يشير صعود التيارات اليمينية في عدد من دول أوروبا، عبر صناديق الاقتراع، إلى أن الأوروبيين على وشك التخلي عن تراث التنوير، والاستسلام للآيديولوجيات العنصرية، والتخلي طوعًا عن الانفتاح والتسامح. وكان التطور الأحدث في هذا الاتجاه حصول حزب «البديل من أجل ألمانيا» صاحب النزعة الشعبوية المعادية للمهاجرين، أخيرًا، على نحو 21 في المائة من الأصوات وحلوله ثانيًا في الانتخابات الإقليمية لولاية مكلنبورغ - بومرانيا الخارجية، متقدمًا على الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل.
عاشت أوروبا في تاريخها القريب تطرّف النازية والفاشية. وفي التاريخ البعيد عانت من الصراع الطائفي، تطاحن البروتستانت والكاثوليك لما يربو على ثلاثة قرون ونصف القرن، وتنكيل الفرق الكاثوليكية ببعضها عندما مات الآلاف من هؤلاء وأولئك، وهُجّر كثيرون ونهبت أموالهم، وتغيرت خرائط عدد من البلدان.. وفي النهاية لم ينتصر أحد، بل اقتنعوا جميعًا بأن لا أحد منهم يستطيع إلغاء الآخر والقضاء عليه.
مشهد صعود اليمين الأوروبي المتطرف على الأراضي الأوروبية.. من ألمانيا إلى فرنسا، ومن هولندا إلى المجر، ومن النمسا إلى غيرها من بلدان القارة، يشبه الأصوليات القديمة التي عرفتها أوروبا حين رفضت الآخر، ونكلت به قتلاً وتعذيبًا. ولكن يلزمنا الإشارة بداية إلى التفريق بين نوعين من أنواع اليمين أو الأصولية الأوروبية. فهناك يمين تقليدي جلّ هدفه الحفاظ على التقاليد وقواعد الآداب والمعاملات الموروثة والأعراف المحفوظة داخل المجتمع، وفي المقابل يوجد اليمين المتطرف الذي هو الوريث المعاصر للأصولية الأوروبية في استخدام العنف اللفظي بداية، والجسدي تاليًا من أجل الحفاظ على الإرث الوطني.
هذا اليمين الأصولي الأوروبي في نسخته العصرية مغالٍ في شوفينيته القومية والوطنية ومجاهر بعدائه للآخر، لا سيما المختلف عنه في الدين والعرق واللغة، وعادة ما يصب جام غضبه على العرب والمسلمين في أوروبا تحديدًا وتخصيصًا.
يمينان أوروبيان
المشهد الألماني مزعج حقًا، ذلك أن تلك ولاية مكلنبورغ - بومرانيا الخارجية تحديدًا تشهد انخفاضًا في البطالة، وتوقفت الهجرة إليها، وباتت نقطة جذب للسياح.. بل حتى نسبة اللاجئين إليها باتت منخفضة. وعليه فهناك خطب جلل داخل النفس الألمانية، ذاك الذي دفع خُمس عدد الناخبين لانتخاب حزب «البديل من أجل ألمانيا». ولو أضفنا إلى أصواته الأصوات التي حصل عليها الحزب القومي الألماني اليميني، الذي هو حزب «النازيين الجدد» في واقع الأمر، ولا يستنكف مطلقاى عن التباهي بأصوليته، لكانت الحصيلة هي أن ربع عدد الناخبين الألمان في تلك الولاية تقريبًا انتخبوا اليمين الأصولي المتطرف.
القضية إذن ليست المهاجرين العرب والمسلمين، وإن كانت تشكل ركنًا ركينًا في المشهد الأصولي الأوروبي. والدليل على ذلك أن المستشارة ميركل كانت قد توقعت بداية العام الحالي أن يؤدي تناقص أعداد اللاجئين إلى تقليص شعبية حزب «البديل». لكن ما نراه هو العكس، إذ على الرغم من تناقص الأعداد بالفعل ارتفعت شعبية هذا الحزب.
حقًا، يبدو أن الصراع الداخلي الأوروبي بين الأوروبيين أنفسهم هو المردّ الأول لظهور الأصوليات، وما اللاجئون إلا الشرارة التي أظهرت ما في الجوف الأوروبي. هذا ما يؤكده البروفسور فيرنر باتسيلت، وهو أستاذ علوم سياسية في مدينة دريسدن، في حديثه لوكالة «دويتشه فيلله» الألمانية. ويرى باتسيلت أن «الظاهرة الأصولية الألمانية أوسع من تعلات السطح التي ترتكن إلى إشكالية المهاجرين. إذ بات حزب (البديل من أجل ألمانيا) أشبه بحوض تجميع لكل أولئك الذين لديهم شعور بأنهم محكومون من (اتحاد نخبوي) مؤلف من الديمقراطيين المسيحيين والديمقراطيين الاشتراكيين والخضر، حيث لا يمكن القيام بأي شيء إزاءهم».
كذلك يعزو البعض من كبار محللي المشهد الأصولي الأوروبي فوز الأصوات الشعبوية اليمينية إلى خيبة الأمل التي شملت الأفراد من جراء سياسات الاتحاد الأوروبي. وهذه سياسات تراها أصوات كثيرة سياسات شمولية لا تراعي الأبعاد الثقافية ولا العوامل الاجتماعية، عطفًا على الأحوال الاقتصادية لكل شعب أوروبي في تمايزه عن شعب أوروبي آخر. ولهذا كان من اليسير على الأحزاب ذات التوجهات الأصولية أن تتلاعب بمخاوف الجماهير، وتقدم لها محفزات، بجانب عوامل تحريض سطحية على المهاجرين واللاجئين، ناهيك بالعزف على أوتار «الإسلاموفوبيا»، والتلويح بورقة «أسلمة أوروبا». وفي ألمانيا بالذات برزت حركة «بيغيدا» - أي حركة «مواطنون أوروبيون ضد أسلمة الغرب» - التي نظمت كثيرًا من التظاهرات المعادية للمهاجرين المسلمين واللاجئين، وجرى اتهامها في أكثر من حادث عنف ضد المسلمين.
وهكذا، فإن الصعود المزعج لليمين الألماني يمكن أن يذهب بقيادات ذات رؤى سياسية معتدلة وتصالحية مثل المستشارة ميركل، بعيدًا جدًا، ويجعلها تلعق مرار الصبر الناتج عن سياساتها التي رحبت فيها بـ«البؤساء في الأرض». فخلال شهر أغسطس (آب) الماضي أجرى التلفزيون الألماني الحكومي (ARD) استطلاعًا للرأي حول شعبية ميركل وإمكانيات ترشحها لولاية جديدة في منصب المستشارية. كانت المفاجأة أن شعبيتها انخفضت إلى 47 في المائة بعدما كانت 75 في المائة في أبريل (نيسان) 2015، أي قبل تدفق اللاجئين إلى ألمانيا. ولو أجريت الانتخابات العامة هذه الأيام بحسب استطلاع معهد «فورسا»، فإن ميركل ستفوز بنسبة 33 في المائة من الأصوات فقط، مقابل 41 في المائة من الأصوات فاز بها حزبها في انتخابات عام 2013.
الحالة الفرنسية
هذا حال ألمانيا، لكن الأمور لا تبدو أفضل في فرنسا. والواقع أن أحدًا لا يستطيع أن يحاجج في صحة القول إن فرنسا وألمانيا يشكلان أعمدة الخيمة الأوروبية، ولهذا فإن ما يقال في ألمانيا يسمع صداه طوعًا أو قسرًا في فرنسا.
وهذا ما حدث بالفعل. فعشية الانتخابات الإقليمية الألمانية ونتائجها المزعجة، كانت زعيمة اليمين الأصولي والمتطرف في فرنسا مارين لوبن تهنئ من وصفتهم بـ«الوطنيين في حزب البديل لألمانيا»، وتكتب على حسابها في «تويتر» الكلمات التالية: «ما كان مستحيلاً أصبح اليوم ممكنًا.. الوطنيون في حزب البديل يكتسحون حزب ميركل»!
كلمات لوبن هذه تدفعنا إلى التأمل جليًا في المشهد الفرنسي، حيث تمضي الأوضاع في السياق الألماني ذاته، فقد أظهر استطلاع للرأي أن الرئيس فرنسوا هولاند سيخسر الانتخابات الرئاسية في 2017 من الجولة الأولى، وأن المواجهة في الدورة الثانية ستكون بين مرشح حزب الجمهوريين (الديغوليين) وحزب الجبهة الوطنية الأصولي اليميني.
الاستطلاع الذي أجري بين 2 و5 سبتمبر (أيلول) الحالي وشمل 1006 ناخبين لحساب صحيفة «لوفيغارو» وقناة «إل سي إي» الإخبارية، أفاد بأن هولاند - وهو الرئيس الأدنى شعبية في فرنسا - سيخسر منذ الجولة الأولى، متوقعًا أن يحصل على ما بين 11 و15 في المائة من الأصوات فقط، بينما يتوقع حصول لوبن على 29 في المائة و«الديغولي» آلان جوبيه على 33 في المائة.
ومن يتابع الساحة السياسية الفرنسية اليوم يجد أن الأصولية الفرنسية أتت تجاهر برؤاها العنصرية بلا تردد. والذي استمع الأيام الماضية إلى تصريحات روبير مينار، عمدة مدينة بيزييه (جنوب فرنسا) المعروف بعنصريته وأصوليته المتشددة لتلفزيون «إل سي إي» نفسه، يدرك خطورة الموقف، وخصوصًا عندما قال مينار: «كي تكون فرنسيًا فإن ذلك يعني - كما كان يقول الجنرال شارل ديغول - أن تكون أيضًا أوروبيًا وأبيض وكاثوليكيًا بالتأكيد».
تصريحات هذا السياسي الفرنسي المتطرف لا تتوقف عند المسلمين أو العرب، بل تشمل عزفه على أوتار اللون والعرق أيضًا، وهو ما جعل وزيرة شؤون ما وراء البحار في فرنسا إريكا باريت، السمراء البشرة، للتعبير عن صدمتها، قائلة: «أنا مصدومة، هذه فرنسا ليست موجودة.. وإلى الذين يحلمون بالتجانس أضع أمامهم ثراء تنوعنا».
لا تلاقي ولا قبول
الأصوليون الأوروبيون لا يؤمنون اليوم بفكرة التلاقي أو قبول الآخر. ويسقطون من ذاكرتهم الجمعية كيف تغذّت الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس من التراث الأوروبي المسيحي وغذّته في آن معًا، لتنشأ تلك الحضارة الأندلسية التي تبقى فريدة في تاريخ الإنسانية. إذ انتشر الإسلام بين الثلث الأول من القرن السابع ومنتصف القرن الثامن في مناطق أوروبية شملت معظم شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وقسمًا من فرنسا، ليبدأ تاريخ عالمي ساده نسيج حضاري واحد بين مختلف شعوب العالم المتوسطي.
هذا التاريخ يلغيه العنصريون من أمثال روبير مينار، الذي يحدثنا اليوم عن نسبة التلاميذ من الأطفال المسلمين الذين يتعلمون في مدينته، وكيف أن نسبة التلاميذ المسلمين في إحدى مدارس بيزييه 91 في المائة، ويرى «أن هذه مشكلة بالتأكيد، وأن ثمة حدودًا للتساهل والتسامح!».. وعلامة الاستفهام في هذا المقام هي كيف يمكن أن يغدو المشهد الفرنسي حال وصول مارين لوبن إلى قصر الإليزيه؟
للأسف، عدوى اليمين الأصولي الأوروبي تنتشر كما النار في الهشيم اليوم عبر كل أرجاء القارة الأوروبية. ففي النمسا هناك احتمالات بوصول يميني متطرف للرئاسة مجددًا بعدما تقرر إعادة الانتخابات الرئاسية هناك، وكيف فاز حزب الحرية اليميني المتطرف أخيرًا بـ40 مقعدًا من أصل 183 مقعدًا في المجلس الوطني.
في جنبات النمسا يتردد اليوم صدى لصوت كارثي كلف العالم نحو ستين مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية: «ألمانيا الآرية.. ألمانيا فوق الجميع». الآن هناك شعار لحزب الحرية النمساوي هو «النمسا أولاً»، وقد ارتكزت حملة المرشح الرئاسي اليميني المتطرف نوربرت هوفر على تقليص المنافع التي يحصل عليها المهاجرون وإعطاء النمساويين الأولوية في العمل.
ثم هناك المجر ورئيس وزرائها اليميني المغرق في الأصولية فيكتور أوروبان، الذي لا ينفك يتخذ من الثقافة الإسلامية التي يحملها المهاجرون معهم - واللاجئون كذلك حسب ادعاءاته - ذريعة وفزاعة تدعو الأوروبيين لرفض التعايش مع المغايرين دينًا وعقيدة. ولا يزال أوروبان يتزعم التحذيرات بل التهويلات الأوروبية العنصرية حول وجود «ترابط وثيق» بين ظاهرتي اللجوء والإرهاب!
والمؤلم أن ادعاءات أوروبان وحزبه الذي سيطر على آخر ثلاثة انتخابات في المجر، باتت تلقى أصداءً وآذانًا صاغية في أوروبا. ففي نهايات يوليو (تموز) الماضي كشف تقرير نشره معهد «بيو ريسيرتش» الأميركي أشار فيه إلى أن غالبية الأوروبيين باتت ترى أن تدفق اللاجئين إلى القارة يزيد من مخاطر وقوع اعتداءات، وتبدي شريحة كبيرة منهم مخاوف من انعكاسات موجة الهجرة على الوظائف في بلدانها.
ولا تحتاج هولندا إلى وقفة خاصة، فاليمين الأصولي هنا حاله يغني عن سؤاله. ولقد بلغ الأمر برئيس حزب «من أجل الحرية» العنصري خيرت فيلدرز، المعروف بعدائه الشديد للمسلمين، حد دعمه لرجل الأعمال الأميركي والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، ولا سيما فيما يخص دعواته لمنع المسلمين من دخول البلاد، ووصفه بأنه «شخص شجاع يملك أفكارًا جيدة». وللعلم، يفترض أن تنظم انتخابات في هولندا العام المقبل، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن شعبية حزب فيلدرز تزداد في مواجهة أزمة اللاجئين، وتظهر كذلك، أن ذلك الحزب سيحصل على أكبر عدد من الأصوات ليشغل 31 مقعدًا من أصل 150 في البرلمان، أي أكثر من ضعف عدد مقاعده الحالية البالغ 15 مقعدًا. وتبقى الإشارة إلى أن برنامج حزب فيلدرز الذي يرفع شعار «هولندا مجددًا لنا»، إغلاق كل المساجد في هولندا وحظر القرآن، بالإضافة إلى إغلاق مدارس المسلمين. وفي مسعى للقضاء على ما يسميه «أسلمة» هولندا، يضم البرنامج أيضًا غلق الحدود ومراكز طالبي اللجوء، ومنع وصول مهاجرين من بلدان مسلمة، وحظر الحجاب في الوظيفة العامة، ومنع عودة الأشخاص الذين سافروا إلى سوريا للقتال.