بعد مرور أزيد من نصف قرن على دخول قصيدة النثر العربية دائرة الممارسة الإبداعية والجدل النقدي، ما زال الجدل مستمرًا، بخصوصها، مكرسًا حالة من الانقسام الحاد والاصطفاف، معها أو ضدها، إذ فيما يرى البعض أن التعبير بالنثر شعريًا اكتسب «مشروعية نهائية»، أصبحت معها قصيدة النثر واقعًا شعريًا مكرسًا، مع النظر إليها باعتبارها «شكلاً متمردًا ومتمنعًا وملتبسًا»، يشدد آخرون على أن «منطق تاريخ الأمم لا يعترف بما هو غريب عن سياقه منفي عن سيرورته»، وأنه «لا سبيل إلى إقناعنا بشرعية (قصيدة النثر)، إلا أن تنقد نفسها بادئة من اسمها».
ضمن هذا السياق، يأتي مؤلف الناقد والشاعر المغربي محمد الصالحي، الذي أعطاه عنوان «شيخوخة الخليل.. بحثًا عن شكل لقصيدة النثر العربية»، حاملاً، كما نقرأ في مقدمته، «هم السعي، ما أمكن، نحو تبديل موقع وآليات النظر إلى الموضوع، لأجل الاقتراب من ممكنات الصياغة العلمية الملائمة للواقع الشعري لقصيدة النثر، بدل الإبقاء على ترجيع الشعارات التنظيرية التي رَسَّبها هذا التراكم الهائل».
ورغم أن الكاتب سبق أن نشر كتابه في طبعة مغربية، فإنه يعتبر الطبعة الثانية، التي نشرتها أخيرًا «دار الهلال» بمصر، «طبعة أولى»، مشددًا، في حوار مع «الشرق الأوسط»، على أن الطبعة المصرية «ستمنح القارئ العربي إمكان الدنو من الكتاب أكثر»، حيث يقول: «صدرت الطبعة الأولى من الكتاب مطلع الألفية، لكن الجهة الناشرة كدأبها لم توزع الكتاب. الحق أنها الطبعة الصفر لا الأولى. لقد كنت الكاتب والموزع معًا. أوصلت نسخ الكتاب بطرقي الخاصة إلى أصقاع بعيدة، كما وزعته على المهتمين هنا في المغرب. الطبعة الحالية إذن هي الطبعة الأولى الحق من الشيخوخة».
وعن اختيار «شيخوخة الخليل» عنوانًا رئيسيًا للمؤلف، ودلالات العنوان الفرعي «بحثًا عن شكل لقصيدة النثر العربية»، قال الصالحي: «الكثيرون تسرعوا في تأويل وفهم العنوان. رأوا في الشيخوخة موقفا سلبيًا من العروض الخليلي. والحق أن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. لقد ذيلت كلمة الغلاف بجملة تلخص أطروحة الكتاب لكن قل من انتبه إليها: ولد الخليل شيخًا وهو لن يموت. فأنت ترى إذن أن المراد لم يكن قتل الخليل بل وضعه في مكانه اللائق: العروض الخليلي جزء بسيط من مكونات أخرى ينهض عليها الإيقاع الشعري. ثم إن العروض ليس هو الوزن وهنا تكمن المعضلة. فالدارس العربي قلما يميز بين العروض والوزن. الوزن مدى مفتوح على اللانهائي والمحتمل والصدفة، في حين أن العروض جزء يسير من قارة الوزن. ليس هذا مكان التفاصيل. وسيصدر لي بعد أشهر من الآن قسم ثانٍ من الكتاب يزيد هذه الأمور تفصيلاً. أما العنوان الفرعي فيقود القارئ إلى المراد من الكتاب: هل من واقع شكلي وحقيقة جمالية تخضع لها بوضوح هذه التلال من النصوص التي نسميها باطمئنان كسول قصائد نثر؟ إنه الإشكال الأكبر. فكل كلام يدعي مدبجه أنه قصيدة نثر يتلقفه النقد ويتناوله بصفته كذلك. والحق أن النقد هو من يتحمل مسؤولية هذا الإخلال. فما قصيدة النثر؟ هل كل كلام يجافي العروض الخليلي نسميه قصيدة نثر؟ إنها الأزمة».
وعن توقفه عند «الأوهام» التي «رسخت تسمية قصيدة النثر في الحركة الشعرية العربية الحديثة، بعيدًا عن أي اجتهاد نقدي علمي قد يقارب، قليلاً أو كثيرًا، هذه القصيدة محاولاً القبض على قوانينها الإيقاعية الظاهرة والخفية»، أشار الصالحي إلى أن «العمل يتوقف على فرضيتين أساسيتين ستوجهان كل الأسئلة المتشعبة التي سيطرحها: أولاها أن الشعر العربي نسق كلي يستوعب عددًا لانهائيًا من الأشكال الشعرية، بما فيها قصيدة النثر التي ليست سوى إمكان إلى جانب عدد من الإمكانات الإيقاعية الأخرى المتحققة والمحتملة. وثانيها أن معالجة المسألة الأجناسية عليها (إبستيمولوجيا) أن تؤول إلى تمييز وضبط حدود النثري والشعري، وليس إلى الخلط بينهما كما هو حاصل الآن، ما دام هذا الخلط لا يحل مشكل قصيدة النثر بل هو نوع من الهروب إلى الأمام. فالواقع يؤكد أن المبدع والقارئ معًا مجبران على الانتظام داخل نسق نوعي كلي أشكل من التيار والمدرسة والاتجاه، أي داخل جنس معين للكتابة يعين الواقع الشكلي والفيزيائي للقصيدة». لذلك شدد شاعر «أحفر بئرًا في سمائي» و«أتعثر بالذهب»، على أن كتابه النقدي «لا يدعي ما ليس فيه»، مشيرًا إلى أن «البحث في قصيدة النثر يقتضي مساءلة النص الشعري العربي منذ أن تخلق واستوى لتحديد البنية الإيقاعية فيه رغم تنافر الأشكال ظاهريا. فما الجامع بين النابغة الذبياني وبدر شاكر السياب وسركون بولص؟ ثم تنثال الأسئلة الموجعة»، قبل أن يضيف: «حسبُ هذا الكتاب أن يكون إشارة إلى منبع الحرائق، وحسبه أنه فتح عيني على غنى البحث في الإيقاع وأذاقني لذاذة المساءلة».
وعن مسؤولية النقد الشعري العربي في ضبط «الحقيقة الشكلية» لقصيدة النثر، رأى الصالحي أن «السؤال الذي تغافلت عنه الدراسات الشعرية العربية حول قصيدة النثر هو ذاته السؤال الذي واجه الشعرية الغربية الحديثة: كيف نحدد قصيدة نثر من قصيدة غير نثرية؟ وبالتالي: ما الجامع بين هذه الأشكال التي ندرجها جميعًا تحت اليافطة نفسها: قصيدة النثر؟ أفضى ذلك إلى التباس المصطلح وضبابية حدود الجنس ولا محدودية السمات الشكلية والإيقاعية لقصيدة النثر، وجعل الدراسات التي تتناولها تنتهي إلى مجرد تأملات خارجية ترصد الثيمات على حدة أو الخصائص اللغوية على حدة، ساكتة عن معنى الشكل وشكل المعنى. غياب كل ذلك وغياب تناول قصيدة النثر كشكل له ما للشكل الشعري عامة من مكونات وخصائص مع اختلاف في استراتيجية الإيقاع جعل هذه الأشكال المتنافرة واللانهائية التي تسمى قصائد نثر مستحيلاً، والحق أن سبب الاستحالة يعود، أصلاً، إلى هذا التعدد والتشتت وإلى قصور النقد عن إيجاد الرابط الإيقاعي لا إلى طبيعة في قصيدة النثر».
وعن النقاش المتواصل بصدد تجربة قصيدة النثر العربية، ووجهات النظر التي ترى أن هذه القصيدة قد فرضت مصطلحها، شرعيتها وشعريتها في سياق «حرب» بين الأشكال الشعرية انتهت إلى «هدنة» و«تعايش» بين الإخوة - الأعداء، قال الصالحي: «ليس ما تسمعه من حشرجة نقعا يثار. وحتى إن كان كذلك فهو ليس غبار حرب بين أشكال. إنها حشرجات استراتيجية إيقاعية تحتضر. استراتيجية في لحظة النزع الأخير، تسلم الروح. المحتضر هنا ليس هو الوزن أو القافية أو البلاغة، بل هو الطريقة التي ارتضاها الشعر منذ زمن للانبناء والإعلان عن كينونته. إن ما يتغير من فترة شعرية إلى أخرى ليس هو الجوهر الذي هو شعرية النص، بل استراتيجية الاشتغال، فيخال لكثير من النقد حتى الأكاديمي منه، للأسف، أن النص الشعري تخلى عن بعض مكوناته واستبدل بها أخرى، في حين أن مكونات النص هي ذاتها وإنما أعيد انتشارها فتوارت قليلاً مكونات وطفت إلى السطح مكونات، فيما يظل النص الشعري نصا شعريا موزونا شئنا أم أبينا لأن الوزن هو نحو الشعر، كما أن الإيقاع هو نحو الإلقاء والتلقي، في حين أن العروض هو ذلك الجزء اليسير من الوزن الذي استطاعت النظرية تأطيره ووضعه في قالب في فترة أدبية ما. من هنا فالنظرية القائمة تعادي عادة الأشكال الجديدة لأنها مجبرة على استبدال أدواتها في الاشتغال. لقد استنفدت القصيدة ذات الشطرين إمكاناتها الإيقاعية وستعود بعد دورة إيقاعية كاملة. فما المراد بالشرعية؟ إن اللقاءات والندوات والأماسي وتخصيص أعداد من المجلات والدوريات لقصيدة النثر إنما يزيد الأمر التباسا، في غياب السؤال الإيقاعي الأكبر».
وعن الكيفية التي يمكن بها لقصيدة النثر، اليوم، أن تتخلص من أخطاء البدايات، أو من البداية الخاطئة، أقر الصالحي بأننا «ما زلنا نلوك أخطاء البدايات»، وأن «التخلص من الزلات تلك يقتضي طرح السؤال الأكبر الذي ينأى النقد السائد بنفسه عنه: ما هذا الذي ظل عالقًا بالنص الشعري الذي يسمي نفسه قصيدة نثر ويجعله شعرًا رغم إسقاطه ظاهريًا لكثير من المكونات التي نُظر إليها مكونات لازمة للنص الشعري. من هنا تنبثق الأسئلة ثم لا تنتهي. الاجتهادات التي حاولت وتحاول ربط قصيدة النثر بأجناس أدبية قديمة كالمقامة والكتابات النثرية المفتوحة كما عند المتصوفة اجتهادات لا تفضي إلا إلى مزيد من التعمية و(المتاه). فشجرة نسب قصيدة النثر هي ذاتها شجرة نسب الشعر العربي منذ أن قصدت القصائد إلى اليوم. يا أهل النقد تعالوا إلى إيقاع سواء بيننا. إننا نجترّ سيلاً من الأوهام نظنها دعامات لهذا النص، وعلى رأسها ما حددته سوزان برنار، وهو ما توقفت عنده في الكتاب لأثبت أنه يفتقر إلى المسوغ الإجرائي العلمي الواضح لتحديد قصيدة النثر».
وعن الكيفية التي يمكن أن «نسائل بها نوايا الشاعر ونوايا النص معًا»، رأى الصالحي أن «تجنيسية النص ليست موكولة لصاحبه. فللنص شجرة نسبه وهي الكفيلة بإثبات كونه فرعا منها. القارئ لا يقرأ بعين الشاعر ولا حتى بعينه هو بل بعين الجنس. يقودك النص الشعري منذ البدء ويضعك في المسار السالك والموصل، وأنت القارئ لحظتئذ تتوكأ على عصاك وتتقدم في دروب الشعر الشائكة الموخزة. النقد الشعري العربي الحديث أخل بواجبه حيال هذه المسألة، فهو بدل أن يبحث عن الثوابت الجنسية للنص صار يسقط عليه ما يراه كفيلا باعتباره شعرًا. أي إنه يسائل نيات الشاعر بدل نيات النص».
بعد أكثر من نصف قرن.. قصيدة النثر إلى أين؟
الناقد المغربي محمد الصالحي يبحث في التباساتها وضبابية حدودها
بعد أكثر من نصف قرن.. قصيدة النثر إلى أين؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة