صدرت رواية تابوكي عن الإيطالية عام 1994، وهي ترصد الأيام الثّلاثة لبيسوا في المشفى بينما يقوم الشّعراء الذين خلقهم بالتوافد إلى زيارته وتمضية بعض الوقت معه والإدلاء بالاعتراف وواجب العزاء والمعاتبة على تلك الأيام التي قضوها معا مترافقين.
يبدع تابوكي في تلخيص حياة بيسوا الشّخصية والإبداعية، ويظهر مهارة فائقة بفهمه العميق وقراءته الكبيرة لكلّ شعراء بيسوا.
لا ينبغي على أي أحد أن يترك وراءه عشرين كتابا، وإذا كان قادرا على الكتابة مثل عشرين من الأشخاص المختلفين، فهم يكونون عشرين من المختلفين. يقول بيسوا.
على كلّ يمكن قراءة رواية تابوكي بالعربية بمقدمة طويلة ملهمة شارحة وشديدة الأهمية للمترجم إسكندر حبش، منشورات دار طوى. وإن كنت تزور لشبونة وتبحث فيها عن بيسوا، سيسعفك حقا بتحويلك من سائح ساذج إلى فائح بالأسئلة وفادح بالاكتشاف. يعرّفك على جذوة التعدد، فالذات الواحدة مصابة بعسر الحياة.
ثلاثة أيام في لشبونة برفقة بيسوا وشعرائه الذين خلقهم قبل الوصول إلى موته، دفعتني إلى تأجيل الذهاب إلى قبره حتى آخر يوم لي في لشبونة.
تمدّني هذه الرّواية بالخيوط الأولى للمسير، فأتجه إلى كاتدرائية أستيريا بقبتها الباروكية الكبيرة، بدعة معمارية جاثمة بلا مبالاة. حديقتها المفتوحة للعامة كانت تجمع بيسوا مع أوفيليا كويروز، حبّه الأوحد، يتخاصمان، ويتبادلان النذور بأبدية العشق، وبعض القبلات المسروقة المباركة.
حياتي أقوى مني، سامحيني يا أوفيليا، كان علي أن أكتب، لم يكن علي سوى أن أكتب، لم أكن أستطيع القيام بأي شيء آخر، لقد انتهى كل شيء الآن.
ستكشف رسائل بيسوا إلى حبيبته الجانب الأبسط والحقيقي منه، وستقوم ابنة أخت حبيبته بنشرها بعد زمن طويل، محققة شهرة ودخلا من كبيرا من المال.
سنجد فيها بيسوا العليل، المقهور بالتفاصيل، الذي يتمنى أن يربح جائزة الألف باوند، كي تتحسن ظروف حياته. سنجد فيها بيسوا العاشق الطيب الصادق المبتلى بمرض في الفم، ما يُضطرّه إلى ألا يتوقف عن البصاق كل دقيقتين. سنجد واقعية هذه الشخصية المثيرة الغامضة عارية مجروحة وغارقة في شؤون الحياة، من إيجار البيت والخوف من خسارة العمل والاهتمام بالأم المتطلّبة. الخائف على صورته، عند حبيبته، المتصدي للنميمة الاجتماعية.
سنجد شخصية هشة من لحم ودم لا تشبه أبدا الصورة الخيالية المدهشة للكاتب العبقري.
- وداعًا أيها الحب الصغير، حاولي ما استطعت أن تحبيني حقًا، لمشاركتي آلامي، لتتمني لي صحة جيدة؛ حاولي أن تتظاهري بذلك بشكلٍ ما!
- الرسائل علامات انفصال، الرسائل نكتبها لأولئك الناس الذين لم تعد لدنيا رغبة في الحديث إليهم.
- وداعًا، سأضع رأسي في قاع دلو. هكذا يفعل الكبار - على الأقل عندما يكون لهم - أولاً عقل، ثانيا رأس، ثالثًا دلو حيث يضعون رؤوسهم!
سنتابع المسير بخريطة رواية تابوكي عن بيسوا، أمام البرلمان، وتمشي باتجاه الكالسداد دو كومبرو، حيث قطن سابقًا، في غرفة ضمن بيت سيدة مجنونة في السّتين من عمرها تعمل بتحضير الأرواح، كانت تدعى ماريا داس. كان يشاركها جلساتها الرّوحية، حين تتصل بزوجها الجنرال الميت، وتدخل معه في أحاديث لا تنتهي، عن الحروب، وأسعار الفلفل، وخلال تلك الفترة ابتكر شخصية «برناردو سواريس»، وبدأ يخط كتابه اللاطمأنينة.
وأيضا اخترع شاعرًا مبتدئًا يعمل شرطيا، يدعى «كويلهو باشيكو»، كان يتبادل مع أقرانه الشّعراء إشارات سرّية، بالأصابع ورفيف الجفون.
في مشفى المدينة، رقد بيسوا أيامه الثّلاثة الأخيرة، في الغرفة رقم 4. سيكون من اللائق أن ألقي نظره عليها، قبل البحث عن الشّعراء الذين تناسلوا منه، وزاد عددهم على السّبعين شاعرا.
في غرفة الاحتضار، سيجيء أنداده مودعين. أول الزائرين كان «ألفارو دو كامبوس».
سيتعاتبان، قليلا، ويقول ألفارو دي كامبوس: ألاحظ أنّك لم تعد تنادني بالمهندس، ولم تعد تكلّمني بصيغة الاحترام، وتكلّمني من دون تكلف!
يجيب بيسوا: لقد دخلت حياتي وأصبحت بديلا عني، ولأنّك أنت السّبب في إنهاء علاقتي بأوفيليا. وأيضا أنت من شككت بوجودي وادعيت بأنني لست سوى نسج من خيال.
يرد دي كامبوس: بخصوص الشّك بوجودك أعتذر عن ذلك، ولكن هل فعلاً ظننت أنّك كنت موجودا أكثر مني؟ أما حبيبتك فهي لم تكن تلائمك. كان زواجكما سيفشل، الآن إذا رجعت إلى رسائل الحبّ التي كتبتها لها ستجد كم هي سخيفة. الرّسائل والحالة التي كنت تكذب بها، أتمنى أن تشكرني على ذلك. لقد أنقذتك من السّخف.
أتدري أن رسائلك اليومية السّاذجة التي بعثتها إليها ستقوم ابنة أختك بنشرها بعد سنوات، وستبدو فيها كم كنت أخرقا وساذجا وطيبا. بالعامية «تلوّي القلب» يا عزيزي. سبع عشرة رسالة إلى حبيبتك، تتكلم فيها عن وجع حلقك وكيف تضطر إلى البصق كل دقيقتين، هل تتوقع من انتهازية مثل حبيبتك أن تتفهم صدقك، وأنت تبوح لها بألمك وتناديها برضيعتي، أو فرنادويك. أو حين تصرّح لها برغبتك بأن تربح جائزة الألف باوند التي تحتاجها بشدّة، أو كيف يطردك ربُّ عملك لأنّك غير مؤهل للعمل. وكيف تقضي جلّ وقتك بالانتقال من بيت إلى بيت، وتساعد أمك الطّيبة، وتكشف لها أمراضك وأرقك وأوجاعك وحسراتك، ياه يا عزيزي بيسوا كم أنقذتك من هذه البلوى، كم أنقذتك من السّخف.
يطرق بيسوا ويهمس بحكمة المحتضر، قبل موته بيومين، سيطرح على نفسه ذلك السّؤال العجيب، هل فعلا من السخف أن يكون للشاعر عائلة وأولاد؟ على الأقل سيكون موتًا لطيفًا، محاطا بالأولاد والعائلة، أفضل من مخالطة تلك الأشباح.
هذا ما تخيلته وفكرت به وأنا أستحضر رواية تابوكي عن بيسوا وأمر بجوار المشفى الذي مات فيه.
تاريخيا، الزّواج مضادّ للشّاعر، ولكنّه سيكون منقذًا للكثير من الرّوائيين.
ربّما من بين كلّ الشّعراء، لمع نجم الشّاعر الأميركي دونالد هول، فقد تزوج شاعرة أيضا جين كنيون، وشهد احتضارها وموتها، فأصدر ديوانين جعلاه يلمع كالماسة نقيّة في سوق الشّعر الكاسد «السّرير المطلي» وديوانا بعنوان «من دون».
كان غيابها الفاجع يجتاحه، فتألقت القصيدة، هكذا سيبدو الغياب محرض الشّاعر. أن يكون المرء مهجورًا أو متروكًا، يتلمس أثر الفقد بحواس الشّعر، هي المعادلة المضمونة للبقاء على قيد الشّعر.
ألفارو دي كامبوس، أحد شخصيات بيسوا كان عدميا، لكنه أيضا أحبَّ، سيقول له: لقد أحببت الحياة أيضا، وإذا كنت في أناشيدي المستقبلية والغامضة قد كتبت بسخرية، وإن كنت في قصائدي العدمية، قد دمّرت كل شيء حتى نفسي، لتعلم أنني أحببت الحياة بألم واعٍ.
يرد الشّاعر المحتضر لندّه المعترف: أغفر لك يا كامبوس إذا كنت قد أحببت لمرة واحدة، فهذا لأنك بشري، وإنسانيتك قد غفرت لك.
فيتابع كامبوس: أريد أن أعترف لك يا بيسوا، أني أحنّ وأندم، إلى الحقبة التي كنت فيها شاعرًا منحطًا، أتذكر الآن ضوء القمر والمراكب، والجمال، وكم كنت أحمقا، لأنني كنت أسخر من الحياة، لقد أضعتها ولم أعرف كيف أتمتع بها، وهربت حياتي مني.
لم أستطع فك رموز الواقع، أصبت بالإحباط فهربت للعدمية، مثلما هرب غيري إلى الدين، ويهرب العالم إلى المال، للنتيجة نفسها ولكن بتسميات مختلفة.
الآن أنا سأموت معك، ولكن كان علي أن أقول لك ذلك، لأننا لن نلتقي ثانية، وأعرف أن مزيدا من الأشباه والشّعراء الذين خلقتهم ينتظرون دورهم ليلقوا عليك نظرة الوداع.
يقول بيسوا: أسمعني يا كامبوس قصيدة تخطر على بالك في هذه اللحظات قبل أن تغادر.
كامبوس: حسنا إن كان من قصيدة فلتكن «طريق سينترا على ضوء القمر». وها أنا أتلو عليك مقطعا منها.
أأخلف أحلاما من ورائي، أم ترى هي السيارة التي تخلف الأحلام؟
أأنا قائد السيارة، أم أنا السيارة المعارة التي أقود؟
كان بيسوا يردد ما تبقى من القصيدة حين اكتشف أنّ ضيفه قد غادر وهو يبكي، وعلى الباب سيكون معلمه (ألبرتو كاييرو) ما زال قلقا من كل شيء خصوصا رؤية الأشياء على أنها أشياء، هادئا يرتل أناشيده بمعزل عن أي آيديولوجيا أو ثقافة تعكّر صفو الشّعر:
الجوهري أن نحسن الرؤية
أن نحسن الرؤية دون تفكير
أن نحْسن الرؤية عندما نرى
ولا أن نرى عندما نفكّر
وعلى عكس ما توقع، كان ألبرتو كاييرو يريد أن يعترف لتلميذه لا أن يسحب منه الاعتراف، فباشره فورا:
أنا هو مسبب الأرق لك، في كل تلك الليالي التي لم تستطع أن تنام، أنا كنت من أزورك في الليل، أجعلك متوترا، أحيل ليلك إلى جحيم من الخيالات، أملأ مكان رقادك بالذّكريات، والكلمات، وجعلتك تكتب بلا أدنى شفقة لنفسك.
أطرق بيسوا بهدوء، ثم قال: كنت أشكّ أنّه أنت، على الرّغم من كلّ الألم المدمر للأرق، لكنّك جعلت من تلك الليالي خصيبة.
لولاك يا ألبرتو لم أنتج، ولم أكتشف. كنت أحتاجك كي تكون لي بمثابة المعلم والأب.
لا يمكن أن تنجز الحياة من دون هذا المثل، فحين تصادر الحياة الواقعية منك الأب أو المعلم، عليك بابتكاره، كنت أحتاج يا ألبرتو، إلى مخثّر، ودليل. لولاك لتطايرت حياتي إلى شظايا. لم يطل المعلم المكوث، شعر بالإطراء الشّديد ودّع تلميذه بفرح، وغادر، لأنّ بالباب كان ينتظر منذ وقت طويل، ندّه الذي عاد من البرازيل على ما يبدو.
ريكاردو ريس، طبيب وشاعر كلاسيكي، همس بيسوا: ريس هو «هوراس إغريقي يكتب بالبرتغالية». أغلب قصائده تتحدث عن الحاجة إلى تقبّل القدر. ريس كان ملكي الهوى، ولذا لاذ بالفرار إلى البرازيل حينما سقطت الملكية. وهو الشّخصية التي عنون لها سارماغو روايته الخالدة «سنة موت ريكاردو ريس». كان هذا أخطر أنداد بيسوا، لأنه حاول أن يقنع العالم أن بيسوا نفسه لم يكن موجودا وأنه هو من ابتكره.
حين دخل قابله بيسوا بابتسامة لطيفة.. إذن ها أنت تعترف بأني موجود ؟
فأجاب ريكاردو بقصيدة.
دع الريح تمر لا تسألها شيئا
ليس لها من معنى
غير أنها الريح تمر.
بعده يأتي برناندو سواريس يحلم بالأرواح المتعددة، فحياة واحدة لا تكفي وشخصية واحدة لا تكفي. وبسرعة طلب منه بيسوا أن يلقي عليه قصيدة دكان التبغ.
حسنا أيها العزيز:
عندما أردت نزع القناع
التصق بوجهي
عندما نظرت في المرآة كنت قد شخت
ثملا كنت، لم أعد أعرف وضع القناع الذي لم أنزعه
طوحت به
وفي خزانة الثياب نمت
مثل كلب معتنى به
لكونه غير مؤذٍ
بعد هؤلاء، توافد العشرات من الشّعراء الأنداد الذين اخترعهم قبل أن تحين ساعته ويسلم الرّوح إلى النّهاية. يمكن استبيان بعضٍ من أشهرهم، فهناك أنطونيو مورا مؤلف كثير من النّصوص الفلسفية المكرّسة لموضوع الوثنية. رفاييل بالدايا المنجّم، شأن بيسوا نفسه، والمأخوذ بالغيبيات. مؤلف «رسالة في النكران»، حيث تكون فرضيته الأساسية أن الوجود وهمٌ، والقدر هو أكبر كذبة.
هناك أيضا البارون دي تايفه الذي عرف بمؤلفه الصّغير «تعليم الرواقي» الذي عبر فيه، شأن بيسوا أيضا، عن إحباطاته بسبب عجزه عن إنهاء أي عمل، وفي النّتيجة يفكر بالانتحار. وبعده تأتي ماريا خوزيه العاشقة الحدباء كاتبة رسالة إلى عامل، تشاهده كل يوم من نافذتها، إلا أنّ الرّسالة لم ترسل، وهكذا واحد تلو الآخر مروا للوداع وذابوا وبقي وحده ليتأمل اللحظات الأخيرة وهو يخرج آخر الأنفاس.
من المفيد معرفة أن أحد معاني كلمة بيسوا بالبرتغالية هو: «لا أحد».
لتدرك أن المكان قد فرغ، كنت أقف على بابه، أراقب وجهه المطمئن، وشاربه الدقيق، قبعته السّوداء، ومعطفه السّميك، علبة لفافات تبغه، وعصاه الطّويلة.
- والآن علي أن أتمنى لك رحلة موفقة يا فرناندو، وأقول لك كما يقول شاعري الصّغير الذي مات أيضا في مشفى وهو دون الثامنة والعشرين:
أنت اخلع عنك الحياة
واذهب بصراحة إلى الموت
الموت يا عزيزي سمكة لن تقبض عليها
إلا إذا كانت يداك جافَّتين
ومشاعرك حافية
وهنا سمعت بيسوا يردد، مشاعرك حافية، نعم مشاعرك حافية.. مشاعرك حافـ.....
وغاب كل شيء.
* كاتب من سوريا
بيسوا.. شاعر واحد لا يكفي.. حياة واحدة لا تكفي
أنطونيو تابوكي وروايته الكاشفة «هذيان أيام فرناندو بيسوا ـ الأيام الثلاثة الأخيرة»
بيسوا.. شاعر واحد لا يكفي.. حياة واحدة لا تكفي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة