«سرت المحررة».. «ولاية طرابلس».. «جنود الخلافة في ليبيا». كلها عينة من أسماء لصفحات اختفت من على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن كان يبثها تنظيم داعش، انطلاقًا من أول مقراته في شمال أفريقيا بعد أن سيطر في منتصف عام 2015 على مدينة سرت، مسقط رأس الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي قتل فيها أيضًا عام 2011. ويقول محققون من مدينة مصراتة بعد أن جمعوا مخلفات الدواعش المنهزمين، إنه لوحظ وجود تراجع كبير في الدعاية التي كان يطلقها التنظيم في ليبيا عبر الإنترنت عقب هزيمته في سرت. ويشير أحد المحققين في إفادة لـ«الشرق الأوسط» طالبًا عدم ذكر اسمه، إلى أنه تبين أيضًا وجود نشاط متزايد لعناصر التنظيم المتطرف في «العراق والشام» لملء الفراغ الذي تسبب فيه انهيار منظومة الاتصالات الداعشية في سرت، وأن الصفحات والقنوات التي تظهر بين حين وآخر خلال الشهرين الأخيرين.
عثر مقاتلو قوات «عملية البنيان المرصوص» التابعة لحكومة الوفاق الوطني الليبية المقترحة، أثناء اجتياحهم لحصون «داعش» في سرت على حواسب آلية وهواتف حديثة وكاميرات متطورة، وأجهزة أخرى كان يستخدمها التنظيم المتطرف في بث أفكاره والترويج لنفسه على الإنترنت ليس في الأوساط الليبية فقط، ولكن في المنطقة والعالم، بعضها باللغة العربية والبعض الآخر باللغة الأجنبية على يد عناصر غالبيتها من أفريقيا.
ويقول محقق عسكري من مصراتة: «حين تراجعت قدرة التنظيم في سرت على الدعاية لنفسه عبر قنوات التواصل الإنترنتي، دخل حساب على تلغرام تديره مجموعة صغيرة تابعة للتنظيم في مدينة بنغازي، للمساعدة بنشر الدعاية والصور الحية، لكن، وبعد تدمير مراكز اتصالات (داعش) في سرت، ومصادرة الكثير من المعدات والأجهزة، تأثر الحساب بالسلب وتراجعت إمكاناته.. في الأيام الأخيرة أصبح التنظيم في ليبيا يضطر لنقل الأخبار والترويج، اعتمادًا على ما تبثه المواقع الداعشية من العراق وسوريا».
واقتحمت عدة ميليشيات، من تلك التي رضيت بالعمل ضمن قوة «البنيان المرصوص» المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية، مقرات مهمة كان «داعش - سرت» يتخذها مراكز للدعاية من بينها مبنى الإذاعة المحلية والمطبعة ومجمع الحواسب في قاعة واغادوغو. وبدأت عملية دخول سرت في مايو (أيار) الماضي على يد مقاتلين ينتمي أغلبهم إلى مدينة مصراتة التي تبعد نحو مائتي كيلومتر عن سرت. ويعملون تحت قيادة رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج. ووفقًا لتحقيقات مبدئية فقد جرى مصادرة ما لا يقل عن خمسين من الحواسب والهواتف الذكية التي تحوي برامج للتواصل السريع عبر الإنترنت، بما فيها من أسماء لمشتركين في مناطق مختلفة داخل ليبيا والعراق وسوريا ومالي ونيجيريا وغيرها.
ومن بين البرامج والصفحات التي كان يعتمد عليها «داعش سرت»، «فايبر» و«واتساب» و«يوتيوب» و«تلغرام»، وهذا الأخير يتيح بث الرسائل وإنشاء قنوات إخبارية لمجموعات خاصة، منها، وفقًا لما جرى رصده على الحواسب والهواتف المصادرة من مركز «داعش» في مقر الإذاعة المحلية، ملفات تخص ما يسميه التنظيم باسم «ولاية طرابلس» التي تعد سرت تابعة لها إداريا. ويحوي أحد الملفات خطبًا ودروسًا دينية وكلمة للخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي وأخرى للمتحدث باسمه، محمد العدناني (قتل في غارة في سوريا قبل أسبوعين)، بالإضافة إلى دروس أخرى لأحد قيادات التنظيم في العراق والشام والمعروف باسم تركي البنعلي.
ووفقًا للتحقيقات يظهر في كثير من الصور ومقاطع الفيديو التي لم يسبق بثها على الإنترنت، وجوه لشخصيات ليبية وأجنبية غير معروفة، يبدو أنها كانت تتعامل مع التنظيم عقب سيطرته على سرت. ويقول المحقق المصراتي إن ما جرى جمعه يخضع للفحص، فليس كل من تعامل مع «داعش» هو داعشي. ويضيف أن بعض التجار الذين كانوا يسيِّرون شاحنات الطعام والسلع بين شطري ليبيا كانوا يمرون على البوابات الأمنية التي كان يقيمها «داعش» على الطريق الساحلي الرابط بين سرت وباقي المدن الكبرى.. «كان عناصر (داعش) يبتزونهم ويحصلون منهم على جانب من هذه المؤن عنوة».
ويبدو في أحد المقاطع المصورة في بوابة أمنية كانت تابعة لـ«داعش» في غرب سرت، أن عناصر التنظيم يعرفون سائق شاحنة من تلك التي يستوقفونها. حدث ذلك وفقًا للمقطع المصور، في شهر فبراير (شباط) الماضي. وكانت الشاحنة تنقل عدة آلاف من قوارير مياه الشرب إلى بلدات ومواقع في منطقة الهلال النفطي المجاورة. ويقول محقق آخر، إن سائق الشاحنة بدا أنه يعرف ما ينبغي عليه عمله حتى يتمكن من المرور إلى الجهة الأخرى من سرت.
حين اقترب من البوابة لوح لعناصر «داعش» من بعيد، ثم صف الشاحنة على الطريق الترابي إلى جانب الحواجز.. ونزل وبدأ يفك الحبال، فيما شرعت عناصر من «داعش» في إنزال كراتين المياه. وحصلوا على ربع الحمولة. ولم يظهر المقطع المصور على «تلغرام» أو أي من مواقع «داعش» في حينه، لكن التنظيم بث صورا فيما بعد لنفس الشاحنة، وزعم أنها مرسلة من «الأخوة في ولاية طرابلس لنصرة جنود الدولة في سرت». ويقول المحقق إن فحص ملفات «داعش» على الأجهزة التي جرت مصادرتها على يد قوات البنيان المرصوص، تبين إلى حد كبير زيف الدعاية التي كان التنظيم يروج بها لنفسه.
واستعادت قوات البنيان المرصوص مبنى «إذاعة سرت» من «داعش» الشهر الماضي. ويشارك محققون محليون وأجانب (معظمهم من دول غربية منها الولايات المتحدة وبريطانيا)، في الكنز الإعلامي الذي تركه «داعش» خلفه دون أن يجد الوقت لإعدامه أو إحراقه أو حتى نقله بعيدًا عن أيدي القوات المدعومة من الغرب. ويحوي مبنى الإذاعة مواد مسجلة معظمها لـ«البنعلي» الذي سبق وزار سرت العام الماضي، وألقى في مساجدها دروسًا تحريضية، بينما توجد غالبية المواد الفيلمية على حواسب تخص إدارة الإعلام في سرت، وجرى العثور عليها أثناء تمشيط مستشفى «ابن سينا» والحيين الأول والثالث بالمدينة.
ويظهر قادة من «داعش» في بعض اللقطات التي تعود إلى يونيو (حزيران) الماضي، أي بعد بدء عملية البنيان المرصوص بشهر تقريبا، وهم يصدرون أوامر بإعدام خصوم لهم رميًا بالرصاص في الميدان بزعم مخالفة التعاليم. ولوحظ أن بعض الأطراف المسؤولة في «عملية البنيان المرصوص» تخشى من انتقال ملفات «داعش» التي تحوي معلومات ثمينة، إلى المحققين الغربيين، خاصة الأميركيين. كما يشيع مناخ من عدم الثقة فيما يتعلق بالمصير الذي سينتهي إليه مخزون «داعش» المعلوماتي في سرت.
ويقول مستشار من طرابلس يعد من المقربين من المجلس الرئاسي لـ«الشرق الأوسط» إن وثائق داعشية تخص نظم اتصالات التنظيم عبر الإنترنت وعلاقاته بخلاياه النائمة في بعض المدن الليبية وبعض الدول المجاورة، وطرق حصوله على السلاح والمقاتلين، قد تكون قد انتقلت بالفعل إلى خارج ليبيا، في الأسبوعين الماضيين، مشيرًا إلى أن قوات أجنبية ومستشارين ومحققين غربيين كانوا يعملون جنبًا إلى جنب مع قوات البنيان المرصوص، بل إن بعضهم استبق القوات المحلية في الدخول إلى مراكز داعشية مهمة وحيوية في سرت.
ومع ذلك يشير ما تبقى من مستندات ووثائق إلى وجود علاقة قوية بين «داعش» في سرت وعدد من التنظيمات المتطرفة خاصة في بنغازي، وهذا الأمر في حد ذاته يعكس الحالة المعقدة في ليبيا، لأن تلك التنظيمات التي تحارب الجيش في بنغازي، يجري دعمها من قيادات في طرابلس وفي مصراتة، ومنها قيادات تشارك في «عملية البنيان المرصوص». وتكشف إحدى الوثائق التي تمكنت «الشرق الأوسط» من الاطلاع عليها، وجود اتصال ودعم بين قيادي عسكري من مصراتة (في عملية البنيان المرصوص)، وما يسمى بـ«مجلس شورى ثوار بنغازي» الذي يضم خليطًا من مقاتلي جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة و«داعش».
وحين تراجع وجود «داعش سرت» على الإنترنت بسبب الهجوم الذي تعرض له، بدأت أطراف في «مجلس شورى ثوار بنغازي» في تقديم العون من خلال تأسيس صفحات على مواقع التواصل وعلى «تلغرام» وعلى «يوتيوب»، بالإضافة إلى استغلال مواقع الإنترنت الشهيرة لدى المتطرفين، مثل «بيس إت»، و«توب فور توب»، و«أرشيف دوت أورج»، التي تتيح، وفقًا لتقنية ابتدعها المتطرفون، بث بيانات وصور ومقاطع فيديو، لجمهور بعينه. لكن هذا الأمر لم يدم طويلاً بعد أن تمكن الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر من تحطيم كثير من مراكز المتطرفين في آخر معاقلهم في ضواحي غرب بنغازي.
ولوحظ خلال الأسابيع الأخيرة أن المواقع التي تبث من العراق وسوريا وغيرهما دخلت على الخط. ويقول أحد المحققين إن كل هذه الأدوات الإنترنتية التابعة لـ«داعش» من خارج ليبيا تتبع ما يسمى بـ«ديوان الإعلام المركزي» المسؤول عن كل ما يصدر عن التنظيم في العالم، حيث بدأ هذا الديوان الدخول بنفسه لساحة الفضاء الإلكتروني الليبية، و«استكمال المهمة». وأصبح «الإعلام المركزي»، على غير المعتاد، يبث أخبار «داعش» في ليبيا وسرت، بالإضافة إلى بنغازي، وسط برقياته اليومية عن مدن «الرقة» و«الباب» و«الموصل» وجبل «ثردة» وغيرها من مناطق الاشتباكات في الشطر الآسيوي.
ووسط هذا السيل الإعلامي الذي ينقل فيه تنظيم داعش تطورات معاركه قرب بغداد ودمشق، من خلال مواقع وصفحات وحسابات «وكالة أعماق»، و«ملحمة دابق»، و«نشرة النبأ»، وغيرها، ظهرت أخبار التنظيم في ليبيا، حيث أقر التنظيم بالمصاعب التي يواجهها في سرت، وشن في المقابل حملة ضد الجميع.. ضد المجلس الرئاسي الراعي لعملية «البنيان المرصوص» التابعة لمصراتة، وضد الجيش وقائده حفتر الذي يتمركز في بنغازي، وضد قيادات الجماعة المقاتلة في طرابلس.
ومن بين آخر البرقيات المتداولة في هذا الصدد، شن «داعش» هجومًا شديد اللهجة على الكتائب والميلشيات الليبية التي تحمل لقب «ثوار». وقام بنفي هذه الصفة التي ظهرت أثناء الحرب على نظام القذافي في 2011، عن كل من يخالف التنظيم، وعن كل من لا يقدم له يد المساعدة في سرت وبنغازي ودرنة وصبراتة والزاوية، وغيرها من المدن الليبية.
ووضع التنظيم قرين كل قائد من قادة «الثوار» ومن قادة المجلس الرئاسي والجيش والبرلمان، في الشرق والغرب، كلمات تحريضية قاسية تدعو للقتل والتصفية الجسدية. وقسَّم من أسماهم بـ«الثوار» بين مجاميع قال إن قائد كل مجموعة منها «يأتمر بأوامر من قادة الروم والجرمان، والأنجليساكسون والأميركان، في سرت ودرنة وطرابلس وحتى بنغازي».
ويعكس الارتباك والتحريض العشوائي التي أصبح عليه التنظيم في ليبيا، من خلال أدواته الإعلامية الداخلية والخارجية، حالة من الضعف، ليس على المستوى القتالي وتحريك العناصر على الأرض فقط، ولكنه طال أهم الحلقات وهي حلقة «الترويج والترويع»، بينما يتوقع المحققون أن تُظهر الملفات التي جرى العثور عليها في مواقع التنظيم في سرت أسرارًا جديدة، طال الزمن أو قصر، حتى لو كانت هذه الملفات قد انتقلت إلى أيدي دول أجنبية.
8:17 دقيقة
تراجع التواصل {الداعشي} على الإنترنت بعد معركة سرت
https://aawsat.com/home/article/740746/%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B5%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4%D9%8A-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%AA%D8%B1%D9%86%D8%AA-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%B3%D8%B1%D8%AA
تراجع التواصل {الداعشي} على الإنترنت بعد معركة سرت
التنظيم في «العراق والشام» يتدخل للمساعدة عبر الفضاء الإلكتروني
- القاهرة: عبد الستار حتيتة
- القاهرة: عبد الستار حتيتة
تراجع التواصل {الداعشي} على الإنترنت بعد معركة سرت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة