سيرغي إيفانوف خصم الغرب اللدود

المنصب الأهم الذي شغله في روسيا «الصديق الخاص لبوتين»

سيرغي إيفانوف خصم الغرب اللدود
TT

سيرغي إيفانوف خصم الغرب اللدود

سيرغي إيفانوف خصم الغرب اللدود

عندما يدور الحديث عنه، وعن أهم منصب شغله في الدولة الروسية، يجمع كثيرون على أنه شغل في هرم السلطة منصبًا أهم وأكبر تأثيرا ونفوذًا من منصب وزير أو رئيس حكومة، ألا وهو منصب «الصديق الشخصي للرئيس فلاديمير بوتين». إنه سيرغي إيفانوف سليل مؤسسة «الكي جي بي» ذائعة الصيت والشهرة، ورغم ذلك قيل عنه حين تولى منصب وزير الدفاع إنه «أول وزير دفاع مدني». والحقيقة، أن شخصية إيفانوف لم تغب يومًا عن الصدارة في المشهد السياسي الروسي ودوره في صناعة القرارات الاستراتيجية في السياسة الخارجية لبلاده، إلا أن الحديث عنه تزايد بصورة ملحوظة إثر إقالته من منصبه الأخير «مدير الديوان الرئاسي» بقرار من بوتين في الثاني عشر من أغسطس (آب) 2016.
ومع أن الصديقين بوتين وإيفانوف أكدا أن قرار إقالة الأخير جاء بناء على «رغبة منه»، فإن تغيير موقع شخصية بحجم إيفانوف لم يمض دون تساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي دفعت بوتين لاتخاذ قرار الإقالة. مع هذا سرعان ما خمدت التكهنات المختلفة بهذا الخصوص مقابل معطيات كثيرة تؤكد أن العلاقة بين «الصديقين» ما زالت على حالها، وما زالت نظرة بوتين إلى إيفانوف هي هي، تحكمها مقولة روسية استخدمها بوتين في وصف علاقته مع إيفانوف وتعني تلك المقولة: «علاقة قائمة على الثقة المطلقة والإخلاص والدعم المتبادل».
كان لافتًا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإن أبعد سيرغي إيفانوف عن التحكم بشؤون الكرملين عبر منصبه الحساس «مدير الديوان الرئاسي»، فإنه لم يبعده عن «مجلس الأمن القومي الروسي»، الذي يشكل «مؤسسة صناعة السياسات وتبني القرارات» لا سيما في القضايا الاستراتيجية وفي مسائل حساسة للدولة مثل قرارات الحرب والسلم. إن إبقاء إيفانوف عضوًا في «مجلس الأمن القومي» مؤشر على مسائل عدة في مقدمتها أن المدير السابق لديوان الكرملين لم يخرج من الساحة السياسية ولن يتراجع حجم نفوذه، بل سيبقى محافظًا على دوره في صناعة القرار، وهذا كله يعكس حجم ثقة بوتين به، ويجعل من الحديث عن تحوّلات في السياسة الروسية بعد ابتعاده (إبعاده) عن إدارة الكرملين مجرد تكهنات يرجح أنها لا تحاكي الواقع.

بداية المسيرة
مسيرة سيرغي إيفانوف البالغ من العمر 63 سنة بدأت في مدينة لينينغراد (بطرسبورغ سابقًا ولاحقًا). وهو ابن وحيد لأم كانت تعمل مهندسة في مركز أبحاث علمية، وسخّرت كل طاقاتها لتربية ابنها الذي نشأ وترعرع من دون أب. ومنذ طفولة سيرغي برز لديه حب للمعرفة والتعليم، ومهارة فريدة في اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية. وتجمع مختلف المراجع على أن هذه الصفات تحديدًا شكلت «الحامل» الذي أوصل إيفانوف إلى بداية الدرب في عالم السياسة والسلطة.
إحدى معلماته في المدرسة تقول إنه كان «محبًا للعمل، جادًا ومتواضعًا، وكان من أفضل التلاميذ في صفه لكنه لم يتباهَ يوما بهذا الأمر». مهاراته اللغوية ساعدته دون عناء على مواصلة التحصيل العلمي في جامعة لينينغراد الحكومية المرموقة، وتحديدًا كلية علم اللغات وفقهها والترجمة. وهناك واصل إظهار مستويات جيدة في التحصيل العلمي، دون أن يشكل ذلك عائقًا أمامه ليكون عضوا ناشطًا في المنظمة اللينينية الشيوعية الشبابية (الكومسومول). ومن ثم، كان من الطبيعي أن تلفت شخصيته اهتمام أجهزة الدولة، حيث كان دارجا في العهد السوفياتي أن تتابع هيئة الاستخبارات (الكي جي بي) طلاب الجامعات لاختيار مَن يمكن ترشيحهم للعمل ضمن تلك المؤسسة. ووقع الاختيار على إيفانوف الذي التحق فور تخرجه في الجامعة بمدرسة «الكي جي بي» في مدينة مينسك (عاصمة بيلاروسيا السوفياتية حينها)، حيث تلقى التدريب والعلوم الخاصة لرجال الاستخبارات. ومن ثم شاءت الأقدار أن يُفرز للعمل بدايةً في فرع لينينغراد - قسم مكافحة التجسس وهناك التقى إيفانوف لأول مرة بمن غدا «صديق العمر» وابن لينينغراد.. فلاديمير بوتين، ومنذ ذلك الحين نشأت الصداقة بينهما.

رجل الاستخبارات
حتى اليوم يبقى الجزء الأكبر من المعلومات المتعلقة بعمل سيرغي إيفانوف في قسم الاستخبارات الخارجية والمهام التي نفذها ضمن ذلك القسم محاطة بالسرية، وهو كعادة أي رجل استخبارات كتوم جدًا خلال الحديث عن تلك المرحلة من حياته. ولكن من المعلومات القليلة المتوافرة عنه معروف أن إيفانوف عمل مطلع الثمانينات لصالح الاستخبارات السوفياتية في فنلندا، وكانت مهمته تسليط الضوء على نشاط الأحزاب السياسية هناك. ومن ثم انتقل إلى كينيا، وعمل لصالح اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي في مجال «الجاسوسية السياسية».
ثم إبان سنوات تفكّك الاتحاد السوفياتي وسقوطه، عمل إيفانوف نائبًا لمدير قسم أوروبا في الاستخبارات الخارجية. يُقال إنه تأثر نفسيًا لسقوط الاتحاد السوفياتي ورؤيته استباحة مواقع ومفاصل في الدولة كانت حتى الأمس القريب من المحرّمات، تحت اسم نشر الديمقراطية، وقد تسبّبت تلك المرحلة بـ«التوتر في العلاقة» بينه وبين التيارات الديمقراطية.
وبالعودة إلى علاقته مع بوتين ودور تلك العلاقة في صعود إيفانوف في السلطة، يشير أكثر من مرجع إلى أن بوتين عثر على عمل جديد بعد استقالته في التسعينات من «كي جي بي»، بمساعدة من إيفانوف. وبعد مرحلة قصيرة تغيّرت الأمور، إذ في عام 1998 عيّن بوتين مديرا لمؤسسة الاستخبارات التي أصبح اسمها «هيئة الأمن الفيدرالي»، وما كان منه إلا أن عين إيفانوف نائبا له في إدارة تلك المؤسسة العملاقة. وفي عام 1999 عندما أصبح بوتين رئيسا للحكومة الروسية بادر إلى تعيين إيفانوف سكرتيرًا لـ«مجلس الأمن القومي» الروسي. ثم في عام 2001 شغل منصب وزير الدفاع، ولأن إيفانوف كان قد سُرِّح رسميًا من الخدمة العسكرية عام 2000 فإنه وُصف في حينه بأنه «أول وزير دفاع مدني».
ولدى تشكيل «مجلس الأمن القومي» الجديد، في ظل رئاسة ديمتري ميدفيديف لروسيا (2008 - 2012) لم يُضم اسم إيفانوف إلى عضوية المجلس، بينما عيّنه بوتين - وكان يومذاك رئيسًا للحكومة - نائبا أولاً له مسؤولاً عن ملف الصناعات العسكرية. ومع عودة بوتين إلى الرئاسة عام 2012 استعاد إيفانوف مقعده الدائم في «مجلس الأمن القومي». وأخيرًا شغل إيفانوف منصب «مدير الديوان الرئاسي» منذ نهاية عام 2011 وحتى 12 أغسطس 2016، حين عيّنه بوتين ممثلاً خاصًا لشؤون البيئة وحماية الطبيعة، واحتفظ بمقعده عضوًا دائمًا في «مجلس الأمن القومي» الروسي.

أحد «الصقور»
يدرج كثيرون سيرغي إيفانوف على قائمة «الصقور» بين النخب الحاكمة في روسيا، فهو معروف بمواقفه المتشددة والحادة ضد الغرب ويقف بحزم بمواجهة كل ما ترى فيه روسيا تدخلاً خارجيًا بشؤون الدول. ويفضّل أن تبقى المسائل المتعلقة بالأمن والدفاع خاضعة بشكل تام لقرارات المؤسّسات المعنية، لا سيما القائد العام للجيش والقوات المسلحة.
ومن المواقف والتصريحات التي توضح بعض جوانب شخصية إيفانوف، حادثة يرويها صحافيون جرت عام 2001، حين شغل منصب سكرتير «مجلس الأمن القومي». فهو إبان مشاركته في منتدى خاص بعنوان «آفاق تطور القوات المسلحة» استمع لمداخلات عدد من كبار الخبراء العسكريين الروس، وعقّب عليهم قائلاً إنه «من السهل القيام بجميع المهام دون كل تلك النصائح من خبراء مدنيين». وأعرب عن قناعته بأن هذا الأمر ليس من شأن الخبراء «وهناك في البلاد قائد للجيش والقوات المسلحة هو الذي يحدّد تعداد القوات المسلحة. الرئيس هو من يحدّد هذا الأمر»، قال ذلك إيفانوف وكان الغضب باديًا على وجهه.
يقول عنه بعض الخبراء والمحلّلون، بل وسياسيون في الغرب، إنه يمثل نهج «العودة إلى الاتحاد السوفياتي» بأفكاره وطروحاته. أما إيفانوف ذاته فيرى أن الغرب «يستبيح سيادة الدول ويريد فرض نموذج الديمقراطية الغربية على الآخرين». وهذا الموقف عبّر عنه إيفانوف مرارًا، بما في ذلك أثناء مشاركته عام 2005 في أعمال مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث قال في كلمته: «نحن مستعدون لتطوير العمليات الديمقراطية والتكامل مع مؤسسات المجتمع الدولي، لكننا سنبقى أصحاب القرار (الأسياد) في بلادنا».
أما القيَم القومية الروسية، كما يراها إيفانوف، فهي ثلاثة «الديمقراطية السيادية، والاقتصاد القوي، والقوة العسكرية». ويُقال إنه «مهندس رئيسي» للعملية العسكرية الروسية في سوريا، ويُعدّ من أشد المنتقدين لتدخل الولايات المتحدة في العراق ولحربها في أفغانستان ويتهم الغرب بأنه «حوّل ليبيا إلى صومال ثانية»، وأن كل تلك العمليات تجري «تحت راية نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير». كذلك فهو يرى أن الغـرب يسعى لتدمير منظومة العلاقات الدولية الحالية، لذلك يقول «الصقر» إيفانوف محذّرًا: «نحن لا نعيش في الغابات ومن غير المسموح لأي كان بتدمير النظام العالمي».

.. في سطور
* ولد إيفانوف في يوم 31 يناير (كانون الثاني) 1953 في مدينة لينينغراد (بطرسبورغ) بشمال غربي روسيا. وأنهى دراسته الجامعية متخرجًا في جامعة لينينغراد الحكومية مجازًا باللغتين السويدية والإنجليزية، وهو يجيد هاتين اللغتين إجادة تامة، بالإضافة إلى إجادته اللغة النرويجية وإلمامه باللغة الفرنسية.
عام 1976 تزوج ناتاليا إيفانوفا، وأنجبا ولدين هما ألكسندر وسيرغي، ولقد توفي الأول غرقًا عام 2014 في دولة الإمارات العربية المتحدة.
من هوايات إيفانوف المطالعة، ولا سيما قراءة القصص، وكذلك صيد السمك، ومتابعة كرة القدم وهو من مناصري نادي الجيش المركزي (سي إسي كي إيه).



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.