف الحكومي الحالي، إنه «كان يجب على وزيري العدل والداخلية، الجلوس إلى الطاولة لحل المشكل الذي عبر عنه الرميد، لا اللجوء إلى التدوينات في مواقع التواصل الاجتماعي». وأبرز العنصر أن الرميد وحصاد «لم يجر اختيارهما اعتباطيًا للإشراف على الانتخابات، بل في منظومة واضحة وبتعيين من الملك».
* لافتات «ارحل»
والواقع، لم يكن الترخيص لمسيرة «مجهولة»، رفعت خلالها لافتات «ارحل» ضد رئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران، قبل أيام من الاقتراع، الخلاف الوحيد بين العدالة والتنمية ووزارة الداخلية، التي منعت، قبل ذلك، الشيخ السلفي حماد القباج من الترشح باسم العدالة والتنمية. لذلك، تحدث ابن كيران عن مناورات، تعرض لها حزبه «من اليمين ومن الشمال»، إلى أن «أراد الله أن يفضحهم فنظموا المسيرة المعلومة»، التي رأى أنها «ليست حدثًا ومر، بل هي علامة فارقة، بخصوص ماذا يريد المغاربة. هل يريدون ناسًا معقولين، يقولون لهم الحقيقة، ويبينون لهم كيفية إصلاح أمور البلاد بتدرج، أم يريدون من يبيعهم الأوهام؟».
وأثار ترشيح ومنع القباج جدلاً كبيرًا، بين مرحب ومعارض. وذهب العماري، أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة، إلى القول بأن حزبه كان يرغب في ترشيح مغربي يهودي الديانة في مدينة مراكش، لمواجهة القباج. سوى أن هذا الأخير منع من الترشح، كما أن المرشح الذي كان ينوي حزبه ترشيحه اعتذر لأسباب شخصية. ثم استدرك قائلا: «أنا ضد المنع. وترشيح مغربي يهودي للانتخابات التشريعية كنا نريده تعبيرًا عن مغرب نريده متعددًا».
من جهته، لم يفوّت ابن كيران الفرصة لينتقد قرار منع القباج، حيث قال: «وماذا به حماد القباج؟ ما هي مشكلته؟ قالوا عنه إنه سلفي. وماذا بعد؟.. هو سلفي متنور. يحب بلده وملكه، كما ساهم في حملة التصويت لصالح الدستور. فكيف نتنكر له هو وأمثاله ممن يجعلون من التيار السلفي تيارًا إيجابيًا مشاركًا في المجتمع، يقف في وجه الإرهاب والتطرف والتشدد؟».
وفي غمار التحضير للانتخابات، أصدر الديوان الملكي، في 13 سبتمبر الماضي، بيانًا تضمن انتقادات قوية لنبيل بن عبد الله، وزير السكنى وسياسة المدينة، وأمين عام حزب التقدم والاشتراكية (يسار)، وذلك على خلفية تصريحات وصفها القصر بالـ«خطيرة»، تتعلق بفؤاد عالي الهمة، مستشار العاهل المغربي ومؤسس حزب الأصالة والمعاصرة المعارض، قبل أن يصبح مستشارًا ملكيًا. ووصف البيان تلك التصريحات بأنها «ليست إلا وسيلة للتضليل السياسي في فترة انتخابية تقتضي الإحجام عن إطلاق تصريحات لا أساس لها من الصحة». وكان ابن عبد الله، قد قال، في حوار إن مشكلة حزبه ليست مع حزب الأصالة والمعاصرة، بل مع من أسسه، وهو من يجسد التحكم، ليرد الحزب، بعد ذلك، بأن «الموضوع في الأصل يتعلق بنزاعات حزبية محضة لم يكن أبدا في نية حزب التقدم والاشتراكية وأمينه العام إقحام المؤسسة الملكية فيها بأي شكل من الأشكال».
* حسابات الأحزاب
بدا ابن كيران، في تجمعاته الخطابية، منسجمًا مع شعار «صوتنا فرصتنا لمواصلة الإصلاح»، الذي رفعه حزبه، في الانتخابات الجارية، ولذلك تعهد بمواصلة الإصلاح إذا فاز حزبه بولاية ثانية. وتحدث عن حصيلة حكومته، فقال إنه «كان لا بد من الإصلاح لإنقاذ المركب من الغرق، ولم يكن هناك مفر من الإصلاح، على الرغم من أني كنت أعرف أنه يمكن للناس أن يخرجوا إلى الشارع». وزاد ابن كيران مخاطبا أعضاء حزبه: «نحن واثقون بأننا سنستمر في هذا الطريق؛ لأن أمن البلاد واستقرارها لا يباع ولا يشترى».
على خلاف العدالة والتنمية، المتشبث بـ«مواصلة الإصلاح»، رفع الأصالة والمعاصرة، شعار «التغيير، الآن». بل إن أمينه العام، إلياس العماري، قال إن الحكومة المقبلة، التي ستتمخض عن اقتراع 7 أكتوبر المقبل، ستكون ملزمة، بغض النظر عن مكوناتها، باتخاذ جملة من الإجراءات والتدابير، من قبيل رفع نسبة النمو، وتقليص المديونية، ورفع نسبة الاستثمار، وخلق فرص الشغل، ورقمنة الإدارة، ومحاربة الفساد، وإصلاح صندوق المقاصة (صندوق دعم المواد الأساسية) والتدبير الجيد لإصلاح أنظمة التقاعد، وإلا فـ«إننا سنباع في المزاد العلني»، حسب تعبيره. وفيما يتعلق بخريطة التحالفات، التي يمكن أن تتمخض عنها نتائج الاقتراع، استبعد أي إمكانية للتحالف مع العدالة والتنمية، حيث قال: «من المستحيل أن يكون هناك تحالف بين الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية، لأننا ننتمي لمشروعين مجتمعيين متناقضين تمامًا».
وهكذا، وبينما تشتد الخصومة بين حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، ترفض باقي الأحزاب، وبخاصة الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية، حصر التنافس الانتخابي في البلاد بين هذين الحزبين، فقط. وذهب لشكر أبعد، في تشريحه حالة التجاذب التي تميز المشهد الحزبي المغربي، فقال إن الصراع «أصبح محصورًا بين مشروعين، الأول ديمقراطي حداثي والثاني محافظ رجعي»، مبرزًا أن تحالفاته لا يمكن أن تخرج عن الأحزاب التي تشاركه المشروع الحداثي الديمقراطي.
* خيار ثالث
في هذه الأثناء، تميّزت الاستعدادات للانتخابات الجارية بالحديث عما سمي بـ«التيار الثالث»، الذي تمثله، بالأساس «فيدرالية اليسار الديمقراطي» التي تسعى إلى تكوين توجه سياسي يخالف توجه قطبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة.
ويرى أعبوشي أنه «في سياق التقاطب السياسي الحزبي الثنائي بين العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، ظهرت دعوات إلى المراهنة على (خيار ثالث)، من أجل تحقيق التوازن بين هذين الحزبين الغريمين، وذلك من خلال دفع بعض قوى اليسار، بقيادة نبيلة منيب، من أجل لعب دور وتقديم البديل الموضوعي الذي يفرز إجابات على الطلبات الاجتماعية في سياق آخر». وباستخدام عبارة «الخط» أو «الطريق» أو «الخيار» الثالث، تريد فيدرالية اليسار الديمقراطي، أن تتميز من جهة، عن الإسلاميين في العدالة والتنمية، ومن جهة أخرى، عن الأصالة والمعاصرة الداعي إلى التغيير، والذي يقدم نفسه حزبًا حداثيًا تقدميًا.
وترى منيب، الأستاذة الجامعية، البالغة من العمر 56 سنة، والمرأة الوحيدة التي تقود حزبا سياسيا في المغرب، أن «الجزء الذي يوصف بالمحافظ (أي الإسلاميين) أثبت أنه يتبنى من وجهة النظر الاقتصادية النيو - ليبرالية، بكل آثارها المضرّة. أما القطب الآخر، الذي يسمى حداثويًا جزافًا، فلم يتحدث يومًا عن الحداثة». وتذهب القيادية اليسارية إلى القول بأن «الطرفين لا يلبّيان تطلعات المغاربة، أي إرساء ديمقراطية حقيقية»، قبل أن تقدم اختيارات وقناعات حزبها، قائلة: «نحن نقف بينهما، ونقترح خطًا، هو طريق إصلاح سياسي حقيقي، عبر فصل بين السلطات».
* شعار لكل حزب
لقد رفعت الأحزاب المغربية المشاركة في الاستحقاق الانتخابي شعارات مختلفة، جاءت، إلى حد ما، معبرة عن تموقع كل واحد منها، خلال الولاية التشريعية السابقة، إما في المعارضة أو باعتباره حزبا مشاركا في الحكومة، والاستراتيجيات التي رسمتها لنفسها، خلال المرحلة المقبلة. لذلك رفع التقدم والاشتراكية شعار «المعقول لمواصلة الإصلاح»، والأصالة والمعاصرة شعار «التغيير، الآن»، والاستقلال شعار «تعاقد من أجل الكرامة». وفي حين اختار العدالة والتنمية شعار «صوتنا فرصتنا لمواصلة الإصلاح»، اختار التجمع الوطني للأحرار «جميعًا من أجل تحرير الطاقات، وتعزيز التضامن»، وفيدرالية اليسار الديمقراطي «معنا؛ مغرب آخر ممكن.. مغرب الديمقراطية.. مغرب المواطنة»، والحركة الشعبية «التزام من أجل المغرب»، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية «55 كفى.. 555 تدبيرًا».
* التعددية الحزبية خيارًا
وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال إدريس لكريني، أستاذ القانون العام، بجامعة «القاضي عياض»، في سياق تناوله للتفاوت الحاصل في شعارات الأحزاب، إن «المغرب اعتمد، منذ أول دستور له بعد الاستقلال، التعددية الحزبية خيارا استراتيجيا؛ على اعتبار أن المجتمع المغربي هو غني بتنوعه؛ واعتبارًا لكون الديمقراطية هي آلية لتدبير هذا التنوع والاختلاف بشكل سليم وسلمي». وأردف أن «الانتخابات التشريعية تشكل إحدى المناسبات التي يفترض أن تعكس هذا التنوع والاختلاف من حيث الأولويات والتحالفات وطبيعة البرامج والشعارات».
ولاحظ لكريني أن «اعتماد الشعارات المختصرة في الانتخابات له وقع كبير على الناخب بمختلف توجهاته ومستواه الفكري والتعليمي؛ ذلك أن الأمر يسمح بإيصال إشارات رسائل غالبًا ما تكون بسيطة وواضحة في مضمونها تتعلق بأولويات وانتظارات مفتقدة أو نادرة، تطمح لها فئات واسعة من المواطنين، كما هو الشأن بالنسبة لـ(المعقول) الذي يحيل إلى اعتماد الجدية في الأداء؛ أو (التغيير) أو (الكرامة) أو (الإصلاح)، أو (التضامن) أو (المواطنة)». غير أن مواكبة أجواء الحملة الانتخابية، يختم الكريني، تظهر أن «بعض الأحزاب تركز على أسلوب القذف والشتم والإساءة لخصومها من الأحزاب سبيلاً للتنافس، أكثر من تركيزها على مضامين برامجها وشعاراتها؛ وهو ما تكون له تبعات سلبية على مستوى التصويت لصالحها أو من حيث التأثير في نسبة مشاركة الناخبين بشكل عام».
* الصورة بألف كلمة
وحقًا، أثار «اتفاق» أغلب قادة الأحزاب المغربية على «النزول» إلى الأسواق الأسبوعية، بالبوادي أو الأسواق والأحياء الشعبية بالمدن، بالموازاة مع حرصهم على توظيف وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة «فيسبوك»، للتواصل مع الناخبين، في محاولة لاستمالتهم للتصويت على مرشحيهم، انتباه وفضول المغاربة، متتبعين للشأن العام أو مواطنين عاديين.
ولاحظ لكريني، في هذا السياق، أن «هناك توجهًا من قبل الأحزاب إلى تطوير سبل تواصلها مع الناخبين»، مشيرًا إلى أن «الشعبوية» التي ميزت النقاش السياسي، في السنوات الأخيرة، دفعت الأحزاب إلى «نوع من الاجتهاد في إبداع أدوات تواصلية جديدة مبنية على التفاعل المباشر من خلال زيارة الأسواق الشعبية والتماهي مع المواطنين في بعض السلوكيات، من أكل وشرب».
وإضافة إلى الحملات الانتخابية والمنافسة التي تجري بين مختلف الأحزاب في المدن والقرى، يضيف لكريني: «نتابع حملات تجري أطوارها، بشكل قوي، في العالم الافتراضي، من خلال المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، اعتمادًا على النصوص المكتوبة والصور ومقاطع الفيديو».
* توقعات ما بعد 7 أكتوبر
يتوقع أعبوشي أن تفرز استحقاقات 7 أكتوبر عدة معطيات: أولاها، ستكون على مستوى النتائج، حيث «لن يخرج المتصدر عن ثلاثة أحزاب، هي، من دون ترتيب محدد أو مسبق، العدالة والتنمية، والأصالة والمعاصرة، والاستقلال، مع التشديد على أن الفرق بين المتصدر والحزبين الباقيين لن يكون كبيرًا، كما كان عليه الحال في الانتخابات التشريعية السابقة، التي تصدرها العدالة والتنمية». ثانيها، أن «هناك مراهنة، من طرف المسؤولين، في المغرب، على أن تكون نسبة المشاركة مرتفعة، وأن تتجاوز 50 في المائة. وكل ضعف أو عزوف عن المشاركة سيطرح نقاشًا حول مشروعية الفائز، ومن خلاله مصداقية عمل الحكومة المقبلة»؛ فيما يشير المعطى الثالث إلى أنه «كيفما كانت النتائج، فستكون هناك صعوبة في تشكيل ائتلاف حكومي منسجم. وهناك توقع، بالنظر إلى هذه المعطيات وإلى الصراعات بين الأحزاب، أن يجد الحزب الفائز صعوبة في تشكيل ائتلاف حكومي».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.