وجد المخرج السينمائي البرازيلي فيرناندو ميريليش نفسه أمام تحدٍ كبير، عندما أوكلت إليه مهمة إخراج حفل افتتاح أولمبياد ريو، المخرج الذي اشتهر بأفلام مثل «سيتي أوف غود» و«كونستانت غاردنر» معروف بالتعامل مع ظواهر العنف والجريمة، فما الذي يمكن أن يقدمه هذا المخرج لحفل افتتاح دورة أولمبية أحاطت بها الشائعات والشكوك قبل بدايتها؟
ومع منافسة قوية من دورات سابقة سخرت لها ميزانيات طائلة، اختار ميريليش أن يكون حفل الافتتاح معبرًا عن الشخصية البرازيلية، مرحًا وسعيدًا ومستمتعًا بالحياة، وهو ما أكده في أحد البرامج التلفزيونية عندما قال: «حفل أثينا كان كلاسيكيًا، وحفل بكين كان مترفًا، وحفل لندن كان ذكيًا، وحفلنا سيكون (كول) (مسترخيًا)». واختار التركيز على 3 عناصر هي: الحديقة والاهتمام بكوكب الأرض والتنوع والمتعة. ولم يكن أمامه كثير من الخيارات إلا تقديم عرض لا يعتمد على كثير من التكنولوجيا ويعول بشدة على تقاليد المهرجانات البرازيلية.
وأجمعت ردود الفعل على الحفل الذي أقيم على الملعب الأسطوري ماراكانا، أنه كان «مضادًا للاكتئاب»، ورغم ميزانية الحفل المحدودة في بلاد تضربها أزمات متنوعة، بدت مظاهر الفرح على الجماهير والرياضيين، في بلد يعيش أسوأ فترة اقتصادية في 80 عامًا ويشهد ارتفاعًا في معدل الجريمة.
كشفت البرازيل عن رؤية لغاباتها المطيرة الشاسعة والطاقة الإبداعية لسكانها المتنوعين في مراسم افتتاح الألعاب الأولمبية في ريو دي جانيرو، على أنغام موسيقى السامبا وبوسا نوفا، يوم الجمعة.
وفي دولة تعاني من تفاوت اقتصادي، احتفت مراسم الافتتاح بثقافة المناطق العشوائية التي تطل على شواطئ ريو الشهيرة، وتحيط باستاد ماراكانا الشهير الذي يستضيف الافتتاح.
بدأ الحفل بمعزوفات موسيقية، أولها «اكويلي ابراسو» الشهيرة لجيلبرتو جيل أيقونة الموسيقى البرازيلية، ترافقها تقنيات إضاءة وليزر ورقص، على أرض ملعب مهيب شهدت أبوابه إجراءات أمنية مشددة تحت إشراف 10 آلاف شرطي.
وأنشد المغني البرازيلي باولينيو دا فيولا النشيد الوطني البرازيلي من أرض الملعب، وهو يعزف على الغيتار ترافقه فرقة موسيقية.
«ليكن حفل الافتتاح بلسمًا لاكتئاب البرازيليين»، هذا هو هدف حفل الافتتاح بالنسبة إلى مخرجه البرازيلي فيرناندو ميريليش.
وتحول ملعب ماراكانا الأسطوري، الذي غص بأكثر من 60 ألف متفرج (تمت تغطية المنعطف الشمالي منه لضرورات العرض)، حيث استعرض مئات الممثلين نحو 12 مدرسة لرقص السامبا، في ظل انشراح جماهيري وتشجيع كثيف على أنغام الموسيقى المحلية، ومشاهد تضمن أحدها دخول عارضة الأزياء السابقة، الفاتنة جيزيل بوندشن، حيث قطعت الملعب بأكمله على أنغام أغنية «فتاة من ايبانيما» لتوم جوبيم.
وركز الحفل أيضًا على مستقبل الكرة الأرضية، مع لوحة حول ظاهرة الاحتباس الحراري تؤكد الدور الحاسم للبرازيل، التي تضم الجزء الأكبر من غابة الأمازون.
وشهدت أرضية الملعب في البداية مجموعة من العروض الفنية التي تستعرض تاريخ البرازيل، بدءًا من الحياة البدائية على أرضها وحياة السكان الأصليين، ومرورًا بالغزو البرتغالي ثم توافد المهاجرين، وحتى آخر التطورات في التاريخ الحديث للبرازيل.
بعدها وجهت ريو دي جانيرو رسالة هادفة ومؤثرة إلى العالم، من خلال عرض صور من إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا)، تلقي الضوء على التغير المناخي المتمثل في ارتفاع معدلات الحرارة في مختلف المناطق بالعالم خلال الأعوام الأخيرة، وانحسار الجليد والتلوث البيئي بمعدلات عالية.
وبدأ دخول الوفود وقد ساهمت أيضًا في رسالة بيئية، حيث شارك الرياضيون في عمل رمزي يتمثل في وضع بذور الأشجار التي ستستخدم فيما بعد لإنشاء «الحديقة الأولمبية» في ريو دي جانيرو.
ووفقًا للتقاليد الأولمبية، كان وفد اليونان أول وفد (من بين 207 دول مشاركة) يدخل إلى أرض الملعب، بينما كان الفريق البرازيلي صاحب الضيافة آخر الوفود دخولاً بعد فريق اللاجئين الأولمبي.
وكان من بين أبرز النجوم من حاملي أعلام الدول المشاركة، نجم السباحة الأميركي مايكل فيليبس، ونجم التنس البريطاني آندي موراي، ونجم التنس الإسباني رفاييل نادال.
وتباينت ردود فعل من حيث شكل الترحيب لبعض الوفود، فقد حظيت البعثة البرتغالية بواحد من أفضل أشكال الاستقبال من بين جميع البعثات الرياضية.
كما نالت البعثتان الإيطالية والمكسيكية ترحيبًا رائعًا من قبل الجماهير في المدرجات، ولكن بدرجة أقل من بعثة البرتغال.
أما الوفد الروسي الذي قاده لاعب الكرة الطائرة سيرغي تيتيوخين، فقد دخل إلى أرض الملعب بابتسامة على وجوه أعضائه، رغم الاستقبال الفاتر، حيث قوبل بمزيج من التصفيق وصيحات الاستهجان من قبل الحضور. وتلقت البعثة الأرجنتينية صافرات استهجان خلال دخولها، للتنافس التاريخي بين البلدين، وقد حمل لاعب كرة السلة الشهير لويس سكولا نجم فريق بروكلين نيتس الأميركي، العلم الأرجنتيني في مقدمة أفراد البعثة.
ويأتي هذا على عكس الاستقبال والترحاب الحار من البرازيليين في المدرجات للبعثة الألمانية لدى دخولها إلى أرض الملعب، رغم الهزيمة التاريخية الثقيلة (1/ 7) للمنتخب البرازيلي أمام نظيره الألماني قبل عامين فقط، في المربع الذهبي لبطولة كأس العالم 2014 لكرة القدم بالبرازيل.
وحظي فريق اللاجئين الأولمبي الذي يمثل اللاجئين من جميع أنحاء العالم، باستقبال حافل لدى دخوله تحت مظلة العلم الأولمبي، حيث تعالت هتافات الحضور بشكل كبير ترحيبًا به، في رسالة بارزة أخرى حملها حفل الافتتاح.
وكان من بين الحاضرين بان كي مون الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، والرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري، وهوراسيو كارتيس رئيس باراغواي، ووزير الخارجية الأميركي جون كيري، بخلاف البلجيكي جاك روج الرئيس السابق للجنة الأولمبية الدولية.
أشخاص على الهامش
حرص الأشخاص الذين أشرفوا على مراسم الافتتاح على تقديم عرض لا يزعج دولة في ضائقة اقتصادية، لكن يظهر الطبيعة المبهجة الشهيرة للبرازيليين.
وبدأ الحفل عن طريق إظهار بداية الحياة نفسها في البرازيل والسكان الذين تشكلوا في الغابات الشاسعة، وشيدوا أكواخهم المعروفة باسم «اوكاس».
وجاء البرتغاليون إلى الشواطئ في قوارب وتوافد العبيد الأفارقة، وانتشروا معًا في الغابات ليشكلوا نواة البرازيل الحديثة.
وتشكلت المدن الضخمة في البرازيل في عرض باهر بالفيديو، إذ قفز أشخاص بحركات بهلوانية من سقف إلى سقف في المباني الناشئة، ثم إلى المناطق العشوائية التي كانت في قلب مراسم الافتتاح.
ومن المناطق العشوائية جاءت موسيقى الفانك البرازيلية - وهي إيقاعات تعود للقرن الـ20، وغنت على أنغامها النجمتان كارول كونكا وام.سي صوفيا.