اليمين المتطرف الفرنسي يخترق الأدب مروجا لثقافة «بديلة»

عودة قوية لنتاجات تكرس الخوف من الأجانب والمهاجرين وتحذر من التنوع الثقافي

إريك زمور
إريك زمور
TT

اليمين المتطرف الفرنسي يخترق الأدب مروجا لثقافة «بديلة»

إريك زمور
إريك زمور

* فونتونال: أهم ما يجسد النزعة العنصرية الجديدة لبعض المثقفين هو الهجوم على الإسلام والمسلمين وكأنه بعد سقوط الشيوعية لم تبق من فزاعة لتأجيج المخاوف سوى المهاجر المسلم الذي أصبح فجأة المسؤول عن كل مشكلات المجتمعات الأوروبية
* في المؤلفات المعروضة على موقع دار نشر «شيري» مثلا.. وهي دار نشر مهمة.. نرى أن أكثر الكتب مبيعا هي تلك التي تهاجم الإسلام أو الوحدة الأوروبية أو وسائل الإعلام المعروفة أو تشكك في جرائم النازيين

من القضايا التي شغلت الساحة الثقافية الفرنسية هذا الصيف إجبار مكتبة بمدينة «بارك سور مار» شمال فرنسا على سحب نسخ معروضة للبيع من كتاب «كفاحي» للزعيم النازي أدولف هتلر.
الجدل لم يتناول شرعية العملية التجارية بحد ذاتها، حيث إن القانون الفرنسي يسمح ببيع هذا الكتاب منذ سنوات بشرط إرفاقه بتحذير من محتواه الخطير، لكن ما أذكى السجال أكثر هو الإقبال الكبير على اقتناء هذا الكتاب الذي نفدت منه نسخ كثيرة في وقت قياسي، حسب شهادة أصحاب المكتبة، مما استدعى سحبه.
الظاهرة أثارت مخاوف بعض المثقفين الذين اعتبروا أن التيارات اليمينية المتطرفة باتت تبث سمومها الخطيرة الآن في معاقل الثقافة بعد أن استفحلت في السياسة، كما أن كوادر من الحزب الشيوعي الفرنسي نددوا على أثر هذه الحادثة بما سموه: «تهوين أفكار اليمين المتطرف»، بل والترويج لها في دور العلم والمعرفة. وهي ليست المرة الأولى التي تشهد فيها مؤلفات من هذه النوعية مثل هذا الرواج. الصحافيان أبال مستر وكارولين مونو، لفتا الانتباه في مدونة مشتركة على صفحات جريدة «لوموند» إلى النجاح الذي تلاقيه أعمال كتاب معروفين بتوجهاتهم العنصرية المتطرفة: الكاتب الفرنسي ألان سولار مثلا وكتابه «فهم الإمبراطورية» («كومبرودر لومبير»، دار نشر «بلانش») الذي نشر مند سنتين ولا يزال لغاية اليوم - رغم هجوم النقاد وغياب دعاية إعلامية - من أكثر الكتب مبيعا في موقع «أمازون - فرنسا». كذلك الحال مع رواية جان راسباي: «معسكر القديسين» (لوكون دي سان، دار نشر «لافون») التي لاقت نجاحا منقطع النظير في المكتبات؛ حيث احتلت المرتبة الـ22 من مجموع الـ500 كتاب الأكثر مبيعا في فرنسا عام 2012. وكان يباع منها نحو 500 نسخة كل شهر، رغم أن الطبعة الأولى تعود لسنوات السبعينات.

* عودة يمينية قوية
في حديث نشر بمجلة «سلات»، يتحدث الباحث إروان لوكور، المختص في شؤون اليمين المتطرف، عن عودة قوية إبان العشرية الأخيرة في مجال الأدب والكتابة للإشكاليات القريبة من قناعات أحزاب اليمين المتطرف؛ ومن أهمها الخوف من الأجنبي والمهاجر، ورفض تمازج الأجناس والتنوع الثقافي. الأزمات الاقتصادية المتفاقمة في أوروبا وأحداث الإرهاب زادت من حدة مشاعر الكراهية لا سيما تجاه المسلمين، وهو ما صنع شهرة بعض الكتاب الأوروبيين ممن جهروا بتوجهاتهم العنصرية أمثال الإيطالية أوريانا فلاتشي: («الغضب والكبرياء»)، والألماني تيلو سرازان: («ألمانيا تختفي»)، أو الفرنسي ميشال ويلبك: («البطاقة والإقليم»). يحكي الروائي الفرنسي جان راسباي في مؤلفه «معسكر القديسين» قصة مليون مهاجر هندي يصلون لشواطئ جنوب فرنسا على متن باخرة ليستولوا بعدها على منازل الفرنسيين ومدارسهم ومستشفياتهم الجميلة. كل من يقرأ الرواية يلاحظ أن الكاتب لا يصف المهاجرين الهنود إلا بصفات ذميمة: «الوحوش» و«الجياع» و«النتنة» ولا يستثني منهم أحدا، كما يصف العرب والأفارقة بـ«الخونة»، و«المغتصبين»، والرواية كلها تدور حول شجاعة حفنة صغيرة من الفرنسيين المتأصلين (العرق الآري) التي تنظم المقاومة في الجبال البعيدة عن المدن التي احتلها المهاجرون الهنود وسط جبن القادة والمثقفين الذين استسلموا للهجمة. على أن قناعات الكاتب تظهر منذ البداية حين يكتب في مقدمة الكتاب عن خطر اختفاء العرق الأوروبي بسبب تكاثر الأجانب السريع، وتنبأ بأن تصبح غالبية سكان فرنسا مع مطلع 2050 من الأجانب غير الأوروبيين.
الصحافي السابق في يومية «ليبراسيون» دانيال شنيديرمان تساءل على صفحات موقع «أري سور إيماج»: كيف يمكن تفسير النجاح الجديد لهذه الرواية رغم أنها كتبت منذ 40 سنة، وكيف قبلت دار نشر كبيرة مثل «لافون» نشر مثل هذا العمل الذي تنبعث منه رائحة العنصرية؟ جواب واحد: تقدم اليمين المتطرف في أوروبا والانتصار النسبي لنظرياته وهب حياة جديدة لهذا النوع من الأدب.
أما الكاتب والصحافي الفرنسي سيبستيان فونتونال، فيرى في كتابه «كاسرو التابوهات: صحافيون ومثقفون في خدمة النظام السائد» (دار نشر «لا ديكوفرت») أن أهم ما يجسد النزعة العنصرية الجديدة لبعض المثقفين هو الهجوم على الإسلام والمسلمين، فيكتب: «وكأنه بعد سقوط الشيوعية لم يبق من فزاعة لتأجيج المخاوف سوى المهاجر المسلم الذي أصبح فجأة المسؤول عن كل مشكلات المجتمعات الأوروبية». يواصل سيبستيان فونتونال: «المشهد الثقافي الفرنسي اليوم يعج بالمثقفين المزيفين الذي لا يتورعون عن ضرب الآخر (الفقير، المهاجر، المسلم..) للحصول على منبر جديد».
إيريك زمور الصحافي والكاتب المعروف بمواقفه المتطرفة يكتب مثلا في رواية «الأخ الأصغر» (دار نشر «دونويل») عن ابن المهاجر المغاربي الذي يغتال صديق طفولته لأنه يهودي بعد سقوطه في شباك التطرف. الصحافي المثير للجدل يقدم شخصيات روايته من أجيال الهجرة على أنهم تائهون لا طريق أمامهم سوى التطرف الديني أو السقوط في الانحراف والجريمة. وكان قد أثار الجدل حين أعلن أن العرب والأفارقة منحرفون وأن ما يقدمونه من إنتاجات فنية أو ثقافية لا يحمل أي قيمة.

* مدرسة «فكرية» جديدة
أولى قناعات الجماعات اليمينية المتطرفة أن الأنظمة السائدة سواء من اليمين أو من اليسار تقود المجتمعات الأوروبية نحو الهاوية، وأن التعايش الثقافي أكذوبة كبيرة لا هدف منها سوى القضاء على التراث الفرنسي الأصيل، لأن الثقافات أو «الحضارات»؟! حسب مفهومهم، لا تتساوى، فالثقافة الأوروبية أرقى وأكثر تميزا من الثقافات الأخرى ولا تحتاج لأي إضافة خارجية. بعض المفكرين ممن صرحوا بتبنيهم هذه النظريات اختاروا التعبير عن تميزهم من خلال التجمع في مدرسة فكرية جديدة تسمى نفسها «اليمين الجديد» أو «لانوفال دروات»، وهو تيار فكري يجسده في فرنسا «الغريس» أو مركز بحوث ودراسات الحضارات الأوروبية المعروف باحتضانه مجموعة من الباحثين من ذوي التوجه اليميني المتطرف وعلى رأسهم الباحث ألان دو بونواست المقرب من زعيم الجبهة الوطنية جان ماري لوبان، وقد لخص هذا الأخير شعار هذه المدرسة الفكرية فيما يلي: «لا لآيديولوجية النظير التي ترفض رسم اختلافات بين الثقافات وتمييز بعضها عن بعض.. الأفضلية للتراث الأوروبي والعودة للجذور المسيحية، على كل ثقافة أن تتطور داخل حدودها فقط ودون اختلاط بالثقافات الأخرى، ورفض العولمة والليبرالية وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم».
علما بأن رقم «2» في مركز بحوث «الغريس» المؤرخ دومينيك فرنر الذي انتحر بداية شهر يونيو (حزيران) أمام كنيسة نوتردام دو باري كان قد عبر عن هذه الهواجس بقوة في الرسالة التي تركها: «أنا أحب الحياة، ولكني أريد من خلال هذه الحركة أن أطلق صرخة استغاثة: أنا قلق على مصير الفرنسيين، الخطر الذي يتربص بنا عظيم: الهجرة غير الأوروبية إن استمرت قد تحل محل سكان فرنسا وأوروبا، وقد يأتي اليوم الذي يحكم فيه المسلمون فرنسا..».
هذه المدرسة الفكرية أثرت في عدة مجالات ثقافية. الباحث المختص جان إيف كامو يكتب في مقال جيد بعنوان: «الثقافة المضادة لليمين المتطرف في فرنسا» (منشورات «جمعية المكتبات الفرنسية»): «من الخطأ الاعتقاد بأن الجبهة الوطنية لا تهتم بالإشكاليات الثقافية وأنها لا تعنى إلا بالمؤلفات التي تبجل التراث المحلي الفرنسي فحسب، فهي منذ سنوات تطور ما تسميه (الثقافة المضادة) أو (الثقافة البديلة) التي ترى أنها أكثر صدقا من الثقافة السائدة التي تظلل الناس». من أولوياتها تقديم بعض المؤلفين التي تعتبر أن الثقافة «السائدة» تهمشهم، وطرح مواضيع تعتبر أن النظام يحاول إخفاءها عن الفرنسيين لا سيما ما يخص الهجرة.
يواصل جان إيف كامو: «الجبهة الوطنية أصبحت تملك شبكة كبيرة من المرافق الثقافية والعلمية كدور النشر، والمكتبات الخاصة، ومراكز البحوث، والمنظمات الخيرية والطلابية، والمنشورات وحتى الفرق الموسيقية الخاصة بها».
وقد أحصى جان إيف كامو نحو 10 دور نشر من أهمها دار نشر «شيري» و«كونت كولتور» و«إيدسيون بلانش».
في المؤلفات المعروضة على موقع دار نشر «شيري» مثلا، وهي دار نشر مهمة، نرى أن أكثر الكتب مبيعا هي تلك التي تهاجم الإسلام أو الوحدة الأوروبية أو وسائل الإعلام المعروفة، أو تشكك في جرائم النازيين. أما مختبرات الأفكار فأهمها «بوليميا» و«كلوب دو لورلوج» أو «نادي الساعة» الذي ينشط تحت شعار: «أفضلية العرق الأوروبي». الموسيقى هي الأخرى لم تسلم من اختراق التيار المتطرف، وأهم معالمها اليوم ما يسمى «الروك الفرنسي القومي» أو «روك إدونتيتار فرنسي»، ويوجد منها حسب الباحث نيكولا لوبور أكثر من 20 فرقة تتخذ من الغناء وسيلة لنشر أفكار الجماعات العنصرية. «لوكوك غولوا» أهم بوابة على الشبكة للتعريف بهذه الموسيقى صنفت في تقرير «للمراب» (الحركة من أجل محاربة العنصرية والصداقة بين الشعوب) من أكثر المواقع بثا للمضامين العنصرية.
لوحظ مؤخرا تقدم أحزاب اليمين المتطرف في صناديق الاقتراع الأوروبية في إيطاليا، وإسبانيا، وهولندا، والسويد، واليونان، والنرويج، وفرنسا؛ حيث باتت تمثل ما بين 10 و20 في المائة من أصوات الناخبين في معظم الدول الأوروبية. اليوم نظريات العنصرية والتطرف تسجل نجاحات أخرى على الساحة الثقافية والفكرية وقد يكون ذلك أكثر خطرا.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!