بات فرض عين على جموع المفكرين والمثقفين حول العالم في هذه الآونة المثيرة للشقاق والفراق، التوقف أمام مشهد الانفلات الذي يعم الأصوليات حول العالم، وبات السؤال الذي لا مفر منه؛ ما الذي جرى ولماذا هذا الانفجار الذي يهدد أمن وأمان العالم؟ وهو تساؤل جذري من أجل إيجاد سبل ومسارب، وتخليق آليات للفكاك من براثنه الشريرة. وهنا يعن لنا بداية البحث عن معنى كلمة الأصولية، وسبب سحبها على الإسلام والمسلمين، خصوصًا رغم تجذرها في الديانات الإبراهيمية الأخرى، كاليهودية والمسيحية، عطفًا على وجود جذور لها في النواميس الوضعية، كالبوذية والهندوسية وغيرهما من مذاهب أهل آسيا الشرقية.
بين الأبحاث اللافتة في موضوع الأصولية، الكتاب الجديد للمفكر والباحث المصري المعاصر الدكتور مراد وهبة «زمن الأصولية: رؤية للقرن العشرين»، إذ يؤرخ فيه للأصولية المعاصرة، أي خلال السنوات المائة الماضية، بسلسلة كتب صدرت في الولايات المتحدة الأميركية ما بين عامي (1905 و1915) تحت عنوان «الأصول»، بلغ توزيعها بالمجان 3 ملايين كتاب، ولقد أرسلت إلى رجال دين ولاهوتيين كبار، والأفكار المحورية في هذه الكتيبات يمكن إيجازها في 3 أفكار:
* النضال أو الجهاد من أجل الدفاع عن الأصول.
* رفض النظريات العلمية التي تتناقض مع الإيمان بالوحي الإلهي، كما أنزل في الشرائع السماوية.
* رفض آراء الليبراليين اللاهوتيين الذين خانوا ذلك الإيمان ومزقوا آيات الإنجيل في ضوء نظرية التطور، فنقدوا قصة الخلق في «سفر التكوين»، حيث القول إن الله خلق الكون في 6 أيام واستراح في اليوم السابع.
القراءة السابقة للمفكر والباحث المصري المعاصر تدفعنا دفعًا للبحث عن منشأ تلك «الأصولية» المسيحية الغربية، التي سيقدر لها لاحقًا أن تلعب دورًا سياسيًا خطيرًا يقود بدوره بدرجة أو بأخرى، إلى صعود ما بات يسمى «الأصولية الإسلامية»، وما بينهما كانت «الأصولية اليهودية» تعمل في كمون وسكون...
أسباب الطفرة الأصولية
الشاهد في غالب الأمر أن الذي دفع «الأصوليين» إلى إصدار هذه الكتيبات مردود إلى عاملين؛ عامل موضوعي، وعامل ذاتي.
العامل الموضوعي تمثل في بزوغ «الحداثة» المتمركزة في العقلانية والتنوير والثورة الصناعية، وفي نشأة علم الاجتماع الذي كان سائدًا في اتجاه إشاعة العلمانية، وفي بزوغ الليبرالية التي دعت إلى أن سلطان الفرد فوق سلطان المجتمع، وبالتالي فوق كل ما يفرزه المجتمع من سلطات، وفي مقدمتها السلطة الدينية.
أما العامل الذاتي، فمردود إلى محاضر ألقاها تشارلز إيليوت، الذي كان رئيسًا لجامعة هارفارد في عام 1869، وكان عنوانها «مستقبل الدين». ولقد أحدثت هذه المحاضرة هلعًا في صفوف «الأصوليين». وكانت وراء هذا الهلع مسألتان: الأولى خاصة بمفهوم الدين، والثانية خاصة بمفهوم رجل الدين.
عن المسألة الأولى ارتأى إيليوت أن الدين (المسيحي) الجديد لن تكون فيه إلا وصية واحدة؛ هي «محبة الخالق من أجل المخلوق»، وعلى هذا النحو فهي وصية لا تستلزم دورًا للعبادة، ولا علم لاهوت ولا طقوسًا للعبادة، ومن ثم فليس من حق المسيحيين الادعاء بملكية الحقيقة المطلقة.
أما عن المسألة الثانية فقد ارتأى إيليوت أن ثمة فارقًا جوهريًا سيقوم بين رجل الدين بالأمس ورجل الدين في المستقبل. وكمثال ذلك، عندما كان يصاب إنسان الأمس بجرح في جسمه كان يذهب إلى الكنيسة ويصلي من أجل شفاء جسمه، أما إنسان اليوم فإنه يذهب إلى الجراح، وبالتالي ارتأى إيليوت أن هذا الجراح هو رجل دين المستقبل.
كانت الرؤية السابقة كفيلة بأن تطلق جنون من يعرفون بـ«موظفيو الله» وتؤرخ لأصولية أميركية تحديدًا، سوف يقدر لها التشابك أولاً، ثم الاشتباك لاحقًا مع العالم الإسلامي.
لاهوت الاحتواء والأصولية الإسلامية
يخيل لكثيرين أن علاقة الولايات المتحدة تحديدًا بالعالم الإسلامي، واستنهاض قواه الروحية الدينية، ودفعها في اتجاه مسلك سياسي يصب في صالح الإمبراطورية الأميركية، بدأ مع احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان في نهاية سبعينات القرن الماضي، ومن رحم ذلك المسلك ولدت «القاعدة»، بما لعبته من دور في تعاظم الدور الأصولي حول العالم. غير أن وقائع الأمور تأخذنا إلى أبعد من ذلك بنحو 4 عقود تقريبًا. وجرى ذلك عندما أسست مؤسسة دينية هي «مجلس الكنائس العالمي»، وكان الرجل الأول الذي وقف وراء تأسيسه وزير الخارجية الأميركية السابق جون فوستر دالاس (1888 - 1959) الذي كان ابن قس بروتستانتي، ولاهوتيًا قبل أن يكون سياسيًا، ويغدو وزيرًا لخارجية أميركا. ولقد شارك دالاس في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الأول لذلك المجلس، الذي عقد في أمستردام عاصمة هولندا بين 23 أغسطس (آب) و4 سبتمبر (أيلول) من عام 1948، وجاءت مشاركته بوصفه لاهوتيًا لا سياسيًا. والمثير جدًا أن دالاس قدّم رؤية سياسية مغموسة حتى النخاع، إن جاز التعبير، في الرؤى والشطحات الدينية، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الحرب الباردة تستعر بين حلفي وارسو والأطلسي.
ذهب دالاس إلى أن الشيوعية «إرهاب بلا إله»، وأن القضاء عليها أمر مشروع دينيًا، ومن هنا ولد ما عرف لاحقًا بـ«لاهوت الاحتواء» وأطلق عليه لقب «لاهوت البيت الأبيض». أما «لاهوت الاحتواء» فقد كان يستلزم حلفاء، وقد طرح دالاس اسم باكستان حليفًا مرشحًا لأميركا، لأنها أكبر دولة إسلامية تحتل مكانة مرموقة دوليًا، ثم لكونها بحكم إيمانها ضد الشيوعية، ولأن الإسلام «خصم روحي» عنيد للشيوعية. وهذه الرؤية خدمها بعمق ستتجلى آثاره فيما بعد الآن دالاس، شقيق جون فوستر دالاس، الذي لمع بدوره سياسيًا وشغل منصب مدير الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الأميركية بين 1954 و1959.
لاحقًا، كان عام 1979 عامًا مفصليًا في انفلات ما بات يعرف بـ«الأصولية في الشرق». ففي يناير (كانون الثاني) من ذلك العام، أصدر الرئيس الأميركي جيمي كارتر قرارًا بدعم جماعات «المجاهدين» في حربها ضد الغزو السوفياتي، والعام نفسه تحولت إيران من دولة ملكية إلى «جمهورية إسلامية». أيضًا في ذلك أبرمت «معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل برعاية أميركية خالصة، كان طرفها الأول الرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي يرى البعض أنه أعاد إحياء الإسلام السياسي المتشدد في مصر من أجل مواجهة نفوذ اليساريين والناصريين من داعمي ومؤيدي جمال عبد الناصر، والطرف الثاني رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن الأصولي اليهودي المرتبط بتأييد الجماعات التوراتية المتشددة وصقور الاستيطان في إسرائيل».
الأصولية اليهودية
لم يكن العالم ليخلو من جذور الأصولية اليهودية، وهذا ما تقودنا إليه الباحثة البريطانية كارين أرمسترونغ في مؤلفها العميق «معارك في سبيل الإله.. الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام». وعندها أن اليهود كانوا أول من أقبل على التطرّف الديني، «لأنهم عانوا من انعدام العدالة الاجتماعية، ووجدوا أن مدنية العصر الحديث هي السبب وراء اضطهادهم ومعاناتهم، ومن ثم، ما عادوا قادرين على التعاطي مع عقلية عصر العلم والتكنولوجيا». والثابت أن اضطهاد الأوروبيين لليهود، في العصور الوسطى تحديدًا التي أطلق عليها تسمية «أزمنة التنوير»، كان سببًا مؤكدًا لتعميق فكرة الأحادية والنزعة الرافضة للآخر، إلى حد الموت، ومنطلقًا لمولد فكرة «الغيتو» الأوروبي، الذي سيقود لاحقًا لإقامة «غيتو» أوسع، على أرض العرب في فلسطين. كانت صيغة الحداثة، بحسب أرمسترونغ، تتسم بعداء واضح لليهودية، إذ كان مفكرو التنوير، على الرغم من كل ما يقولونه عن التسامح، ما زالوا ينظرون باحتقار إلى اليهود. حتى أن فرنسوا - ماري أرويه فولتير (1694 - 1778) وصفهم في قاموسه الفلسفي (1756) بأنهم «أمة تتسم بالجهل المطبق»، وبأنهم يجمعون بين «البخل الحقير وأبشع الخرافات» و«البغض الشديد لجميع الأمم التي احتملتهم بصدر رحب». وأما البارون دولباخ (1723 - 1789) الذي يعتبر من أوائل الأوروبيين الذين أعلنوا إلحادهم صراحة، فكان يصف اليهود بأنهم «أعداء الجنس البشري». كذلك كان فلاسفة أوروبيون مثل إيمانويل كانط وغيورغ هيغل، يعتبرون اليهودية «دينًا خانعًا حقيرًا يناقض العقلانية تمامًا»، وكان كارل ماركس - المتحدّر من أصول يهودية - يقول إن اليهود هم المسؤولون عن الرأسمالية، التي كان يعتبرها مصدر شرور العالم جمعاء.
وهكذا كان على اليهود أن يتكيّفوا مع الحداثة ظاهريًا، بسبب أجواء الكراهية التي تحيط بهم، بينما كانت أصوليتهم تمضي قدمًا، ونحو الوراء البعيد لجهة العودة إلى فلسطين، والوعد التوراتي القديم بأنها لإبراهيم ونسله.
من منا المختار؟
سؤال هذا المقال «لماذا هذا الانفلات الأصولي المتعولم»، لا يمكن النظر إليه أو الجواب عليه بالتطلع والتبصر في الأديان التوحيدية فقط، فنحن كما نرى رجل دين فرنسيًا يذبح في قلب كنيسته بشمال فرنسا من قبل الدواعش، ونرى كذلك عشرات الآلاف من مسلمي بورما (ميانمار) يحرقون ويغرقون على أيدي البوذيين، والذين من حولهم يفضلون إلقاءهم في اليمّ عوضًا عن القبول بهم كلاجئين، وهذا يعني أن الأصولية موجودة بقوة في النواميس الوضعية، لا سيما البوذية التي انتشرت في الهند واليابان وسريلانكا وتايلاند وغيرها. والبوذية تحديدًا تفرعت إلى 3 فرق، كلها فرق ذات نزعات قومية مطلقة، ومغلقة، صالحة لكي تكون مستقبلاً ذات مناهج عنيفة ودموية.
كارثة الأصولية المنفلتة هي البحث عن «المختار فيما بيننا» وتغليب فكرة المطلق على النسبي، فالأصولي هو الحائز على الحقيقة المطلقة دون غيره من البشر، ومن أسف شديد، ما زال كثيرون منا نحن البشر تحت سيادة مرحلة مبكرة من نشوء الدماغ وتطوره، مما يمنعنا من إدراك قدراتنا الروحية الكافية.
إن سمات العنف والخوف التي تنتمي لمرحلة مبكرة من تطور الدماغ، تكتم قدرتنا على تطبيق ما تعلمناه من التاريخ والعمل والدين، ومن ثم من المهم أن نفحص سلوكيات التعصب من المنظور البيولوجي والنفسي والأنثروبولوجي. وعلى الرغم من وجود فوارق أساسية بين الذكور والإناث، فإن الخوف ومشاعر الدونية تؤثر في تطور التعصب والأصولية لدى الجنسين كليهما.
البشر وممارسة دور الآلهة
كارثة العالم المعاصر الواقع تحت ضربات الإرهاب والقتل والغدر والتفجير والسحل، آتية من ممارسة البشر لأدوار الآلهة، يكفرون من يشاءون، ويمنحون صكوك العتق لمن يريدون، وفي غياب تام من قيم التقارب، والرحمة، المحبة والتسامح التي هي أصل أصيل في جميع الأديان. ما يجري الآن من انتهاك من قبل الأصوليين لحرمة النفس البشرية، مرجعه الفشل الذريع في فهم الأبعاد الحقيقية للرسالات الروحانية العميقة، وقد أدى هذا الفشل تاريخيًا إلى الاستبعاد لا التقارب، والتعصب لا التسامح، والكراهية لا الحب، وكانت النتيجة العنف الذي يرتكبه المتشددون من كل الأطراف، وبذا تقوض الأصولية التعاليم المحورية الموجودة في جميع الديانات.
وفي نهاية المطاف لا يمكننا بحال من الأحوال إغفال الدور الذي قامت وتقوم به السياسات الإمبريالية شرقًا وغربًا في إذكاء نيران الأصوليات. إن هذه الأصولية الراديكالية تسهم في زيادة الفوضى السياسية والنضال الديني.