عندما فاجأ الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي شعبه قبل شهرين بالإعلان عن «مبادرة تشكيل حكومة وحدة وطنية» وتحدث عن حاجة البلاد إلى «صدمة نفسية قوية»، لم يكن أحد يتوقع أنه سوف يقترح عليهم وزير الجماعات المحلية يوسف الشاهد لرئاسة الحكومة الجديدة وهو في الـ41 من عمره.
ولعل السؤال الكبير الذي يطرح مع اختيار الشاهد، القيادي الشاب في حزب الرئيس أي حزب «نداء تونس» وخريج إحدى كليات الزراعة في فرنسا، يهم دلالات الانفتاح الفعلي على جيل جديد من السياسيين وإن كان جزءا من «الصدمة النفسية» التي أورد قائد السبسي أن تونس تحتاج إليها حاليا حتى تحسن أداء مؤسسات الدولة والاقتصاد.
يشير متابعو الساسة السياسية إلى أن خبرة يوسف الشاهد في الحكم محدودة جدا لأنه أمضى أغلب مسيرته المهنية بين القطاع الخاص والتدريس في كليات الزراعة بجامعات فرنسا. وبناء عليه لا يتجاوز رصيد رئيس الحكومة التونسي المكلّف الجديد في الإدارة العمومية والحكم أكثر من سنتين تنقل خلالهما بين منصبي وزير دولة في وزارة الزراعة ثم وزير الجماعات المحلية التابعة لوزارة الداخلية، بيد أن هذا «النقص» في الخبرة داخل مؤسسات الدولة والقطاع العام يعتبره آخرون «نقطة قوة». بل إن قيادات منظمات رجال الأعمال رحبت بترشيح «رجل الأعمال الشاب» لرئاسة الحكومة القادمة، واعتبرت أن من مصلحة تونس أن يكون المشرف الأول على السلطة التنفيذية، بعد رئيس الجمهورية، من خارج «المؤسسات الإدارية البيروقراطية» التي خرجت منها غالبية رؤساء الحكومات والوزراء السابقين.
المصالحة مع تونس الأعماق
في الوقت نفسه اعتبر بعض زعماء حزب «نداء تونس»، مثل المدير التنفيذي للحزب حافظ قائد السبسي (نجل رئيس الجمهورية) ورئيس كتلة الحزب البرلمانية سفيان طوبال، أن رهان الأطراف التي عينت يوسف الشاهد على رأس الحكومة الجديدة تهدف أساسا إلى «محاولة ردم الهوة بين الطبقة السياسية التقليدية وشباب البلاد» الذي تؤكد كل الدراسات واستطلاعات الرأي أن الشرخ تعمق بينه وبين «شيوخ السياسة» الذين يتهم «الشباب الثائر» بعضهم بركوب ثورته التي فجرت في أواخر عام 2010 ومطلع 2011 انتفاضات شبابية اجتماعية سياسية شاملة في جل الدول العربية.
ولكن إلى أي حد يمكن لرئيس الوزراء المكلف يوسف الشاهد أن يقود مسار مصالحة مع «تونس العميقة»؟ وهل سيكون «الفارس» – أو «المهدي المنتظر» - الذي ينتظره ملايين الفقراء والمهمّشين والعاطلين عن العمل وأبناء الطبقة الوسطى الذين تدهورت أوضاعهم المادية والمعنوية بعد ست سنوات عن ثورتهم التي رفعت شعار «الكرامة»؟
محسن مرزوق، الوزير السابق وزعيم المنسحبين من حزب الباجي قائد السبسي، يستبعد ذلك. بل إن بعض رفاق يوسف الشاهد القدامى مثل القيادي السابق في اتحاد نقابات العمال والسياسي المعارض مصطفى بن أحمد يعتبرون أن «شخصية يوسف الشاهد ضعيفة» وستحرمه من فرصة أن يكون زعيما وقائدا سياسيا كاريزماتيا يؤثر في الشباب ويكسب ثقة السياسيين المنتمين إلى الحزب الحاكم والمعارضة.
سرقة «ثورة الشباب»
وبعد زهاء ست سنوات من احتجاجات شباب تونس على «الشيوخ» الذين يتهمونهم بـ«الانتهازية» وبسرقة ثورتهم ضد حكم الرئيس زين العابدين بن علي، يبدو أن الباجي قائد السبسي أراد أن يقنعهم أن «رسالتهم وصلت»، فقرر تعيين رئيس جديد للسلطة التنفيذية من «الجيل الجديد» للسياسيين الذين لم يتورطوا في غلطات الحكم في عهدي بورقيبة وبن علي، ثم في عهد الحكومات الثمانية التي تعاقبت على حكم تونس في حقبة «الربيع العربي».
لكن رموز المعارضة اليسارية التونسية - مثل عمار عمروسية وحمّه الهمامي والجيلاني الهمامي - يختلفون مع التقييم لمؤهلات المرشح لرئاسة الحكومة التونسية التاسعة ويتهمونه بـ«التبعية لقيادة حزب نداء تونس الذي يحكم البلاد منذ نحو سنة ونصف».
ويلتقي حول التقييم نفسه زعماء آخرون من المعارضة - بينهم رفاقه القدامى في «القطب التقدمي» وفي «الحزب الجمهوري» مثل سمير الطيب وعصام الشابي - في التشكيك في قوة شخصية يوسف الشاهد، رغم إقرارهم بمؤهلاته الكثيرة ومن بينها إجادته عدة لغات وانفتاحه على ثقافات فرنسا والولايات المتحدة وعلى جامعاتها ومراكز الدراسات الاقتصادية فيها.
من اليسار إلى اليمين
في هذا السياق أيضا يستحضر مصطفى بن أحمد ورفاقه الذين انشقوا عن «حزب الرئيس» كيف دخل يوسف الشاهد الساحة السياسية والحزبية «لأول مرة» بعد ثورة يناير 2011.
الشاهد بدأ بتأسيس حزب صغير مع عشرات من الشبان والمثقفين من الجنسين بينهم الحقوقية آمال بلخيريية. فلما حل موعد تنظيم الانتخابات العامة الأولى في أكتوبر (تشرين الأول) 2011 التحق الشاهد وأنصاره بتحالف انتخابي يساري صغير سمّي «القطب التقدمي»، وكان بزعامة الإعلامي الاشتراكي رياض بن فضل وعميد كلية الحقوق والعلوم السياسية الفاضل موسى وقيادات سابقة من الحزب الشيوعي التونسي. ولكن عندما فشلت الأحزاب العلمانية واليسارية والليبيرالية التونسية في أن تحصد مقاعد كثيرة من «المجلس الوطني التأسيسي» تشكل تحالف جديد لقوى اليسار المعتدل وأحزاب الوسط انضم إليه يوسف الشاهد مع بعض الكوادر الشابة المتخرجة من الجامعات الفرنسية إلى «الحزب الجمهوري» الذي أسسه قادة أكبر حزب معارضة قانونية في عهد زين العابدين بن علي بزعامة المحامي أحمد نجيب الشابي وشقيقه عصام الشابي والإعلامية والحقوقية مية الجريبي. وكانت تلك أهم تجربة حزبية سياسية خاضها الشاهد قبل أن ينسحب منها مع مئات من النشطاء ليلتحقوا في أواسط عام 2013 بالحزب الكبير الذي أسسه الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي وفتح أبوابه لكل معارضي تيار «الإسلام الاحتجاجي» و«حكومة الترويكا» بزعامة حزب حركة النهضة الإسلامي.
وشاءت الأقدار أن تنهار حكومة «النهضة» في انتخابات أواخر 2014 فأصبح الشاهد وزيرا في الحزب الحاكم الجديد الذي انحاز إلى اليمين ونجح في استقطاب غالبية رموز اليسار النقابي وكوادر الحزب «اليميني» الذي حكم تونس في عهدي بورقيبة وبن علي.. الحزب الدستوري ثم التجمع الدستوري الديمقراطي.
رجل وساطات
لكن من بين نقاط القوة بالنسبة ليوسف الشاهد - حسب أنصاره - أنه «رجل وساطات»، وسبق أن اختاره الرئيس قائد السبسي قبل سبعة أشهر ليرأس «لجنة الوساطات» التي تضم 13 قياديا في حزب «نداء تونس» ضمن محاولة المصالحة بين القيادات المتصارعة فيه بعد استقالة الرئيس وتفرغه لمنصب رئاسة الدولة تطبيقا للدستور. ويقر خصوم يوسف الشاهد - مثل مصطفى بن أحمد والصحبي بن فرج وعبد الرؤوف الشريف - أن الرجل يتميز بهدوئه وتواضعه وحرصه على التوفيق بين الفرقاء، غير أنهم في المقابل يلتقون مع زعيم «حزب المشروع» الوزير السابق محسن مرزوق في اتهام الشاهد بكونه «لم ينجح في وساطاته بسبب انحيازه لموقف جناح نجل الرئيس والمدير التنفيذي للحزب حافظ قائد السبسي.. ما أدى إلى مسلسل من الاستقالات من الحزب قبل مؤتمره الأول في يناير الماضي وبعده».
فإذا كان من بين أهداف تعيين قيادي من حزب الرئيس على رأس الحكومة الجديدة تقوية مواقع الحزب في الدولة والمجتمع فإن التحدي الكبير هو: هل ستنجح هذه الخطة؟ أم أن اختيار رئيس «لجنة التوافقات» سوف يزيده انقسامات وأزمات وسيورطه في مزيد من الصراعات بين «الإخوة الأعداء» الذين صنعوا انتصارات انتخابات 2014 الرئاسية والبرلمانية.. ثم تسببت صراعاتهم على الكراسي والمناصب و«الغنائم» في تراجع مصداقية الحزب وكوادره ؟
أقوى من الحبيب الصيد
لكن بعيدا عن التقييمات المتباينة لشخصية الشاهد وخبرته ومؤهلاته القيادية وفرص نجاحه، فإن السؤال الأكبر الذي يفرض نفسه في تونس منذ الكشف عن مبادرة الرئيس عن «حكومة الوحدة الوطنية» هو: هل سيكون رئيس الحكومة الجديد أقوى من سلفه الحبيب الصيد الذي سحب البرلمان ثقته منه ومن حكومته يوم 30 يوليو (تموز)؟
إقناع الأغلبية
وهل سينجح في إقناع الأغلبية البرلمانية - وكتلة حزب «حركة النهضة» الذي أصبح صاحب الكتلة الأكثر عددا - كي تمنحه ثقتها عند عرض حكومته عليها قبل مطلع الشهر القادم ؟
ثم هل سيضمن الرئيس المكلف الشاب دعمهما بعد ذلك عندما يعرض عليها مشاريع «قرارات لا شعبية» و«إجراءات موجعة» مثل تلك التي تهم تصفية الأوضاع المالية للمؤسسات العمومية المفلسة والصناديق الاجتماعية التي استفحل عجزها المالي؟ أم سيجد الشاهد نفسه وجها لوجه مع «سياسيين براغماتيين» أو «ميكيافيليين» يتخلون عنه وقت الشدة ثم يحملونه لوحده مسؤولية كل الصعوبات التي تواجه البلاد وعلى رأسها الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والمخاطر الأمنية ؟
الانفجار الأخطر
في هذا السياق رحب قادة الأحزاب الكبرى بالأولويات الأمنية والتنموية التي أعلن رئيس الحكومة المكلف أنه سيتفرغ لها. لكن التخوفات كبيرة من قدرة رئيس الحكومة الجديد على أن يكون في مستوى رفع التحديات التي تواجه البلاد بسبب تداخل المستجدات في تونس بتعقد ملف الإرهاب في ليبيا ودول الاتحاد الأوروبي.
ومن جهة ثانية يخشى بعض علماء الاجتماع السياسي، مثل سالم الأبيض والمهدي مبروك، من سيناريوهات تعرض حكومة يوسف الشاهد إلى الإرباك أو الإسقاط في وقت قياسي بسبب «الانفجار الأخطر» الذي قد يهدد تونس في أقرب وقت إذا تراكمت مشاكل الشباب والمهمشين وعجزت الأحزاب والنقابات التقليدية عن التفاعل معها وقيادتها.. وذلك على غرار ما حصل في «انفجارات شعبية عنيفة» سابقـة مثل «ثورة الخبز» في 1984 و«انتفاضات» 2008 و2010 في مناطق المناجم والولايات الفقيرة علــــى الحدود التونسية الجزائرية والليبية.. قبل سقوط حكم بن علي وبعده.