باشرت الحكومة الفرنسية، وخصوصا وزارة الداخلية والشؤون الدينية، بلورة خطة متكاملة لتحصين مسلمي البلاد ضد أخطار التطرف، عبر الهيئة التي تمثله والمجسدة في الوقت الحاضر بـ«المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية» وسبل تمويل المساجد وأماكن العبادة، فضلا عن اختيار الأئمة وتأهيلهم.
وجاءت العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا منذ شهر يناير (كانون الثاني) من العام الماضي والتي أوقعت إجمالي 236 قتيلا و730 جريحا، لتطرح هذه القضية على طاولة النقاش بقوة، فيما اهتم اليمين المتطرف واليمين الكلاسيكي، فضلا عن الكثير من المفكرين والإعلاميين، بتأكيد عدم مواءمة الإسلام للقيم الغربية والفرنسية، واتهامه بتوفير بيئة حاضنة للإرهاب.
ويوجد بعد آخر للتحرك الحكومي، وهو أن المعالجة الأمنية وحدها لا تكفي، بل يتعين التوصل إلى خطة متكاملة تأخذ في الاعتبار الأبعاد الدينية والآيديولوجية والاجتماعية وتجعل الجالية الإسلامية جزءا لا يتجزأ من هذا المشروع.
وعمدت الحكومة إلى تكليف موظف كبير في وزارة الداخلية لدراسة الموضوع وتقديم مقترحات، إلا أن حصول عمليتين إرهابيتين لا يفصل بينهما سوى أسبوعين، دفع الحكومة إلى الإمساك بزمام المبادرة وعدم ترك الساحة لليمين ولمنتقدي التقصير الحكومي ولتقديم مجموعة من المقترحات.
في الأيام الأخيرة، استحوذ موضوعان على الجدل الداخلي؛ الأول، يتناول تمويل بناء المساجد في فرنسا والثاني تأهيل الأئمة. ففيما خص المسألة الأولى، تضم فرنسا 2200 مسجد وقاعة صلاة. لكن تسمية «مساجد» الحقيقية لا تنطبق إلا على 90 مسجدا، تقع كلها في المدن الكبرى والمتوسطة، فيما الغالبية تتشكل من قاعات مختلفة حولت للصلاة.
وبحسب عميد مسجد باريس الكبير، الدكتور دليل بو بكر، فإن عدد المساجد غير كاف لاستيعاب المصلين، خصوصا أن فرنسا تضم ما بين 5 إلى ستة ملايين مسلم أو من أصول مسلمة. لكن إشكالية بناء المساجد متعددة الأوجه، ففي ظل تنامي شعور العداء للإسلام، يجهد المسلمون للحصول على تراخيص للبناء. وعندما تتوافر التراخيص، تطرح مسألة التمويل. ولما كانت القوانين الفرنسية تمنع الدولة من تمويل أماكن العبادة بسبب فصل الدين عن الكنيسة، يعول المسلمون إما على التبرعات الشخصية أو على المساعدات التي يمكن أن تأتي من الخارج. والحال أن باريس التي تريد أن يكون إسلامها فرنسيا فقط، تعتبر أن التمويل الخارجي له تأثيره في المساجد وفي الخطب التي تتم فيها، وبالتالي يتعين وضع حد له؛ الأمر الذي أعلنه رئيس الحكومة مانويل فالس قبل أيام، وأكده أول من أمس الرئيس فرنسوا هولاند.
من هنا، تنوي الحكومة إعادة إحياء مؤسسة أنشئت في عام 2005، وتسمى «مؤسسة الأعمال الخيرية الإسلامية» التي أطلقت أساسا من أجل الاهتمام ببناء المساجد وتوفير التمويل اللازم والاهتمام بأمور أخرى. إلا أن الخلافات الداخلية التي ألمت بـ«المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية» أصابت عملها بالشلل. وقال وزير الداخلية: إن المؤسسة ستظهر بحلة جديدة في الخريف المقبل، وستغير اسمها إلى «مؤسسة الإسلام الفرنسي». وبحسب ما قاله الرئيس هولاند بمناسبة لقائه السنوي مع الصحافة الرئاسية أول من أمس، فإنه يقترح تعيين الوزير الاشتراكي السابق جان بيار شوفنمان رئيسا لهذه المؤسسة. وشوفنمان، عضو مجلس الشيوخ والبالغ من العمر 77 عاما، شخصية محترمة يمينا ويسارا وأحد أشد السياسيين دفاعا عن العلمانية. لكن مسألة مساعدة الدولة على تمويل بناء المساجد يبدو أنها موضع نقاش داخل الحكومة. ففيما قال رئيسها مانويل فالس قبل ثلاثة أيام إنه «يتعين النظر في كيفية المساعدة على تمويل بناء المساجد»، أغلق الرئيس هولاند الباب نهائيا أمام هذا الاحتمال الذي من شأنه أن يفتح باب الانتقادات من اليمين واليسار على الحكومة الاشتراكية.
أما مسألة تأهيل الأئمة، فإنها تشكل الموضوع الشائك الثاني. وأساس المشكلة أن الحكومات المتعاقبة تعتبر أن بعض الأئمة الذين يجهلون القيم والثقافة واللغة الفرنسية يحملون رسائل متشددة راديكالية، لا تتلاءم مع هدف العيش المشترك. وأفاد وزير الداخلية بأن 80 إماما تم طردهم منذ عام 2012، وأن عشرات الملفات قيد الدراسة. كذلك أعلن أن عشرين مسجدا وقاعة صلاة تم إغلاقها منذ بداية العام الحالي، وأنه «لن يتردد أبدا» بفضل العمل بحالة الطوارئ أو القوانين والإجراءات الإدارية في اتخاذ قرارات مماثلة عندما تدعو الحاجة. وحجته أن الكثير من الذين سلكوا درب الراديكالية تأثروا بما سمعوه في المساجد أو قاعات الصلاة. لذا؛ فإن السلطات تريد أن يتم تأهيل الأئمة في فرنسا وأن يوضع حد لاستقدام أئمة من الخارج، أكان من تركيا أو من الدول المغاربية، وغيرها.
ووفق معلومات وزارة الداخلية، فإن ما لا يقل عن 200 إمام يتلقون رواتبهم من الخارج؛ ما يجعلهم عرضة للتأثيرات الخارجية. وتسعى السلطات الفرنسية إلى أن يدعو الأئمة الفرنسيون الشباب المسلم إلى قيم الإسلام الوسطي المنفتح والمتسامح، وأن ذلك يمر عبر تأهيلهم في المعاهد الفرنسية التي يتعين زيادة عددها ومدها بالإمكانات اللازمة التي ستكون من مهمات «مؤسسة الإسلام الفرنسي».
وتبقى مسألة «تمثيل» الإسلام في فرنسا، وهي إشكالية يعترف بوجودها مسؤولو الجالية الإسلامية وتعيها السلطات الفرنسية التي عمدت في ربيع عام 2015 بعد مذبحة الصحيفة الساخرة «شارلي إيبدو» إلى إنشاء «هيئة الحوار مع الإسلام في فرنسا». وتضم هذه الهيئة، بناء على مبادرة من وزارة الداخلية وشؤون العبادة، إلى جانب المجلس الفرنسي، شخصيات من المجتمع المدني ومفكرين وجمعيات لغرض توسيع القاعدة التمثيلية للمسلمين، ولتكون محاور للدولة، وقادرة على التأثير في الجالية المسلمة. ورغم ثلاثة اجتماعات مضت، إلا أن شيئا ملموسا لم ينتج منها.
بعد موجة إرهاب عنيفة.. فرنسا تسعى لإعادة بناء مؤسساتها الإسلامية
تهدف إلى تمويل بناء المساجد وتأهيل الأئمة والحد من التأثير الخارجي
بعد موجة إرهاب عنيفة.. فرنسا تسعى لإعادة بناء مؤسساتها الإسلامية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة