عروض فنية إبداعية مع إطلاق مهرجان سوق عكاظ

خادم الحرمين يتصل بالفيصل طالبًا نقل تحياته للمشاركين في المهرجان

الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة خلال السلام الملكي السعودي لدى افتتاحه فعاليات مهرجان «سوق عكاظ» في دورته العاشرة   ويبدو الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة (واس)
الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة خلال السلام الملكي السعودي لدى افتتاحه فعاليات مهرجان «سوق عكاظ» في دورته العاشرة ويبدو الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة (واس)
TT

عروض فنية إبداعية مع إطلاق مهرجان سوق عكاظ

الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة خلال السلام الملكي السعودي لدى افتتاحه فعاليات مهرجان «سوق عكاظ» في دورته العاشرة   ويبدو الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة (واس)
الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة خلال السلام الملكي السعودي لدى افتتاحه فعاليات مهرجان «سوق عكاظ» في دورته العاشرة ويبدو الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة (واس)

تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أطلق الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة مساء أمس مهرجان سوق عكاظ في دورته العاشرة، بحضور عدد من المسؤولين والشخصيات الفكرية والثقافية من داخل السعودية وخارجها، وذلك في مقر السوق التاريخية بالعرفاء بمحافظة الطائف.
ونقل الأمير خالد الفيصل تحيات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للمشاركين في سوق عكاظ.
واتسم حفل الافتتاح بعروض فنية إبداعية زاوجت بين التراث والفن والإبداع وإطلاق الطاقات الكامنة، وكانت مفاجأة الحفل إطلالة الفنان السعودي محمد عبده الذي غنى (أفاطم مهلا) للشاعر الجاهلي امرئ القيس، وهي الأغنية التي أشعلت الحفل حماسا.
وفي بداية كلمته، قال الفيصل «مفاجأتكم في هذا المساء هي اتصال هاتفي من سيدي خادم الحرمين الشريفين، وأنا في جادة عكاظ وجهني أيده الله بنقل تحياته لمن حضر ولمن سوف يحضر ولمن شارك ولمن سوف يشارك في مهرجان سوق عكاظ».
كما وجه الفيصل تحية للجنود السعوديين المرابطين على الحد الجنوبي، وقال: «نحيّي بعظيم الفخر والاعتزاز جنودنا البواسل على الحدود الجنوبية لهذه البلاد»، سائلا الله لهم العودة سالمين وتحقيق النصر المؤزر.
وكشف الفيصل عن أن إحياء سوق عكاظ كانت فكرة تراود الملك فيصل، الذي أوعز إلى لجنة لتقصي مكانه، في حين أصدر الملك عبد الله أمرا بإطلاقه حتى أصبح اليوم ملتقى للشعر والإبداع.
وقال الفيصل: «كان عكاظ.. غاب عكاظ.. حضر عكاظ، ما يهمنا اليوم هو كيف حضر عكاظ ولماذا؟، لم يهن على الملك فيصل - رحمه الله - ضياع عكاظ ونسيانه، فبحث عنه حتى وجده وحدد مكانه، ثم أصدر الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - أمر استدعاء ملكي تاريخي استثنائي فحضر عكاظ».
وأضاف: «أما (لماذا)، فليخرج عكاظ من سجن الماضي البعيد بحلة سعودية حديثة ويسهم في مشروع النهضة السعودية العربية الإسلامية بقيادة الملك الهمام سلمان الإقدام شعاره السلام في وطن الإسلام».
ومضى يقول: «كان لعكاظ وحشة، فأصبح له دهشة، الكل من حوله في فتن الحروب مشغول، وهو يكرم إبداع العقول، في ساحة فكر لا ميزة فيها لعربي على عربي إلا بالإبداع».
واختتم أمير منطقة مكة المكرمة كلمته بالترحيب بالجميع، وقال: «مرحبا بكم في عكاظ الجديد، عكاظ الماضي رمزًا، والحاضر فكرًا، والمستقبل أملاً».
من جانب آخر، ثمّن الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، ما تجده مشاريع التراث الوطني من دعم واهتمام من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، منوها برعايته لسوق عكاظ، مؤكدًا أهمية دورة هذا العام، لتزامنها مع مرور 10 سنوات من النجاح والتميز لهذه الفعالية الثقافية والسياحية المهمة، التي تتوج هذا العام بوضع حجر الأساس لمشروع «جادة المستقبل» أحد المشاريع الرائدة للهيئة في السوق.. كما قدم الشكر إلى الأمير خالد الفيصل على الدور الرائد والدعم المتواصل لأنشطة الهيئة في منطقة مكة المكرمة بشكل عام، وقيادته جهود تطوير سوق عكاظ منذ عودتها للنشاط قبل عشر سنوات.
وأشار الأمير سلطان بن سلمان، في تصريح صحافي عقب اختتام حفل افتتاح سوق عكاظ، إلى أن اعتماد مشروع مدينة عكاظ يأتي امتدادًا لما قامت به الهيئة من جهود في تأهيل وتطوير هذا الموقع، مبينا أن برنامج التحول الوطني خصص ميزانية لمشروع مدينة عكاظ الذي تشرف عليه الهيئة بلغت 775 مليون ريال لتطوير المرحلة الأولى، منها 220 مليون ريال تكاليف تقديرية لإنشاء مشاريع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، و555 مليون ريال قدرت لإنشاء البنية الأساسية داخل وخارج الموقع.. ومن المتوقع أن يتم الانتهاء من تلك المشاريع التطويرية خلال السنوات الخمس المقبلة التي تبدأ فور إقرار الميزانية، مشيرًا إلى مشاركة القطاع الخاص في التطوير بما يقارب مليارًا و291 مليون ريال، وبذلك يصل حجم الاستثمار المتوقع في المرحلة الأولى إلى قرابة ملياري ريال.
وأضاف، أن مبادرة الهيئة بتطوير مدينة عكاظ بالشراكة مع إمارة منطقة مكة المكرمة وشركائها في القطاعين العام والخاص تعود لما لهذا الموقع من أهمية تاريخية، كونها أهم أسواق العرب القديمة، وارتبط اسمها بالنشاط الثقافي والاقتصادي، وهي السوق التي زارها النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وبقيت معالمها محفوظة حتى يومنا هذا، حيث كانت السوق ولا تزال رمزًا للتراث العربي، وتخضع السوق حاليًا لدراسات أثرية وتنقيبات في أجزاء واسعة منها، بعد أن أظهرت المسوحات الأولية أنها من المواقع الغنية بالآثار.
في حين توشح شاعر سوق عكاظ لهذا العام، الأردني محمد عزام، بردة شاعر عكاظ من يد الشاعرة السودانية رضوى الحاج، كذلك توج الشاعر السعودي، جاسم الصحيح، شاعر شباب عكاظ، خليف الشمري، ببردة شاعر شباب عكاظ، وجائزة الرواية للروائي السعودي مقبول موسى العلوي، فسلمها الأديب الإماراتي محمد البريكي. وهو تقليد يستخدم للمرة الأولى حيث يتاح للشعراء الرواد تكريم زملائهم الفائزين.
وحفلت اللوحة الفنية لحفل سوق عكاظ بالتركيز على أهمية الأمن ودوره في حفظ الاستقرار وصيانة التنمية.
وأطلق الأمير خالد الفيصل عددا من المشاريع الثقافية، بينها «أكاديمية عكاظ للشعر العربي» و«مركز دراسات الشعر العربي» و«ودار عكاظ للنشر»، وهي مجموعة من أبرز المشاريع الثقافية لهذا العام، بجانب عدد من المنشآت المعرفية والتجارية والترفيهية.
وتستمر فعاليات عكاظ 10 أيام، محمّلة بالبرامج والنشاطات الثقافية والترويحية، وتركز كثير من الفعاليات على التعريف بـ«رؤية المملكة 2030» من خلال أوراق عمل ومعارض للجهات المشاركة.
ويشارك في الفعاليات الثقافية لسوق عكاظ هذا العام نحو 30 مفكرًا وأديبًا يتوزعون على 7 ندوات ثقافية تقام على مدى 3 أيام.
ويحل الشاعر الجاهلي عروة بن الورد على سوق عكاظ هذا العام شخصيةً محورية إلى جانب الشاعر السعودي عبد الله بن خميس، حيث تركز موضوعات الندوات على الدراسات النقدية للشاعرين، كما ستبحث جهود الترجمة في فرنسا، والمخطوطات المهاجرة، مع تناول عدد من التجارب الكتابية والفنية، بجانب البحث عن موضع الهوية الثقافية في العالم الرقمي، وحماية الخصوصية في وسائل التواصل الاجتماعي. ومن أبرز فعاليات السوق (حوار الشباب)، حيث يلتقي الأمير خالد الفيصل شباب سوق عكاظ في لقاء حواري مفتوح لمدة ساعتين، بمشاركة الدكتور عادل الطريفي، وزير الثقافة والإعلام، ويُقام الحوار بجامعة الطائف مساء اليوم، الأربعاء.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!