مشاهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» الإرهابية، لا تنتهي، فكل يوم نشاهد مشهدا صادما، والأرجح أنها لن تنتهي لاعتقاد التنظيم الأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية المنتشرة حول العالم، أن هذه المشاهد القاسية هي «فزاعته» لتأكيد سيطرته وإظهار قوته لدى العالم، وأن الهزائم التي مني بها خلال الفترة الماضية لم تؤثر عليه. وكان أحدث المشاهد في سوريا خلال عيد الأضحى عندما نحر التنظيم 19 سوريًا، وفي حينه جرّ عناصر التنظيم الإرهابي ضحاياهم في مشهد مخيف وذبحوهم وعلقوهم كالذبائح. هذا المشهد المقزّز - على ما يبدو - كان مهما لـ«داعش» في هذا التوقيت، بالتحديد، في أعقاب الهزائم المتتالية التي مني بها في العراق وليبيا وسوريا، لتأكيد عبارته القديمة أنه «ما زال باقيًا ويتمدد»، وهي العبارة التي أطلقها التنظيم وقت ظهوره عام 2014.
ارتبطت فظائع تنظيم داعش الإرهابي المتطرف بفيديوهات قطع رؤوس المدنيين والعسكريين على حد سواء. ويشار إلى «داعش»، خلال السنة الأولى من إعلانه «خلافته» المزعومة في سوريا والعراق، قطع رؤوس ما يزيد عن 3 آلاف من المواطنين ومن عناصره بتهم مختلفة منها التجسس لصالح دول أجنبية.
ويقول مراقبون إن «داعش» يستخدم قطع الرؤوس لترهيب السكان في سوريا والعراق وليبيا، حيث أصدر سلسلة من أشرطة الفيديو الدعائية، وبث التنظيم عمليات إعدام علنية وجماعية، واحتوى بعضها على سجناء أجبروا على حفر قبورهم بأيديهم قبل إعدامهم، وكذلك أعدم عشرات المقاتلين السوريين المنتمين إلى المعارضة الثائرة ضد نظام بشار الأسد.
الهدوء واستسلام الضحايا لعناصر التنظيم، كان سمة أساسية في جميع مشاهد «النحر»، وهنا أعرب خبراء في الطب النفسي عن اعتقادهم أن «داعش» يستخدم نوعا من الحرمان الحسي لفترة معينة للضحية، وفي هذه الحالة يجري عزل الأسير عن إثارة كل الحواس، خصوصًا السمع والبصر، ما يجعله في حالة خنوع كاملة ويواجه الموت من دون مقاومة، ويقولون: إنه في هذه الحالة الإنسان يفضل الموت على انتظار مصيره. ورجح خبراء علم النفس أيضًا وجود احتمال آخر هو تخدير الضحايا بدليل أنهم لم يبدوا ردود فعل.
على صعيد آخر، قال معنيون بشؤون الجماعات المتطرفة والإرهاب إن «داعش» يرسل إلى العالم عبر مناظر إعدام الضحايا رسالة مضمونها أن من يخالفونه في الفكر والمعتقد سيكون مصيرهم الذبح. وتابعوا أن التنظيم يعمد لنشر مشاهد حزّ الرقاب نتيجة هروب الكثير من أنصاره في العراق وسوريا بسبب الخسائر والهزائم التي يتلقاها بشكل يومي على يد التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، ولتأكيد أنه لا يزال قويا وأوراق اللعبة في يده. ويذكر أن الأردني أبو مصعب الزرقاوي مؤسس التنظيم في بداياته، كان أول من مارس الإعدام ذبحًا عندما حزّ عنق الرهينة الأميركي يوجين أرمسترونغ في العراق عام 2004. ومن ثم، ذبح «داعش» رهينة يابانيًا وسوريين وعراقيين ولبنانيين، بالإضافة لاثنين من الصحافيين الأميركيين، ومصريين أقباط في ليبيا.
دراسة مصرية
دراسة مصرية أعدتها أخيرًا دار الإفتاء في مصر، ذكرت أن أفعال وجرائم الدواعش تخالف كل القيم والمبادئ الدينية والإنسانية وما جاءت به جميع الأديان السماوية، ولاحظت أن أكثر ضحايا التنظيم هم من المسلمين من سكان المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق وليبيا، ما يعني أن التنظيم إنما يحمل القتل والذبح أينما وجد.
وأشارت الدراسة إلى أن قادة تنظيم داعش يعتقدون أن القتل بوحشية يساهم في تثبيت سيطرتهم وخضوع الناس لهم خوفا من البطش في مختلف مناطق سيطرتهم، وذلك على الرغم من أن التراث الإسلامي لا يدعو إلى القتل وسفك الدماء أو إرهاب الناس وتخويفهم كي يذعنوا لهم ويعلنوا البيعة والولاء.
وعن عقيدة الذبح لدى «داعش»، قالت الدراسة إن «المرجعية الفكرية التي يستند إليها التنظيم في الذبح ترجع إلى جماعات متطرفة كانت أول من فعلوا هذه الفعلة الشنيعة في الإسلام»، مضيفة «أن قطع الرؤوس ممارسة قديمة عرفتها البشرية بمختلف أجناسها وثقافاتها، وأن هذه العملية اللاإنسانية كانت معروفة لدى بعض العرب في الجاهلية، وبعد أن جاء الإسلام لم يثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه حُمل إليه رأس كافر بعد قطعه، ولا أنه أمر بحزّ الرؤوس؛ بل إن النصوص الشرعية لم تؤسس لمثل تلك العقيدة التي ينتهجها تنظيم داعش في القتل والذبح والتمثيل بالضحايا».
ورأت الدراسة «أن الكارثة الكبرى تكمن في محاولات هذا التنظيم الإرهابي إيجاد مبرّرات من الدين الشريف لشرعنة هذه الانتهاكات»، مع أنها لا تمت للإسلام بصلة.
وعن الأسباب التي تدعو «داعش» لقطع الرؤوس، تقول الدراسة إنها تشمل: إشباع سادية القائمين على التنظيم الذين أدمنوا رؤية الدماء، فأصبحت رؤية هذه الرؤوس المقطوعة عامل نشوة لهم، ومن ثم التأثير على الأهالي في الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم، حتى يأتمروا بأمرهم وينضووا تحت سلطانهم. بالإضافة إلى رفع معنويات المقاتلين في صفوف التنظيم بإظهار قوة التنظيم. وإيصال رسالة لأعداء التنظيم بأن هذه هي نهاية من يعاديهم وأن قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث جزاء من يحاربهم. وشن حرب أعصاب باستخدام وسائل الإعلام المختلفة كي يصل الخبر بكل مقوماته العنيفة لجميع أنحاء العالم.
حول ما يظهر من استسلام ضحايا «داعش»، تقول عبير مرسي، وهي خبيرة نفسية في مصر: «هناك نوعان من الوعي يسيطران على الإنسان في كل الأوقات: الأول الوعي العادي المتمثل في الفعل ورد الفعل، والآخر هو حالة الذهول التي تسيطر على الشخص، بحيث يكون عاجزًا عن استيعاب الوضع ما يجعله في حالة استسلام شديدة». موضحة أن من يأسرهم «داعش» يسيطر عليهم الوضع الثاني، فضلا عن احتمال أن يتم تخدير الضحايا، وأن يحقنهم بمواد معينة قوية وشديدة التأثير.
من جانبه، يقول الدكتور عبد الحليم منصور، وهو أستاذ للفقه المقارن، إن «من أسوأ أنواع القتل ما يفعله (داعش) ومن على شاكلته من التنظيمات المتطرفة من ذبح البشر، وسفك دمائهم على النحو الذي تظهره وسائل الإعلام المختلفة، وهذا الأمر يدل على وحشية لا نظير لها في عالم البشر اليوم، وأن هذه القلوب هي كالحجارة بل أشد أقسوة، ذلك أن الحجارة ترق وتهبط من خشية الله»، مضيفا: «إنهم بذلك يرسلون رسالة إلى العالم أن من يخالفونهم سيكون مصيرهم إلى الذبح، وأن من لا يؤمن بفكرتهم فهو كالحيوانات لا قيمة له، ولا يستحق إلا القتل على هذه الصفة. وهؤلاء القتلة وسفاكو الدماء ينطلقون في جرائمهم هذه من منطلق تكفيرهم لكل من يخالفهم، واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم على النحو الذي تنقله وسائل الإعلام المختلفة في العالم».
وعن استسلام الضحايا في مشاهد الإعدامات، قال منصور «الملاحظ أن قتل الضحايا يتم في هدوء تام، واستكانة كاملة دون مقاومة، وهذا يعود إما لأن هؤلاء الضحايا يخضعون للتعذيب والضرب المبرح في أماكن متفرقة وغير ظاهرة من البدن، الأمر الذي يجعل هؤلاء الضحايا خائفين مستكينين يمشون طوع ما يريده الدواعش خوفا من التعذيب والضرب المبرح لا سيما أنهم يعلمون أن مصيرهم إلى القتل لا محالة، فيكون هذا سببا في الاستكانة والطاعة الكاملة لهم، أو أن الضحايا يمكن أن يكونوا قد خضعوا لتأثير عقاقير مهدئة تجعلهم هادئين مستجيبين للأوامر دون أدنى مقاومة». وتابع منصور «أما فكرة الوعد بالعفو هذه التي يرددها البعض والتي من شأنها أن تجعل الأسير هادئا ولا يقاوم، فأرى أنها غير واردة بالمرة لأنهم من الجبروت بمكان، ولديهم من وسائل التعذيب المختلفة، والوسائل العلمية الحديثة ما يخضعون به ضحاياهم لما يريدون دون وعد بعفو أو غيره».
وفي السياق ذاته، قال الدكتور أحمد علي سليمان، المدير التنفيذي السابق لرابطة الجامعات الإسلامية، إن «جرائم تنظيم داعش لم تتوقف عند قتل وذبح المدنيين والعسكريين في البلاد العربية والمناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا أو حتى ليبيا؛ بل امتدت لذبح الرعايا الأجانب الذين يعملون في الدول العربية، وكله باسم الدين والدين منه براء». أما عن التصوير الذي يقوم به «داعش»، فلم يستبعد سليمان استخدام «داعش» للخدع السينمائية والصور المركبة والتكنولوجيا البصرية عند ذبح الأجانب، لافتًا إلى أن «داعش» برع في إنتاج دعاية الرعب عبر تصوير عمليات الإعدام المروّعة لمن يقعون تحت قبضته «وهذه الفيديوهات المفبركة أو الحقيقية التي يبثها مع استخدام طريقة تخدير الضحايا تصيب من يشاهدها بالرعب والألم والتوتر، وهذا مقصود ومستهدف وليس اعتباطًا».
من ناحية أخرى، رصدت الدراسة المصرية، أن تنظيم داعش يعتمد في رؤيته القتالية على عدد من الأحاديث والروايات «التي يسيء تأويلها وتفسيرها، ويلوي أعناق نصوصها لتتوافق مع سياسته الإجرامية في القتال والحرب، ليبرّر بها شرعيته المزعومة وادعاءاته التي يزعم من خلالها زورًا وبهتانا تأسيس الخلافة الإسلامية في الأرض، كما يبرر بها ما يرتكبه من فظائع وجرائم في حق الإنسانية». وقالت: إن التنظيم الإرهابي أصدر فتوى تبيح لمقاتلي التنظيم ذبح كل من يخالفهم، ونصّت فتوى «داعش» على أن «الذبح فريضة إسلامية غائبة» واستدل التنظيم بعبارة من حديث نبوي شهير «جئتكم بالذبح» دون الوقوف على مدلولاته وسياقه.
وتابعت الدراسة «استند التنظيم التكفيري إلى جزء من حديث آخر وهو (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، وهو ما نشره التنظيم في مجلة (دابق) أحد أذرعته الإعلامية، حيث أوضح التنظيم أن هذا الحديث إشارة إلى أن الله لم يبعث الرسول (صلى الله عليه وسلّم) بالسعي في طلب الدنيا ولا بجمعها واكتنازها ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها، وإنما بعثه داعيا إلى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم». وفندت تأويلات تنظيم داعش لمثل هذه الأحاديث.
وأضافت الدراسة أن «داعش» ارتكب جرما كبيرا في حق الكلام النبوي، حيث انتزع عبارة من الحديث الشريف الذي رواه أحمد وغيره، وفيه «استمعوا يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح»، فذهبوا في فهمها مذهبا غريبا لا أساس له، ينسبون به إلى الهدي النبوي ظلمات وجرائم، مشيرة إلى أن التنظيمات الإرهابية زعمت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل الذبح والقتل شعارا لهذا الدين وحاشاه صلى الله عليه وسلم من هذا الفهم المنحرف، وسوّغوا به لأنفسهم قطع الرقاب، وذبح الآدميين بصورة مفعمة بالبطش والفتك، لا يرضاها دين الله ولا يقرها؛ بل ينكرها أشد الإنكار.
واختتم الدكتور سليمان أن التمويل الضخم ووسائل التقنية الحديثة الماثلة للعيان في الفيديوهات والمنشورات التي ينشرها «داعش» عبر آلياته الإعلامية تدل دلالة واضحة على أن الدوائر التي تقف خلف التنظيم كبيرة جدا، وهي تمده بأرقى وأحدث ما وصلت إليها من تكنولوجيا الاتصالات وآليات الإعلام الحديث، فضلا عن إمداد التنظيم بالموارد المالية والأسلحة.