* فونتونال: أهم ما يجسد النزعة العنصرية الجديدة لبعض المثقفين هو الهجوم على الإسلام والمسلمين وكأنه بعد سقوط الشيوعية لم تبق من فزاعة لتأجيج المخاوف سوى المهاجر المسلم الذي أصبح فجأة المسؤول عن كل مشكلات المجتمعات الأوروبية
* في المؤلفات المعروضة على موقع دار نشر «شيري» مثلا.. وهي دار نشر مهمة.. نرى أن أكثر الكتب مبيعا هي تلك التي تهاجم الإسلام أو الوحدة الأوروبية أو وسائل الإعلام المعروفة أو تشكك في جرائم النازيين
من القضايا التي شغلت الساحة الثقافية الفرنسية هذا الصيف إجبار مكتبة بمدينة «بارك سور مار» شمال فرنسا على سحب نسخ معروضة للبيع من كتاب «كفاحي» للزعيم النازي أدولف هتلر.
الجدل لم يتناول شرعية العملية التجارية بحد ذاتها، حيث إن القانون الفرنسي يسمح ببيع هذا الكتاب منذ سنوات بشرط إرفاقه بتحذير من محتواه الخطير، لكن ما أذكى السجال أكثر هو الإقبال الكبير على اقتناء هذا الكتاب الذي نفدت منه نسخ كثيرة في وقت قياسي، حسب شهادة أصحاب المكتبة، مما استدعى سحبه.
الظاهرة أثارت مخاوف بعض المثقفين الذين اعتبروا أن التيارات اليمينية المتطرفة باتت تبث سمومها الخطيرة الآن في معاقل الثقافة بعد أن استفحلت في السياسة، كما أن كوادر من الحزب الشيوعي الفرنسي نددوا على أثر هذه الحادثة بما سموه: «تهوين أفكار اليمين المتطرف»، بل والترويج لها في دور العلم والمعرفة. وهي ليست المرة الأولى التي تشهد فيها مؤلفات من هذه النوعية مثل هذا الرواج. الصحافيان أبال مستر وكارولين مونو، لفتا الانتباه في مدونة مشتركة على صفحات جريدة «لوموند» إلى النجاح الذي تلاقيه أعمال كتاب معروفين بتوجهاتهم العنصرية المتطرفة: الكاتب الفرنسي ألان سولار مثلا وكتابه «فهم الإمبراطورية» («كومبرودر لومبير»، دار نشر «بلانش») الذي نشر مند سنتين ولا يزال لغاية اليوم - رغم هجوم النقاد وغياب دعاية إعلامية - من أكثر الكتب مبيعا في موقع «أمازون - فرنسا». كذلك الحال مع رواية جان راسباي: «معسكر القديسين» (لوكون دي سان، دار نشر «لافون») التي لاقت نجاحا منقطع النظير في المكتبات؛ حيث احتلت المرتبة الـ22 من مجموع الـ500 كتاب الأكثر مبيعا في فرنسا عام 2012. وكان يباع منها نحو 500 نسخة كل شهر، رغم أن الطبعة الأولى تعود لسنوات السبعينات.
* عودة يمينية قوية
في حديث نشر بمجلة «سلات»، يتحدث الباحث إروان لوكور، المختص في شؤون اليمين المتطرف، عن عودة قوية إبان العشرية الأخيرة في مجال الأدب والكتابة للإشكاليات القريبة من قناعات أحزاب اليمين المتطرف؛ ومن أهمها الخوف من الأجنبي والمهاجر، ورفض تمازج الأجناس والتنوع الثقافي. الأزمات الاقتصادية المتفاقمة في أوروبا وأحداث الإرهاب زادت من حدة مشاعر الكراهية لا سيما تجاه المسلمين، وهو ما صنع شهرة بعض الكتاب الأوروبيين ممن جهروا بتوجهاتهم العنصرية أمثال الإيطالية أوريانا فلاتشي: («الغضب والكبرياء»)، والألماني تيلو سرازان: («ألمانيا تختفي»)، أو الفرنسي ميشال ويلبك: («البطاقة والإقليم»). يحكي الروائي الفرنسي جان راسباي في مؤلفه «معسكر القديسين» قصة مليون مهاجر هندي يصلون لشواطئ جنوب فرنسا على متن باخرة ليستولوا بعدها على منازل الفرنسيين ومدارسهم ومستشفياتهم الجميلة. كل من يقرأ الرواية يلاحظ أن الكاتب لا يصف المهاجرين الهنود إلا بصفات ذميمة: «الوحوش» و«الجياع» و«النتنة» ولا يستثني منهم أحدا، كما يصف العرب والأفارقة بـ«الخونة»، و«المغتصبين»، والرواية كلها تدور حول شجاعة حفنة صغيرة من الفرنسيين المتأصلين (العرق الآري) التي تنظم المقاومة في الجبال البعيدة عن المدن التي احتلها المهاجرون الهنود وسط جبن القادة والمثقفين الذين استسلموا للهجمة. على أن قناعات الكاتب تظهر منذ البداية حين يكتب في مقدمة الكتاب عن خطر اختفاء العرق الأوروبي بسبب تكاثر الأجانب السريع، وتنبأ بأن تصبح غالبية سكان فرنسا مع مطلع 2050 من الأجانب غير الأوروبيين.
الصحافي السابق في يومية «ليبراسيون» دانيال شنيديرمان تساءل على صفحات موقع «أري سور إيماج»: كيف يمكن تفسير النجاح الجديد لهذه الرواية رغم أنها كتبت منذ 40 سنة، وكيف قبلت دار نشر كبيرة مثل «لافون» نشر مثل هذا العمل الذي تنبعث منه رائحة العنصرية؟ جواب واحد: تقدم اليمين المتطرف في أوروبا والانتصار النسبي لنظرياته وهب حياة جديدة لهذا النوع من الأدب.
أما الكاتب والصحافي الفرنسي سيبستيان فونتونال، فيرى في كتابه «كاسرو التابوهات: صحافيون ومثقفون في خدمة النظام السائد» (دار نشر «لا ديكوفرت») أن أهم ما يجسد النزعة العنصرية الجديدة لبعض المثقفين هو الهجوم على الإسلام والمسلمين، فيكتب: «وكأنه بعد سقوط الشيوعية لم يبق من فزاعة لتأجيج المخاوف سوى المهاجر المسلم الذي أصبح فجأة المسؤول عن كل مشكلات المجتمعات الأوروبية». يواصل سيبستيان فونتونال: «المشهد الثقافي الفرنسي اليوم يعج بالمثقفين المزيفين الذي لا يتورعون عن ضرب الآخر (الفقير، المهاجر، المسلم..) للحصول على منبر جديد».
إيريك زمور الصحافي والكاتب المعروف بمواقفه المتطرفة يكتب مثلا في رواية «الأخ الأصغر» (دار نشر «دونويل») عن ابن المهاجر المغاربي الذي يغتال صديق طفولته لأنه يهودي بعد سقوطه في شباك التطرف. الصحافي المثير للجدل يقدم شخصيات روايته من أجيال الهجرة على أنهم تائهون لا طريق أمامهم سوى التطرف الديني أو السقوط في الانحراف والجريمة. وكان قد أثار الجدل حين أعلن أن العرب والأفارقة منحرفون وأن ما يقدمونه من إنتاجات فنية أو ثقافية لا يحمل أي قيمة.
* مدرسة «فكرية» جديدة
أولى قناعات الجماعات اليمينية المتطرفة أن الأنظمة السائدة سواء من اليمين أو من اليسار تقود المجتمعات الأوروبية نحو الهاوية، وأن التعايش الثقافي أكذوبة كبيرة لا هدف منها سوى القضاء على التراث الفرنسي الأصيل، لأن الثقافات أو «الحضارات»؟! حسب مفهومهم، لا تتساوى، فالثقافة الأوروبية أرقى وأكثر تميزا من الثقافات الأخرى ولا تحتاج لأي إضافة خارجية. بعض المفكرين ممن صرحوا بتبنيهم هذه النظريات اختاروا التعبير عن تميزهم من خلال التجمع في مدرسة فكرية جديدة تسمى نفسها «اليمين الجديد» أو «لانوفال دروات»، وهو تيار فكري يجسده في فرنسا «الغريس» أو مركز بحوث ودراسات الحضارات الأوروبية المعروف باحتضانه مجموعة من الباحثين من ذوي التوجه اليميني المتطرف وعلى رأسهم الباحث ألان دو بونواست المقرب من زعيم الجبهة الوطنية جان ماري لوبان، وقد لخص هذا الأخير شعار هذه المدرسة الفكرية فيما يلي: «لا لآيديولوجية النظير التي ترفض رسم اختلافات بين الثقافات وتمييز بعضها عن بعض.. الأفضلية للتراث الأوروبي والعودة للجذور المسيحية، على كل ثقافة أن تتطور داخل حدودها فقط ودون اختلاط بالثقافات الأخرى، ورفض العولمة والليبرالية وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم».
علما بأن رقم «2» في مركز بحوث «الغريس» المؤرخ دومينيك فرنر الذي انتحر بداية شهر يونيو (حزيران) أمام كنيسة نوتردام دو باري كان قد عبر عن هذه الهواجس بقوة في الرسالة التي تركها: «أنا أحب الحياة، ولكني أريد من خلال هذه الحركة أن أطلق صرخة استغاثة: أنا قلق على مصير الفرنسيين، الخطر الذي يتربص بنا عظيم: الهجرة غير الأوروبية إن استمرت قد تحل محل سكان فرنسا وأوروبا، وقد يأتي اليوم الذي يحكم فيه المسلمون فرنسا..».
هذه المدرسة الفكرية أثرت في عدة مجالات ثقافية. الباحث المختص جان إيف كامو يكتب في مقال جيد بعنوان: «الثقافة المضادة لليمين المتطرف في فرنسا» (منشورات «جمعية المكتبات الفرنسية»): «من الخطأ الاعتقاد بأن الجبهة الوطنية لا تهتم بالإشكاليات الثقافية وأنها لا تعنى إلا بالمؤلفات التي تبجل التراث المحلي الفرنسي فحسب، فهي منذ سنوات تطور ما تسميه (الثقافة المضادة) أو (الثقافة البديلة) التي ترى أنها أكثر صدقا من الثقافة السائدة التي تظلل الناس». من أولوياتها تقديم بعض المؤلفين التي تعتبر أن الثقافة «السائدة» تهمشهم، وطرح مواضيع تعتبر أن النظام يحاول إخفاءها عن الفرنسيين لا سيما ما يخص الهجرة.
يواصل جان إيف كامو: «الجبهة الوطنية أصبحت تملك شبكة كبيرة من المرافق الثقافية والعلمية كدور النشر، والمكتبات الخاصة، ومراكز البحوث، والمنظمات الخيرية والطلابية، والمنشورات وحتى الفرق الموسيقية الخاصة بها».
وقد أحصى جان إيف كامو نحو 10 دور نشر من أهمها دار نشر «شيري» و«كونت كولتور» و«إيدسيون بلانش».
في المؤلفات المعروضة على موقع دار نشر «شيري» مثلا، وهي دار نشر مهمة، نرى أن أكثر الكتب مبيعا هي تلك التي تهاجم الإسلام أو الوحدة الأوروبية أو وسائل الإعلام المعروفة، أو تشكك في جرائم النازيين. أما مختبرات الأفكار فأهمها «بوليميا» و«كلوب دو لورلوج» أو «نادي الساعة» الذي ينشط تحت شعار: «أفضلية العرق الأوروبي». الموسيقى هي الأخرى لم تسلم من اختراق التيار المتطرف، وأهم معالمها اليوم ما يسمى «الروك الفرنسي القومي» أو «روك إدونتيتار فرنسي»، ويوجد منها حسب الباحث نيكولا لوبور أكثر من 20 فرقة تتخذ من الغناء وسيلة لنشر أفكار الجماعات العنصرية. «لوكوك غولوا» أهم بوابة على الشبكة للتعريف بهذه الموسيقى صنفت في تقرير «للمراب» (الحركة من أجل محاربة العنصرية والصداقة بين الشعوب) من أكثر المواقع بثا للمضامين العنصرية.
لوحظ مؤخرا تقدم أحزاب اليمين المتطرف في صناديق الاقتراع الأوروبية في إيطاليا، وإسبانيا، وهولندا، والسويد، واليونان، والنرويج، وفرنسا؛ حيث باتت تمثل ما بين 10 و20 في المائة من أصوات الناخبين في معظم الدول الأوروبية. اليوم نظريات العنصرية والتطرف تسجل نجاحات أخرى على الساحة الثقافية والفكرية وقد يكون ذلك أكثر خطرا.