عندما يدور الحديث عنه، وعن أهم منصب شغله في الدولة الروسية، يجمع كثيرون على أنه شغل في هرم السلطة منصبًا أهم وأكبر تأثيرا ونفوذًا من منصب وزير أو رئيس حكومة، ألا وهو منصب «الصديق الشخصي للرئيس فلاديمير بوتين». إنه سيرغي إيفانوف سليل مؤسسة «الكي جي بي» ذائعة الصيت والشهرة، ورغم ذلك قيل عنه حين تولى منصب وزير الدفاع إنه «أول وزير دفاع مدني». والحقيقة، أن شخصية إيفانوف لم تغب يومًا عن الصدارة في المشهد السياسي الروسي ودوره في صناعة القرارات الاستراتيجية في السياسة الخارجية لبلاده، إلا أن الحديث عنه تزايد بصورة ملحوظة إثر إقالته من منصبه الأخير «مدير الديوان الرئاسي» بقرار من بوتين في الثاني عشر من أغسطس (آب) 2016.
ومع أن الصديقين بوتين وإيفانوف أكدا أن قرار إقالة الأخير جاء بناء على «رغبة منه»، فإن تغيير موقع شخصية بحجم إيفانوف لم يمض دون تساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي دفعت بوتين لاتخاذ قرار الإقالة. مع هذا سرعان ما خمدت التكهنات المختلفة بهذا الخصوص مقابل معطيات كثيرة تؤكد أن العلاقة بين «الصديقين» ما زالت على حالها، وما زالت نظرة بوتين إلى إيفانوف هي هي، تحكمها مقولة روسية استخدمها بوتين في وصف علاقته مع إيفانوف وتعني تلك المقولة: «علاقة قائمة على الثقة المطلقة والإخلاص والدعم المتبادل».
كان لافتًا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإن أبعد سيرغي إيفانوف عن التحكم بشؤون الكرملين عبر منصبه الحساس «مدير الديوان الرئاسي»، فإنه لم يبعده عن «مجلس الأمن القومي الروسي»، الذي يشكل «مؤسسة صناعة السياسات وتبني القرارات» لا سيما في القضايا الاستراتيجية وفي مسائل حساسة للدولة مثل قرارات الحرب والسلم. إن إبقاء إيفانوف عضوًا في «مجلس الأمن القومي» مؤشر على مسائل عدة في مقدمتها أن المدير السابق لديوان الكرملين لم يخرج من الساحة السياسية ولن يتراجع حجم نفوذه، بل سيبقى محافظًا على دوره في صناعة القرار، وهذا كله يعكس حجم ثقة بوتين به، ويجعل من الحديث عن تحوّلات في السياسة الروسية بعد ابتعاده (إبعاده) عن إدارة الكرملين مجرد تكهنات يرجح أنها لا تحاكي الواقع.
بداية المسيرة
مسيرة سيرغي إيفانوف البالغ من العمر 63 سنة بدأت في مدينة لينينغراد (بطرسبورغ سابقًا ولاحقًا). وهو ابن وحيد لأم كانت تعمل مهندسة في مركز أبحاث علمية، وسخّرت كل طاقاتها لتربية ابنها الذي نشأ وترعرع من دون أب. ومنذ طفولة سيرغي برز لديه حب للمعرفة والتعليم، ومهارة فريدة في اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية. وتجمع مختلف المراجع على أن هذه الصفات تحديدًا شكلت «الحامل» الذي أوصل إيفانوف إلى بداية الدرب في عالم السياسة والسلطة.
إحدى معلماته في المدرسة تقول إنه كان «محبًا للعمل، جادًا ومتواضعًا، وكان من أفضل التلاميذ في صفه لكنه لم يتباهَ يوما بهذا الأمر». مهاراته اللغوية ساعدته دون عناء على مواصلة التحصيل العلمي في جامعة لينينغراد الحكومية المرموقة، وتحديدًا كلية علم اللغات وفقهها والترجمة. وهناك واصل إظهار مستويات جيدة في التحصيل العلمي، دون أن يشكل ذلك عائقًا أمامه ليكون عضوا ناشطًا في المنظمة اللينينية الشيوعية الشبابية (الكومسومول). ومن ثم، كان من الطبيعي أن تلفت شخصيته اهتمام أجهزة الدولة، حيث كان دارجا في العهد السوفياتي أن تتابع هيئة الاستخبارات (الكي جي بي) طلاب الجامعات لاختيار مَن يمكن ترشيحهم للعمل ضمن تلك المؤسسة. ووقع الاختيار على إيفانوف الذي التحق فور تخرجه في الجامعة بمدرسة «الكي جي بي» في مدينة مينسك (عاصمة بيلاروسيا السوفياتية حينها)، حيث تلقى التدريب والعلوم الخاصة لرجال الاستخبارات. ومن ثم شاءت الأقدار أن يُفرز للعمل بدايةً في فرع لينينغراد - قسم مكافحة التجسس وهناك التقى إيفانوف لأول مرة بمن غدا «صديق العمر» وابن لينينغراد.. فلاديمير بوتين، ومنذ ذلك الحين نشأت الصداقة بينهما.
رجل الاستخبارات
حتى اليوم يبقى الجزء الأكبر من المعلومات المتعلقة بعمل سيرغي إيفانوف في قسم الاستخبارات الخارجية والمهام التي نفذها ضمن ذلك القسم محاطة بالسرية، وهو كعادة أي رجل استخبارات كتوم جدًا خلال الحديث عن تلك المرحلة من حياته. ولكن من المعلومات القليلة المتوافرة عنه معروف أن إيفانوف عمل مطلع الثمانينات لصالح الاستخبارات السوفياتية في فنلندا، وكانت مهمته تسليط الضوء على نشاط الأحزاب السياسية هناك. ومن ثم انتقل إلى كينيا، وعمل لصالح اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي في مجال «الجاسوسية السياسية».
ثم إبان سنوات تفكّك الاتحاد السوفياتي وسقوطه، عمل إيفانوف نائبًا لمدير قسم أوروبا في الاستخبارات الخارجية. يُقال إنه تأثر نفسيًا لسقوط الاتحاد السوفياتي ورؤيته استباحة مواقع ومفاصل في الدولة كانت حتى الأمس القريب من المحرّمات، تحت اسم نشر الديمقراطية، وقد تسبّبت تلك المرحلة بـ«التوتر في العلاقة» بينه وبين التيارات الديمقراطية.
وبالعودة إلى علاقته مع بوتين ودور تلك العلاقة في صعود إيفانوف في السلطة، يشير أكثر من مرجع إلى أن بوتين عثر على عمل جديد بعد استقالته في التسعينات من «كي جي بي»، بمساعدة من إيفانوف. وبعد مرحلة قصيرة تغيّرت الأمور، إذ في عام 1998 عيّن بوتين مديرا لمؤسسة الاستخبارات التي أصبح اسمها «هيئة الأمن الفيدرالي»، وما كان منه إلا أن عين إيفانوف نائبا له في إدارة تلك المؤسسة العملاقة. وفي عام 1999 عندما أصبح بوتين رئيسا للحكومة الروسية بادر إلى تعيين إيفانوف سكرتيرًا لـ«مجلس الأمن القومي» الروسي. ثم في عام 2001 شغل منصب وزير الدفاع، ولأن إيفانوف كان قد سُرِّح رسميًا من الخدمة العسكرية عام 2000 فإنه وُصف في حينه بأنه «أول وزير دفاع مدني».
ولدى تشكيل «مجلس الأمن القومي» الجديد، في ظل رئاسة ديمتري ميدفيديف لروسيا (2008 - 2012) لم يُضم اسم إيفانوف إلى عضوية المجلس، بينما عيّنه بوتين - وكان يومذاك رئيسًا للحكومة - نائبا أولاً له مسؤولاً عن ملف الصناعات العسكرية. ومع عودة بوتين إلى الرئاسة عام 2012 استعاد إيفانوف مقعده الدائم في «مجلس الأمن القومي». وأخيرًا شغل إيفانوف منصب «مدير الديوان الرئاسي» منذ نهاية عام 2011 وحتى 12 أغسطس 2016، حين عيّنه بوتين ممثلاً خاصًا لشؤون البيئة وحماية الطبيعة، واحتفظ بمقعده عضوًا دائمًا في «مجلس الأمن القومي» الروسي.
أحد «الصقور»
يدرج كثيرون سيرغي إيفانوف على قائمة «الصقور» بين النخب الحاكمة في روسيا، فهو معروف بمواقفه المتشددة والحادة ضد الغرب ويقف بحزم بمواجهة كل ما ترى فيه روسيا تدخلاً خارجيًا بشؤون الدول. ويفضّل أن تبقى المسائل المتعلقة بالأمن والدفاع خاضعة بشكل تام لقرارات المؤسّسات المعنية، لا سيما القائد العام للجيش والقوات المسلحة.
ومن المواقف والتصريحات التي توضح بعض جوانب شخصية إيفانوف، حادثة يرويها صحافيون جرت عام 2001، حين شغل منصب سكرتير «مجلس الأمن القومي». فهو إبان مشاركته في منتدى خاص بعنوان «آفاق تطور القوات المسلحة» استمع لمداخلات عدد من كبار الخبراء العسكريين الروس، وعقّب عليهم قائلاً إنه «من السهل القيام بجميع المهام دون كل تلك النصائح من خبراء مدنيين». وأعرب عن قناعته بأن هذا الأمر ليس من شأن الخبراء «وهناك في البلاد قائد للجيش والقوات المسلحة هو الذي يحدّد تعداد القوات المسلحة. الرئيس هو من يحدّد هذا الأمر»، قال ذلك إيفانوف وكان الغضب باديًا على وجهه.
يقول عنه بعض الخبراء والمحلّلون، بل وسياسيون في الغرب، إنه يمثل نهج «العودة إلى الاتحاد السوفياتي» بأفكاره وطروحاته. أما إيفانوف ذاته فيرى أن الغرب «يستبيح سيادة الدول ويريد فرض نموذج الديمقراطية الغربية على الآخرين». وهذا الموقف عبّر عنه إيفانوف مرارًا، بما في ذلك أثناء مشاركته عام 2005 في أعمال مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث قال في كلمته: «نحن مستعدون لتطوير العمليات الديمقراطية والتكامل مع مؤسسات المجتمع الدولي، لكننا سنبقى أصحاب القرار (الأسياد) في بلادنا».
أما القيَم القومية الروسية، كما يراها إيفانوف، فهي ثلاثة «الديمقراطية السيادية، والاقتصاد القوي، والقوة العسكرية». ويُقال إنه «مهندس رئيسي» للعملية العسكرية الروسية في سوريا، ويُعدّ من أشد المنتقدين لتدخل الولايات المتحدة في العراق ولحربها في أفغانستان ويتهم الغرب بأنه «حوّل ليبيا إلى صومال ثانية»، وأن كل تلك العمليات تجري «تحت راية نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير». كذلك فهو يرى أن الغـرب يسعى لتدمير منظومة العلاقات الدولية الحالية، لذلك يقول «الصقر» إيفانوف محذّرًا: «نحن لا نعيش في الغابات ومن غير المسموح لأي كان بتدمير النظام العالمي».
.. في سطور
* ولد إيفانوف في يوم 31 يناير (كانون الثاني) 1953 في مدينة لينينغراد (بطرسبورغ) بشمال غربي روسيا. وأنهى دراسته الجامعية متخرجًا في جامعة لينينغراد الحكومية مجازًا باللغتين السويدية والإنجليزية، وهو يجيد هاتين اللغتين إجادة تامة، بالإضافة إلى إجادته اللغة النرويجية وإلمامه باللغة الفرنسية.
عام 1976 تزوج ناتاليا إيفانوفا، وأنجبا ولدين هما ألكسندر وسيرغي، ولقد توفي الأول غرقًا عام 2014 في دولة الإمارات العربية المتحدة.
من هوايات إيفانوف المطالعة، ولا سيما قراءة القصص، وكذلك صيد السمك، ومتابعة كرة القدم وهو من مناصري نادي الجيش المركزي (سي إسي كي إيه).