رغم عمرها الذي تخطى الثامنة والأربعين، فإن يونا يوسف لا تزال تتمتع بحيوية ونشاط كبيرين. تشع عيناها بريقا عندما تتحدث عن أطفالها التسعة وعن أحفادها الكثيرين، لكن إن سألتها عما حدث منذ 67 عاما عندما وصلت هي وعائلتها إلى إسرائيل قادمين من اليمن، فإن عينيها ستدمعان.
«لم يكن عمري قد تعدى الخامسة عشرة عندما حضرنا إلى هنا. فقد حضر لنا بعض الأشخاص وطلبوا مني أن أصطحب سعدية إلى عيادة الطبيب»، قالتها بصوت متحشرج، وهي تتذكر اليوم الذي اصطحبت فيه أختها غير الشقيقة التي لم يتعد عمرها حينها أربع سنوات لكشف روتيني للوافدين الجدد. أضافت: «في العيادة، طلبوا مني العودة للبيت وترك الطفلة على وعد بإعادتها للبيت لاحقا. لم أكن أدري شيئا، فقد كنت أنا طفلة أيضًا».
لم تر يونا شقيقتها بعد ذلك، وشأنها شأن غيرها من المهاجرين في ذلك الوقت، عاشت يونا وعائلتها في معسكر استقبال بعد وصولهم إلى إسرائيل عام 1949، وعاشت زوجة أبيها الثانية واثنان من الأطفال، منهم أختها سعدية، معهم في المعسكر نفسه.
على مدار السبعين عاما الماضية، اعتاد الإسرائيلون سماع حكايات المهاجرين اليهود من مختلف الدول العربية ممن يقولون إن أطفالهم اختفوا، أو ربما اختطفوا في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي بعد وصولهم مباشرة إلى إسرائيل. في بعض الحالات، لم تر تلك العائلات أبناءها ثانية، وفي حالات أخرى تم إخبارهم أن أطفالهم قد ماتوا.
وبحسب بعض التحليلات، فقد جرى تسليم هؤلاء الأطفال لأزواج حرموا من الإنجاب، قد يكون بينهم من تبقى على قيد الحياة بعد محارق الهولوكوست، في حين يعتقد آخرون أن الأطفال ربما يكونون قد أرسلوا لعائلات يهودية في الولايات المتحدة.
يرى البعض ممن درسوا وحللوا اللغز أن السبب قد يرجع إلى الطبيعة العدوانية التي اتسمت بها الطبقة الحاكمة في إسرائيل في ذلك الوقت - اليهود البيض الأشكيناز القادمون من أوروبا - والمفاهيم التي درجوا عليها تجاه غير المثقفين ممن يتحدثون اللغة العربية الذين هاجروا مفلسين إلى إسرائيل وبصحبتهم الكثير من الأطفال. رأى البعض كذلك أن الطبقة الحاكمة أرادت مساعدة تلك الأسر بتوفير حياة أفضل لأطفالها.
يشك الكثيرون في أن بعض الأطباء والممرضات وعمال الإغاثة ومسؤولي الحكومة قد تورطوا في القضية. لكن يبقى السؤال عما إذا كانت الأوامر باختطاف هؤلاء الأطفال قد صدرت عن جهات حكومية عليا من دون إجابة.
حققت ثلاثة حكومات في القضية، كان آخرها في التسعينات من القرن الماضي، لكن الجميع قرر أن الأطفال ماتوا نتيجة المرض، وأن القليل منهم قد أرسل إلى بعض الأسر بغرض التبني، وهو الاستنتاج الذي رفضته غالبية الأسر.
لكن في الشهور الأخيرة، طفت القصة على السطح بعد أن أخذت بعدا آخر. ففي شهر يونيو (حزيران) الماضي، أفاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه «رفع الحظر عن القصة»، وأنه كلف الوزير تساحي هنغبي (وهو وزير بلا حقيبة وعضو في حزب كاديما) بالتحقيق في القضية.. و«كشف الحقيقة».
«جرح يهود اليمن لا يزال مفتوحا ولا يزال ينزف في الكثير من العائلات ممن لا تعرف مصير أطفالها الذين اختفوا»، بحسب نتنياهو.
وخلال الشهر الماضي، صرح هنغبي لقناة إخبارية بأنه بعد الاطلاع على تحقيقات الحكومة في القضية، أصبح الآن على يقين أن المئات من الأطفال اليمنيين قد أخذوا عنوة من أبويهم، وإن كان لا يعرف لماذا أو أين ذهبوا.
أحيا إعلان هنغبي الأمل لدى الكثير من العائلات ممن قوبلت التماساتهم المستمرة السابقة بالرفض. يقول أفي يوسف، وهو ابن يونا يوسف: «نعتقد أنه يتحتم على الحكومة أن تعطينا إجابات»، مضيفا: «نعلم أن الأطفال اختفوا، وأن سعدية أخذت من بين يدي أمي».
نشأ أفي يوسف الذي يعمل محاميا الآن، على سماع قصة خالته سعدية وطفلين آخرين، ابني خالته الكبرى، اللذين اختفيا أيضا في معسكرات الاستقبال.
«من الواضح أن جريمة مروعة لم نشهد لها مثيل قد حدثت هنا، والدولة لا تريد أن تكشف اللثام عنها»، بحسب يائيل تزيدوك، وهي صحافية سابقة كانت طرفا في القضية منذ نحو 30 عاما عندما بدأت استجواب الأمهات اليمنيات في برنامجها الإذاعي.
تقول يائيل: «من الصعب سماع قصصهم، فلم أستطع النوم طوال الليل، فقد كان واضحا لي أنهم يقولون الحقيقة.. الكثير من الشهود أفادوا أن هؤلاء الأطفال قد اختطفوا».
وتعمل يائيل حاليا مع منظمة أشيم فيكياميم (الإخوان لا يزالون أحياء)، وهي منظمة غير ربحية أسست خصوصا لكشف الحقيقة واقتفاء إثر الأقرباء، بعد أن تعدى عمر أغلب هؤلاء الأطفال الستين وربما السبعين عاما.
زافي أميري كان أحد هؤلاء الأطفال، فعندما كان في الثلاثينات من العمر اكتشف أنه ابن بالتبني، وبدأ البحث عن عائلته الحقيقة.
يقول أميري البالغ من العمر 64 عاما: «يخالجني شعور دائم بأن هناك خطأ ما حدث»، مضيفا: «فقد استمرت عائلتي في التنقل من مكان لآخر، وكنت كثيرا ما أسمع أنني ابن بالتبني، لكنني لم أبدأ في البحث في الأمر إلا عندما اعترف لي أبي بالحقيقة».
وبمساعدة محام، حصل أميري على ملف التبني الخاص به، واكتشف أنه ابن لأبوين قدما من تونس. عثر على أمه الحقيقية، لكن بعدما أدخلت إلى مصحة نفسية، ربما بسبب عدم تحملها لفقدان ولدها، وفقا لأميري.
وبالرجوع إلى ملف التبني الخاص به، الذي شمل إقرارا بموافقة الأم على تركه للتبني، لكن من دون توقيع - لم يكن بالوثيقة سوى بصمة الإصبع - تشكك أميري أن الأمر انطوى على خدعة.
وتساءل قائلا: «إن كانت لا تعرف الكتابة ولا القراءة، فكيف لها أن تضع بصمتها على وثيقة لا تعلم محتواها».
لم ينجح سوى بضع عشرات من الأبناء بالتبني في تتبع عائلاتهم الحقيقية، في حين لم يسمح للعائلات التي فقدت أبناءها بالبحث عنهم في الملفات طبقا للقانون.
وتحتفظ جمعية «أمرام»، التي تعمل في المساعدة في القضية نفسها، بقوائم على موقعها على الإنترنت تضم مئات العائلات ممن يبحثون في القضية. فهناك الكثير من الحكايات عن الأطفال حديثي الولادة ممن أخذوا إلى وحدات، خاصة ثم أبلغت أمهاتهم بعد ذلك بأيام بأن أطفالهم قد ماتوا، بالإضافة إلى قصص أخرى عن أسر لديها الكثير من الأبناء طلب منها التبرع ببعضهم لأسر أخرى، وعندما رفضوا، أبلغوا بموت أطفالهم.
وتقول نوريت كورين، وهي عضو بالكنيست الإسرائيلي ورئيسة اللجنة المسؤولة البرلمانية المكلفة التحقيق في قضية الأطفال المخطوفين، إن لديها أكثر من ألف ملف تحوي تفاصيل عن الأطفال المفقودين ومعلومات عن مئات الأسر التي تبحث عنهم منذ عقود.
وتعمل كورين حاليا على إعداد قاعدة بيانات بالحمض النووي (دي إن إيه) لمساعدة الأطفال في الوصول إلى ذويهم، لكن ذلك لن يتم إلا بطلب من الابن. وتقول: «الآن لا نعرف ماذا حدث في الحقيقة، لكن كلما حصلنا على معلومات أكثر، زادت الفرص أمامنا في الوصول إليهم».
وتضيف كورين أن «الأهم هو أنه لو ثبت حدوث ذلك بالفعل، وهو ما نعتقد في حدوثه بشكل منظم، فسيتحتم على الحكومة الاعتراف بما حدث وتحمل المسؤولية عن ذلك».
* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»
يمنية سُرِقت أختها في إسرائيل: اختفت بعد فحص طبي
أطفال مهاجرون من الدول العربية وذووهم يطالبون الحكومة بأجوبة
يمنية سُرِقت أختها في إسرائيل: اختفت بعد فحص طبي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة