للمؤرخ البريطاني توني جت تجربة مهمة للمدى القصير الذي تصل إليه حرية التعبير في الولايات المتحدة الأميركية عاشها في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2006، حين كان مدعوًا لإلقاء محاضرة في القنصلية البولندية في نيويورك. كانت المحاضرة حول اللوبي الإسرائيلي، ولكن جت فوجئ باتصال من القنصلية يخبره بإلغائها في اللحظات الأخيرة، وتبين فيما بعد أن منظمات يهودية كانت وراء الإلغاء.
كان جت قد أثنى على مقالة نشرها اثنان من الباحثين الأميركيين – تحولت فيما بعد إلى كتاب – حول اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة ومدى نفوذه. ويبدو أن موقفه من إسرائيل لفت الانتباه إليه لحساسية الموضوع، على الرغم من أهميته بوصفه مؤرخًا بارزًا وأستاذًا ذائع الصيت في نيويورك، نتيجة لإسهامات كثيرة، منها ما يقارب الاثني عشر كتابًا نشرها حول تاريخ أوروبا وفي الشأن العام، وذلك حتى تاريخ وفاته عام 2010. يقول في حديث مسجل على الـ«يوتيوب» إنه اقترح على صحيفة الـ«نيويورك تايمز» نشر شيء حول المقالة نفسها، وهي لجون ميرشايمر من جامعة هارفرد، وستيفن والت من جامعة شيكاغو، فوافقت الصحيفة وكان ذلك إنجازًا، حسب تعبيره، لكن الصحيفة اشترطت عليه أن يشير في مكان ما من المقالة إلى أنه يهودي، وهو ما حدث بالفعل، فضمن جت العبارة التالية في المقالة، في إشارة إلى معاداة السامية، قائلاً إن الحساسية تجاه ذلك الموضوع «مضرة لليهود. معاداة السامية حقيقية بما يكفي (أعرف شيئًا عنها لأنني ترعرت يهوديًا في بريطانيا أثناء الخمسينات)...». يقول جت إن الصحيفة أرادت حماية نفسها بالإشارة إلى هوية جت اليهودية.
في مقالته حول اللوبي الإسرائيلي الذي كتب عنه الباحثان الأميركيان ناقش جت الأسباب المحتملة وراء الصمت الذي قوبلت به مقالة الباحثين الأميركيين، مشيرًا إلى عدد منها ومنتهيًا إلى أنها لا تكفي لتفسير ظاهرة الصمت تلك. فما السبب الأكثر إقناعًا يا ترى؟ إنه الخوف، يقول جت: «الخوف من أن يُظن أن هناك سماحًا بالحديث عن (مؤامرة يهودية)؛ الخوف من أن الدافع هو معاداة إسرائيل؛ وفي النهاية، هو الخوف من أن يقال إن ثمة تسامحًا مع معاداة السامية». وفي المقالة نفسها لا ينسى المؤرخ البريطاني أن يرسم صورة لقيود الخطاب التي تجعل من أشخاص آخرين حذرين عند تناول الموضوع حتى في أوروبا الأكثر تسامحًا مع الموضوعات التي يصمت الأميركيون إزاءها. ويذكر جت على سبيل المثال الكاتب الألماني كرستوفر بيرترام الذي كتب في صحيفة «ديي تزايت» أن «من النادر أن تعثر على باحثين لديهم الرغبة والشجاعة في كسر التابوهات». هذا مع العلم أن الشخصيات العامة في ألمانيا، كما يذكرنا جت، «تحذر حذرًا شديدًا عند مناقشة مسائل كهذه». غير أن المفارقة، حسب جت، هي أن الإعلام الإسرائيلي كان أكثر جرأة من نظيره الأميركي في مناقشة الموضوع الذي تصدى له الباحثان الأميركيان، فقد نشرت «هآرتس» والـ«جيروزاليم بوست»، وهما الصحيفتان الرئيسيتان في إسرائيل، مقالات لكتاب إسرائيليين يشير بعضها إلى تحيز الساسة الأميركيين المبالغ به تجاه إسرائيل، وهو أمر في غير صالح الدولتين، كما تقول المقالة، ويشير بعضها الآخر إلى أهمية ما نشره الباحثان الأميركيان بوصفه جرس إنذار في العلاقات الأميركية الإسرائيلية ينبغي أن يستفيد منه الجانبان. ويسخر جت من قرائه الأميركيين حين يقول إن من الصعب اتهام إعلاميين إسرائيليين بمعاداة السامية. صرامة القيود الخطابية تجاه اليهود وإسرائيل في أميركا أشد منها في إسرائيل نفسها.
في عام 2007 أجرت صحيفة «الفايننشال تايمز» لقاء مع جت تحدث فيه عن موقفه من إسرائيل سواء في ما كتب هو أو في تعليقه على ما كتب غيره وعن بعض النتائج المترتبة على ذلك الموقف. «يبدو أن اتخاذ موقف نقدي تجاه إسرائيل يهزم كل شيء آخر في الحياة»، ومن تلك الهزيمة الثمن الذي يدفعه المنتقد. يقول جت: في أسوأ اللحظات تلقيت تهديدات بالقتل، وأسوأ من ذلك تهديدات ضد أسرتي. كان أولئك الأشخاص يتصلون بمكتبي ويقولون: «أخبروا توني جت أن الأفضل له ألا يسمح لأولاده أن يخرجوا إلى الشارع» أو «أخبروا توني أن هتلر اتصل ويقول: مبروك»... حتى تلك اللحظة لم أكن أعي إلى أي حد أن هذا الهوس بمنع أي نقد لإسرائيل هو هوس تتفرد به أميركا.
غير أن نقد جت لإسرائيل يعود إلى فترة سبقت ما حدث عام 2006، ففي عام 2002 نشر جت مقالة طويلة حول حرب 1967 التي حققت فيها إسرائيل انتصارًا ساحقًا على جيرانها العرب لكنها في الوقت نفسه، كما يقول جت في مقالته، تعاملت مع ذلك النصر على نحو حوله إلى نصر مظلم، بتعبير جت في عنوان المقالة «النصر المظلم»، وفيها يشير إلى تجربته الشخصية في العمل في إسرائيل متطوعًا أثناء حرب 67. لقد منح النصر إسرائيل لحظة من النشوة والزهو جعلتها ثملة بما أنجزت، وواثقة من قدراتها أكثر مما ينبغي، أي بالقدر الذي أدى إلى كارثة حرب 1973 في بداياتها على الأقل. فقد أساء الإسرائيليون تقدير قدرة العرب على التخطيط والمباغتة.
في مايو (أيار) 2006، أي بعد مقالته في «لندن ريفيو» بشهرين، نشر جت في صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقالة بعنوان صادم إسرائيليًا: «البلد الذي لا يريد أن ينضج». في تلك المقالة صدم المؤرخ البريطاني اليهودي بعض قرائه في الولايات المتحدة وإسرائيل بعبارات مثل: «إن مستقبل إسرائيل من زاوية معينة مظلم. إنها ليست المرة الأولى التي تجد فيها دولة إسرائيلية نفسها على الحدود الهشة لإمبراطورية أناس آخرين: مغرورة بصحة مسارها؛ تتعامى عن الخطر الذي يمكن أن تستثيره في نهاية المطاف تجاوزاتها من قبل راعيها الإمبراطوري (الولايات المتحد) إلى حد الانزعاج وأكثر؛ وغير وعابئة بإخفاقها في كسب أصدقاء آخرين».
وفي نهاية المقالة جاءت ملاحظة صُفّت بالأحرف المائلة، للإشارة إلى أنها ليست جزءًا من المقالة، وتضمنت أن المقالة كتبت بتكليف من الصحيفة «الليبرالية» الإسرائيلية «هآرتس» ثم يشير إلى أن المقالة «أثارت سيلاً من ردود الفعل الانتقادية المتوقعة من قبل مراسلين ومدونين مترددين في مواجهة أي نقد لإسرائيل أو سياساتها وممارساتها». يلاحظ بعد ذلك أن «معظم ردود الفعل الهستيرية جاءت من الولايات المتحدة»، مضيفًا أن «كما يحدث غالبًا في هذه الأمور، فإن ردود الفعل الإسرائيلية – سواء المنتقدة أو المؤيدة – كانت أكثر توازنًا».
يقول الصحافي من «الفايننشال تايمز» الذي أجرى اللقاء مع جت عام 2007 إن مشروعات المؤرخ البريطاني القادمة تتضمن دراسة للفكر في القرن العشرين، إلى جانب «موضوع من المحتمل أن يبقيه بعيدًا عن الجدل وهو «تاريخ القطارات». ذلك هو تأثير المخاوف من حرية التعبير التي تولدت عن مغامرة الكتابة الانتقادية عن إسرائيل، المخاوف التي رأينا غير مفكر غربي يعيشها حين يتماس في كتاباته مع المحظور من حدود الخطاب.
توني جت.. «اليهودي كاره الذات»
المؤرخ البريطاني كان يتلقى تهديدات بالقتل نتيجة موقفه من إسرائيل
توني جت.. «اليهودي كاره الذات»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة