خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية بتركة سياسية مثقلة دفعت ساسة فرنسا وألمانيا إلى النظر في كيفية الحفاظ على السلام المستقبلي من خلال فكرة التكامل بين الدولتين لدرء الحرب بينهما. وهو ما أسفر عن سلسلة من المبادرات التكاملية على رأسها «مجلس أوروبا»، الذي أسس عام 1949 ليكون بمثابة منبر للتحاور الأوروبي. ثم جاءت مبادرة «الجماعة الأمنية الأوروبية»، التي لم تلق قوة الدفع المناسبة خصوصًا مع نشأة «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) وتحفظ بريطانيا للتكامل في مجالات الدفاع، ومعها ألمانيا.
غير أن مبادرة فرنسا لإنشاء «جماعة الفحم والصلب (الفولاذ)» كبداية للتكامل بين ألمانيا وفرنسا لاقت ترحيبًا كبيرًا لا سيما من قبل المستشار الألماني كونراد أديناور الذي رأى أنها الوسيلة الآمنة لاستيعاب فرنسا، وأداة للخروج من أية عزلة سياسية بعد الهزيمة تمهيدًا لتوحيد ألمانيا بعدما انقسمت فعليًا. ومن جانبها، كانت فرنسا تهدف من وراء هذه المبادرة السيطرة على صناعة الصلب التي مثلت المكوّن الأول للصناعات العسكرية من خلال إيجاد إدارة فوقية تستطيع معها ضبط توحيد سياسيات الصلب بما يضمن لها عدم خروج ألمانيا نحو طريق منفرد لإعادة بناء قواتها المسلحة. وبالفعل، جرى إعلان تأسيس الجماعة بانضمام إيطاليا ودول «البنيلوكس» (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ) ليصار تنسيق السياسيات ورفع الحواجز في تجارة هاتين السلعتين.
لقد كان من الممكن أن تقف حركة التكامل الأوروبي عند هذا الحد، إلا أن إصرار الدول الست على تطوير التكامل في مجالات أخرى فتح الباب على مصراعيه أمام حلم أوروبي تدريجي جديد، وهنا اختلفت بعض الآراء في الخطوة التالية. جان مونيه «مهندس» الجماعة كان يسعى للتحرك العرضي من خلال إيجاد مجالات أخرى للتكامل تدريجيًا، وبعض الآراء سعت لبناء اتحاد جمركي، وهي الخطة التي تسبق السوق المشتركة عادة، إلا أن الهولنديين كانوا الأكثر طموحًا إذ تقدّموا بمقترح لإنشاء جماعة اقتصادية كاملة أي مرحلة «السوق المشترك».
وإزاء تعدّد المقترحات قرّرت الدول الست إنشاء لجنة خاصة عُرفت باسم «لجنة سباك» (Spaak) نسبة إلى بول هنري سباك، وزير الخارجية البلجيكي، الذي كان من أكثر المتحمّسين لفكرة التكامل الأوروبي. ولم تكتفِ هذه اللجنة بعقد جلساتها بين الدول الست، بل دعت أيضًا كثيرًا من الدول الأخرى وعلى رأسها بريطانيا للمشاركة في المناقشات، وتداولت هذه اللجنة المقترحات المختلفة وسعت لجذب مزيد من الدول لتطوير التكامل الأوروبي.
كان الموقف البريطاني مراوغًا منذ البداية، إذ كانت تعليمات كبير مفاوضيها هو رفض الالتزام بأي قرار فعلي، خصوصًا أن الاختلاف في وجهات النظر كان واضحًا بين وزير الخارجية هارولد ماكميلان ورئيس الوزراء أنطوني إيدن. وفي حين تبنى ماكميلان الموقف البريطاني التقليدي المناوئ لفكرة التوحّد الأوروبي تحت أي شكل والالتزام بـ«العلاقة الأطلسية» مع الولايات المتحدة، رأي رئيس الوزراء إيدن أن الزمن قد تغيّر، وأن التكامل الأوروبي بمشاركة بريطانية يمكن أن يكون أكثر فائدة، لكنه لم يكن على استعداد أن يمضي بخطوات واسعة في هذا الاتجاه. وهو ما جعل بريطانيا تقف على خطوات متباعدة من بعض المشروعات المطروحة، وبالتالي كانت أميل إلى نوع من الرباط غير القوي مع أي كيان يصار إلى تأسيسه.
وحقًا، تداولت «لجنة سباك» المشاريع المختلفة. وبينما سعى الفرنسيون للعمل على أساس قطاع اقتصادي بقطاع وسلعة بسلعة تدريجيًا، سعى وزير الخارجية الألماني يومذاك لإنشاء «منطقة تجارة حرة» بين الدول الست.
غير أن أديناور كان أكثر طموحًا من مجرّد منطقة تجارة حرة فقد كان يسعى إلى سوق مشترك، فقد كان يريد أن يربط أوروبا برباط قانوني وإدارة فوق الدولة Supranational لضمان مستقبل التماسك الأوروبي والتنسيق المستمر بما يُبعد شبح الحرب على المدى الطويل، وقد كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت أكثر قبولاً لفكرة التكامل الأوروبي من أي وقت وشجّعت هذه الخطوات، وقد خرجت «لجنة سباك» بمقترحين أساسيين: الأول هو تأسيس «الجماعة الاقتصادية الأوروبية»، والثاني تأسيس «الهيئة الأوروبية للطاقة الذرية». وكان الهدف من الأولى هو التكامل الاقتصادي الكامل بين الدول الأوروبية بلا استثناء، والهدف من الثانية تأسيس مؤسسة أوروبية تدير الطاقة الذرية لضمان التكامل في هذا المجال خوفًا من تصنيع السلاح الذرّي في ذلك الوقت، وتنسيق سياسات الاستخدام السلمي للطاقة الذرية.
وعلى الفور بدأت المفاوضات الجادة في 1957 عقب تبني الدول لمقترحات اللجنة لتفعيل المشروعين، وانتهت بالتوقيع على «اتفاقية روما» في العام التالي، وذلك على الرغم من المشكلات الكبيرة بين الدول الست لا سيما في مجال الجمارك، إذ بينما سعت فرنسا لرفع التعريفة الجمركية كانت ألمانيا وهولندا تسعيان لعكس ذلك، إضافة إلى الخلافات الخاصة بهياكل السوق المشتركة بين الدول الست. ولكن الاتفاقية في النهاية حسمت الأمر من خلال إقرار كثير من الأسس التي بُني عليها الاتحاد الأوروبي اليوم، وعلى رأسها إلغاء كل الحواجز التجارية بين الدول الست، وتوحيد السياسة التجارية إزاء العالم الخارجي، إضافة إلى الاتفاق على خلق انسجام في السياسات المشتركة في قطاعات النقل والزراعة والضرائب وفتح المجال الكامل أمام المنافسة الحرة في الدول الست، وتشجيع حركة رأس المال والعمالة بين الأعضاء.
الاتفاقية اعتمدت أربعة هياكل أساسية تقوم على إدارة السوق لا تزال قائمة حتى اليوم، وهي مجلس الوزراء الذي يعد أعلى سلطة ويضع السياسات المشتركة عبر المفاوضات والمواءمات، إضافة إلى اللجنة التنفيذية - أو «المفوضية» Commission - ومقرها بروكسل. وهي تقسم إلى قطاعات مختلفة لكل أوجه التكامل بما في ذلك التعامل الخارجي. كذلك جرى إنشاء «محكمة العدل الأوروبية» إضافة إلى «البرلمان الأوروبي»، وكان مقره ستراسبورغ (فرنسا) ولوكسمبورغ (لوكسمبورغ)، ومع أن الاتفاقية الأساسية لم تمنح البرلمان السلطات البرلمانية المتوقعة، فإنه مع مرور الوقت وسع البرلمان من سلطاته وصلاحياته للإشراف على اللجنة الأوروبية.
ولم تتأخر الخطوات التكاملية بين دول السوق المشترك، فعام 1962 أقرت «السياسة الزراعية المشتركة» (CAP)، التي تعد من أكثر السياسات الخلافية داخل وخارج الاتحاد الأوروبي، لأنها اعتمدت سياسة زراعية تعمل على أساس الدعم المباشر للمزارع، وهو ما عارضه قطاع التصنيع، ولكن ارتئيت أهمية هذا القطاع وضرورة منحه المميزات التفضيلية بسبب الصعوبات التي تواجهها الزراعة مقارنة بقطاعات أخرى. كذلك مثلت هذه السياسة تناقضًا مباشرًا بين الدول الأعضاء وباقي العالم بسبب تناقضها مع مبادئ الاتفاقية العامة للتعرفات والتجارة (منظمة التجارة العالمية)، التي أكدت ضرورة رفع الدعم تمهيدًا لحرية المنافسة. وجرى أيضًا رفع الحواجز البينية بين الدول تمامًا في كل الأنشطة بحلول عام 1968، كما أقرّت الدول ضريبة القيمة المضافة من أجل توجيه المساعدات للقطاعات الأكثر تضررًا. وسرعان ما بدأ الاتحاد الأوروبي يتوسع تدريجيًا ليضم اليوم 28 دولة تسعى إلى إقامة فيدرالية أوروبية.
من التاريخ: السوق الأوروبية المشتركة
من التاريخ: السوق الأوروبية المشتركة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة