تعد قضية «التنمية الاقتصادية» مصيرية لمجتمعاتنا ودولنا العربية، خصوصًا في أوضاعها الصعبة الراهنة. فنجاح التنمية هو المفتاح لمستقبل واعد، وفشلها نتائجه كارثية. وتعتمد طبيعة ومدى التنمية التي تتحقق، على نوعية السياسات التنموية التي تُتخذ.
واتبعت معظم الدول العربية خلال أربعة عقود (وعلى تفاوت بينها) سياسات «الليبرالية الجديدة» في خططها الاقتصادية والتنموية، انتهت بالإخفاقات المشهودة. ورغم ذلك، فإن الاتجاه السائد اليوم هو تجديد التمسك بهذه السياسات، وربما بحماسة واندفاع أكبر. لهذا فنحن أحوج ما يكون إلى وقفة جادة تفْحص منطلقات هذه السياسات وتداعياتها وتُقيِّم مدى ملاءمتها لواقع التنمية العربية ومتطلباتها.
وتنطلق الليبرالية الجديدة من اعتقادها بأن تقليص دور الحكومة وزيادة دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي هو السبيل لتحقيق كفاءة الأداء والنمو الاقتصادي، ويتبنى نموذجها التنموي حزمة سياسات اقتصادية وسياسية «تهدف إلى تحرير الاقتصاد وقوى السوق وزيادة المنافسة والحد من تدخل الحكومة مع خفض نفقاتها وزيادة إيراداتها»، كسياسات الخصخصة، وتقليص الدعم الحكومي وحجم القطاع العام، وتغيير النظام الضريبي لزيادة الإيرادات، ورفع القيود المنظمة لنشاطات القطاع الخاص، وتحرير التجارة، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، وغيرها. ويجدر التنبيه هنا إلى أن هذه الترتيبات ليست فنية ومحايدة، كما قد يظهر، بل تشمل أيضًا منظومة فكرية وقيمية لها تداعياتها، وليس هذا مجال نقاشها.
ويرى المؤيدون لهذه السياسات أنها تحفز النمو الاقتصادي وتوازن ميزان المدفوعات، بينما يرى الناقدون أنها متحيزة لآيديولوجيا الرأسمالية المطلقة وضد القطاع العام وتنطوي على تكاليف اجتماعية وسياسية باهظة وتؤدي لاختراق المصالح الغربية لاقتصادات الدول النامية.
وهيمن نموذج «الليبرالية الجديدة» على نقاش التنمية، مدفوعًا بتوجهات ومصالح الدول الرأسمالية الكبرى خصوصا أميركا وبريطانيا، التي فرضت مفاهيمه وسياساته عبر مؤسسات «العولمة الاقتصادية» وآلياتها، وتجلى ذلك في اشتراطات «التكيف الهيكلي» لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي رُوجت باعتبارها «الوصفة السحرية» لتحقيق التقدم الاقتصادي، وهُمِّشت (في المقابل) أصوات النقد والاحتجاجات الشعبية على تطبيقها.
* مراجعات وتشكيكات
وظهرت بتأثير الأزمة المالية العالمية في 2008، بوادر مراجعات لهذا النموذج. ومن أحدثها، تشكيك تقرير لثلاثة من خبراء صندوق النقد الدولي (أبرز مرجعيات هذا الفكر) في جدوى أجندة الليبرالية الجديدة، حيث قيّم التقرير كلاً من سياسة «تحرير حساب رأس المال» (أي إزالة القيود على انتقال الأموال عبر الحدود الوطنية)، وسياسة «التقشف» (أي ضبط أوضاع المالية العامة بتخفيض مستويات عجز الموازنة والدين العام)، وخلُص إلى أن جدوى السياستين غير واضحة في تحقيق النمو الاقتصادي، وأن تكاليفها المؤكدة تفوق تأثيرها المحتمل على النمو، إذ إن تقلب تدفقات رأس المال (بفعل سياسة الانفتاح المالي) وضعف الطلب والتوظيف والإضرار بالرعاية الاجتماعية (بفعل سياسة التقشف)، يزيد اللامساواة (أو تفاوت الدخل)، مما يؤدي إلى إضعاف «النمو الاقتصادي» (الهدف الرئيسي لأجندة الليبرالية الجديدة). وهذه العلاقة تمثل «حلقة مفرغة»، تتعرض بسببها الدول النامية للأزمات – أكثر من الدول الكبرى – لضعف قدرتها الاحتمالية.
ودعا التقرير صناع السياسة إلى معالجة أضرار اللامساواة، سواء باستباقها بإجراءات تخفف تأثيراتها السلبية وتعزز تكافؤ الفرص، أو بإدارة المخاطر اللاحقة للسلبيات الناتجة عنها، وكذلك الأخذ بسياسات إعادة التوزيع. ونشر هذا التقرير في مجلة «التمويل والتنمية» عدد يونيو (حزيران) 2016، بعنوان (Neoliberalism: Oversold)، الذي يمكن ترجمته إلى «المبالغة في بيع الليبرالية الجديدة». وللأسف، لم يلق الاهتمام الذي يستحقه.
وواقع الحال أن مثل هذه المراجعات تتناول التفاصيل والإجراءات لا الأسس والمنطلقات، وتأتي استجابةً لأزمات واحتياجات الدول الغربية (وليس الدول النامية)، واستمراريتها مرهونة بأوقات الأزمات الاقتصادية (خصوصًا عندما تشهدها الدول الغربية)، وتختفي في أوقات الازدهار الاقتصادي.
والأهم أن المراجعة انحصرت في النقاش الفكري، ولم تترجم بعد على مستوى التطبيق والممارسة، لانعدام الدوافع والمصالح المحفزة، لذلك في الدول الكبرى والمؤسسات الاقتصادية الدولية. فهي أقرب إلى إنقاذ الليبرالية الجديدة بطروحات تجميلية، منها إلى بناء وبلورة نماذج تنموية أفضل، وقد وصفها كبير اقتصاديين الصندوق، موريس أوبتسفلد، «بالتطور وليس الثورة»، وأنها لن تؤدي إلى تغيير جوهري في المنهج الأساسي، بقدر ما أضافت رؤى جديدة حول أفضل السبل لتحقيقه.
* النتائج عربيًا
والتنمية في الدول العربية مسألة ملحّة، لا يجوز أن تنتظر ما تضخه الجهات الدولية أو تستمر في الارتهان لسراب سياسات الليبرالية الجديدة (المُجرّب) في هذه المرحلة الحساسة والفارقة، خصوصًا أن التطبيق القسري لهذه السياسات تسبب في تردي أوضاع المجتمعات العربية ودولها. فالثابت مثلاً أن تونس ومصر حققتا (وبخلاف ما قد يتصوره البعض) نموًا وأرقامًا مرتفعة غير مسبوقة في مؤشرات اقتصادها الكلي خلال العقد السابق لاضطراباتها عام 2011، وذلك بتأثير خضوعها لاشتراطات التكيف الهيكلي. إلا أن منافع هذا النمو الاقتصادي لم تصل إلى شرائح عريضة في مجتمعاتها، بل زاد التهميش والضغوط على الفقراء وأصحاب الدخول المتدنية والوسطى، مما خلق اختناقات وتناقضات اقتصادية واجتماعية، حفّزتها وضخمتها تدخلات خارجية وانتهازية قوى محلية، أدت لعدم الاستقرار وانتكاسة التنمية في الدولتين. والمفارقة عودة مصر للحلقة المفرغة بتفاوضها مع صندوق النقد على قروض واشتراطات جديدة.
وفوق ذلك، سلبيات الليبرالية الجديدة قائمة في أميركا (عقر الرأسمالية) ذاتها، وتنعكس في مظاهر الاحتجاج على اللامساواة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء (كحركة «احتلال وول ستريت» والتأييد الواسع لحملة ساندرز وشعارها العدالة الاجتماعية)، بل تمتد إلى مجمل النظام الاقتصادي العالمي وتنعكس في تضخم المديونيات وتصاعد «الشعبوية» في أوروبا وأميركا (وتقدم الأحزاب اليمينية والمرشحين المتطرفين) وتزايد المعارضة للاتفاقيات الاقتصادية الدولية كخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
* الليبرالية ليست ليبرالية
ومشكلة الليبرالية الجديدة الأساسية أنها ليست ليبرالية في تقبل النقد والمراجعة، واستعلاء طرحها يشلُّ تطورها، فهي تعرض وصفتها على أنها الحكمة المطلقة، وتعتبر الخلل دائمًا في التطبيق أو عدم جاهزية الواقع والظروف لهذه السياسات، والحل (بدلاً من تعديل السياسات لتوائم الظروف) هو الإصرار على تغيير الواقع قسرًا ليلائمها، وتغفل أضرار ذلك على بنية المجتمعات واستقرارها. كما أنها تُنْشِئ شبكة مصالح نافذة تناصرها بقوة، تنفرد بمنافعها دون شرائح المجتمع الواسعة. وقدرتها عجيبة على إخفاء لاإنسانيتها بلغة فنية جامدة، وتحوير أي نقاش خارج صندوقها إلى تفاصيل داخله، وإعادة إنتاج مضامينها - كلما خبا بريقها - بعناوين تبدو جديدة ومبهرة. وهي لا تختزل الاقتصاد الحر، بل صورة متطرفة له، فرمالها المتحركة تنتهي إلى سيطرة المصالح الخاصة.
وبناءً عليه، فإن السبيل الأنجع (رغم صعوبته) للتنمية العربية هو مقاومة إغراءات وضغوط الليبرالية الجديدة، وذخيرتها الجاهزة المعطوبة، والتفكير خارج صندوقها وإفساح المجال لتبنى وجهات نظر تنموية أخرى، ويكون ذلك بالسعي الدؤوب لتطوير نماذج تنموية شاملة، تتلاءم مع ظروف الدول العربية ومجتمعاتها وتحفظ مصالحها واستقرارها، وتنهض بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لتحقيق تنمية حقيقة ومستدامة.
أما إذا ما تقرر اتباع طريق الليبرالية الجديدة، أتمنى على صناع القرار والمعنيين بالشأن التنموي العربي العناية بالجوانب التالية:
أولا، إدراك حقيقة أفقها القاصر على النمو الاقتصادي، وليس عملية التنمية الشاملة، وعدم الاستهانة بخطورة عواقبها الاجتماعية والسياسية.
ثانيًا، دراسة «المخاطر السياسية» الناجمة عن تطبيقها بشكلٍ وافٍ، والإعداد المُسْبق للسبل العملية الفعالة لإدارتها ومعالجتها، ومراعاة تدرج إيقاع التطبيق ليلائم معطيات الواقع. وكذلك إيجاد مرونة في التخطيط والحسابات تُمكِّن من تعديل المسار (مع تكشُّف سلبياتها) بأقل الخسائر.
ثالثًا، تحصين القطاع العام (مؤسسات وموظفي خدمة عامة) بدرجة عالية من القدرات والكفاءة والاستقلالية، لترشيد عملية التنمية وحماية المصالح العامة والمواطنين، وضبط التوازن أمام إطلاقها عنان منطق القطاع الخاص وسعيه لاحتواء القطاع العام (فكرًا وأداء) وتهميش دوره.
رابعًا، دعم إعلام متخصص قادر على المراقبة والتوعية وخدمة الصالح العام، يحد من استغلال الإعلام لتسويق سياساتها والمصالح الضيقة المرتبطة بها.
خامسًا وأخيرًا، صناعة الخيارات التنموية (أيًا كانت)، عبر الحوار المجتمعي والإقناع الجاد لتتضافر جهود الجميع في تحقيقها. فالتواصل الجيد مطلب أساسي للنجاح.
وفي الختام، يؤكد مفهوم «التنمية المستدامة» على ضرورة التوازن بين ثلاث ركائز؛ النمو الاقتصادي، وتوزيع منافع هذا النمو لمحاربة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية، والمحافظة على البيئة، لترسيخ تنمية حقيقية وضمان استدامتها. وعبر تكريسها اللامساواة وإهمال ركيزة العدالة الاجتماعية المتصل مباشرة برفاهية الإنسان والمجتمع، فإن «الليبرالية الجديدة تُقوِّض التنمية العربية المستدامة».
* أكاديمي سعودي
«الليبرالية الجديدة» ومصير التنمية العربية
خبراء صندوق النقد شككوا في جدوى وتكاليف أبرز سياساتها

وليد بن نايف السديري - مظاهرة في تونس في شهر مارس الماضي اعتراضا على تدني فرص العمل (رويترز)
«الليبرالية الجديدة» ومصير التنمية العربية

وليد بن نايف السديري - مظاهرة في تونس في شهر مارس الماضي اعتراضا على تدني فرص العمل (رويترز)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة