من التاريخ: السوق الأوروبية المشتركة

بول هنري سباك
بول هنري سباك
TT

من التاريخ: السوق الأوروبية المشتركة

بول هنري سباك
بول هنري سباك

خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية بتركة سياسية مثقلة دفعت ساسة فرنسا وألمانيا إلى النظر في كيفية الحفاظ على السلام المستقبلي من خلال فكرة التكامل بين الدولتين لدرء الحرب بينهما. وهو ما أسفر عن سلسلة من المبادرات التكاملية على رأسها «مجلس أوروبا»، الذي أسس عام 1949 ليكون بمثابة منبر للتحاور الأوروبي. ثم جاءت مبادرة «الجماعة الأمنية الأوروبية»، التي لم تلق قوة الدفع المناسبة خصوصًا مع نشأة «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) وتحفظ بريطانيا للتكامل في مجالات الدفاع، ومعها ألمانيا.
غير أن مبادرة فرنسا لإنشاء «جماعة الفحم والصلب (الفولاذ)» كبداية للتكامل بين ألمانيا وفرنسا لاقت ترحيبًا كبيرًا لا سيما من قبل المستشار الألماني كونراد أديناور الذي رأى أنها الوسيلة الآمنة لاستيعاب فرنسا، وأداة للخروج من أية عزلة سياسية بعد الهزيمة تمهيدًا لتوحيد ألمانيا بعدما انقسمت فعليًا. ومن جانبها، كانت فرنسا تهدف من وراء هذه المبادرة السيطرة على صناعة الصلب التي مثلت المكوّن الأول للصناعات العسكرية من خلال إيجاد إدارة فوقية تستطيع معها ضبط توحيد سياسيات الصلب بما يضمن لها عدم خروج ألمانيا نحو طريق منفرد لإعادة بناء قواتها المسلحة. وبالفعل، جرى إعلان تأسيس الجماعة بانضمام إيطاليا ودول «البنيلوكس» (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ) ليصار تنسيق السياسيات ورفع الحواجز في تجارة هاتين السلعتين.
لقد كان من الممكن أن تقف حركة التكامل الأوروبي عند هذا الحد، إلا أن إصرار الدول الست على تطوير التكامل في مجالات أخرى فتح الباب على مصراعيه أمام حلم أوروبي تدريجي جديد، وهنا اختلفت بعض الآراء في الخطوة التالية. جان مونيه «مهندس» الجماعة كان يسعى للتحرك العرضي من خلال إيجاد مجالات أخرى للتكامل تدريجيًا، وبعض الآراء سعت لبناء اتحاد جمركي، وهي الخطة التي تسبق السوق المشتركة عادة، إلا أن الهولنديين كانوا الأكثر طموحًا إذ تقدّموا بمقترح لإنشاء جماعة اقتصادية كاملة أي مرحلة «السوق المشترك».
وإزاء تعدّد المقترحات قرّرت الدول الست إنشاء لجنة خاصة عُرفت باسم «لجنة سباك» (Spaak) نسبة إلى بول هنري سباك، وزير الخارجية البلجيكي، الذي كان من أكثر المتحمّسين لفكرة التكامل الأوروبي. ولم تكتفِ هذه اللجنة بعقد جلساتها بين الدول الست، بل دعت أيضًا كثيرًا من الدول الأخرى وعلى رأسها بريطانيا للمشاركة في المناقشات، وتداولت هذه اللجنة المقترحات المختلفة وسعت لجذب مزيد من الدول لتطوير التكامل الأوروبي.
كان الموقف البريطاني مراوغًا منذ البداية، إذ كانت تعليمات كبير مفاوضيها هو رفض الالتزام بأي قرار فعلي، خصوصًا أن الاختلاف في وجهات النظر كان واضحًا بين وزير الخارجية هارولد ماكميلان ورئيس الوزراء أنطوني إيدن. وفي حين تبنى ماكميلان الموقف البريطاني التقليدي المناوئ لفكرة التوحّد الأوروبي تحت أي شكل والالتزام بـ«العلاقة الأطلسية» مع الولايات المتحدة، رأي رئيس الوزراء إيدن أن الزمن قد تغيّر، وأن التكامل الأوروبي بمشاركة بريطانية يمكن أن يكون أكثر فائدة، لكنه لم يكن على استعداد أن يمضي بخطوات واسعة في هذا الاتجاه. وهو ما جعل بريطانيا تقف على خطوات متباعدة من بعض المشروعات المطروحة، وبالتالي كانت أميل إلى نوع من الرباط غير القوي مع أي كيان يصار إلى تأسيسه.
وحقًا، تداولت «لجنة سباك» المشاريع المختلفة. وبينما سعى الفرنسيون للعمل على أساس قطاع اقتصادي بقطاع وسلعة بسلعة تدريجيًا، سعى وزير الخارجية الألماني يومذاك لإنشاء «منطقة تجارة حرة» بين الدول الست.
غير أن أديناور كان أكثر طموحًا من مجرّد منطقة تجارة حرة فقد كان يسعى إلى سوق مشترك، فقد كان يريد أن يربط أوروبا برباط قانوني وإدارة فوق الدولة Supranational لضمان مستقبل التماسك الأوروبي والتنسيق المستمر بما يُبعد شبح الحرب على المدى الطويل، وقد كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت أكثر قبولاً لفكرة التكامل الأوروبي من أي وقت وشجّعت هذه الخطوات، وقد خرجت «لجنة سباك» بمقترحين أساسيين: الأول هو تأسيس «الجماعة الاقتصادية الأوروبية»، والثاني تأسيس «الهيئة الأوروبية للطاقة الذرية». وكان الهدف من الأولى هو التكامل الاقتصادي الكامل بين الدول الأوروبية بلا استثناء، والهدف من الثانية تأسيس مؤسسة أوروبية تدير الطاقة الذرية لضمان التكامل في هذا المجال خوفًا من تصنيع السلاح الذرّي في ذلك الوقت، وتنسيق سياسات الاستخدام السلمي للطاقة الذرية.
وعلى الفور بدأت المفاوضات الجادة في 1957 عقب تبني الدول لمقترحات اللجنة لتفعيل المشروعين، وانتهت بالتوقيع على «اتفاقية روما» في العام التالي، وذلك على الرغم من المشكلات الكبيرة بين الدول الست لا سيما في مجال الجمارك، إذ بينما سعت فرنسا لرفع التعريفة الجمركية كانت ألمانيا وهولندا تسعيان لعكس ذلك، إضافة إلى الخلافات الخاصة بهياكل السوق المشتركة بين الدول الست. ولكن الاتفاقية في النهاية حسمت الأمر من خلال إقرار كثير من الأسس التي بُني عليها الاتحاد الأوروبي اليوم، وعلى رأسها إلغاء كل الحواجز التجارية بين الدول الست، وتوحيد السياسة التجارية إزاء العالم الخارجي، إضافة إلى الاتفاق على خلق انسجام في السياسات المشتركة في قطاعات النقل والزراعة والضرائب وفتح المجال الكامل أمام المنافسة الحرة في الدول الست، وتشجيع حركة رأس المال والعمالة بين الأعضاء.
الاتفاقية اعتمدت أربعة هياكل أساسية تقوم على إدارة السوق لا تزال قائمة حتى اليوم، وهي مجلس الوزراء الذي يعد أعلى سلطة ويضع السياسات المشتركة عبر المفاوضات والمواءمات، إضافة إلى اللجنة التنفيذية - أو «المفوضية» Commission - ومقرها بروكسل. وهي تقسم إلى قطاعات مختلفة لكل أوجه التكامل بما في ذلك التعامل الخارجي. كذلك جرى إنشاء «محكمة العدل الأوروبية» إضافة إلى «البرلمان الأوروبي»، وكان مقره ستراسبورغ (فرنسا) ولوكسمبورغ (لوكسمبورغ)، ومع أن الاتفاقية الأساسية لم تمنح البرلمان السلطات البرلمانية المتوقعة، فإنه مع مرور الوقت وسع البرلمان من سلطاته وصلاحياته للإشراف على اللجنة الأوروبية.
ولم تتأخر الخطوات التكاملية بين دول السوق المشترك، فعام 1962 أقرت «السياسة الزراعية المشتركة» (CAP)، التي تعد من أكثر السياسات الخلافية داخل وخارج الاتحاد الأوروبي، لأنها اعتمدت سياسة زراعية تعمل على أساس الدعم المباشر للمزارع، وهو ما عارضه قطاع التصنيع، ولكن ارتئيت أهمية هذا القطاع وضرورة منحه المميزات التفضيلية بسبب الصعوبات التي تواجهها الزراعة مقارنة بقطاعات أخرى. كذلك مثلت هذه السياسة تناقضًا مباشرًا بين الدول الأعضاء وباقي العالم بسبب تناقضها مع مبادئ الاتفاقية العامة للتعرفات والتجارة (منظمة التجارة العالمية)، التي أكدت ضرورة رفع الدعم تمهيدًا لحرية المنافسة. وجرى أيضًا رفع الحواجز البينية بين الدول تمامًا في كل الأنشطة بحلول عام 1968، كما أقرّت الدول ضريبة القيمة المضافة من أجل توجيه المساعدات للقطاعات الأكثر تضررًا. وسرعان ما بدأ الاتحاد الأوروبي يتوسع تدريجيًا ليضم اليوم 28 دولة تسعى إلى إقامة فيدرالية أوروبية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».