الديموغرافيا تمنع قيام «كردستان سوريا»

تعدد القوميات والطوائف أبرز العراقيل.. والفيدرالية تمهيد لشكل حكم مستقبلي مقترح

الديموغرافيا تمنع قيام «كردستان سوريا»
TT

الديموغرافيا تمنع قيام «كردستان سوريا»

الديموغرافيا تمنع قيام «كردستان سوريا»

لم تسفر نهاية المهلة التي منحتها «قوات سوريا الديمقراطية» لتنظيم «داعش»، والقاضية بإخلاء مدينة منبج، عن عملية عسكرية تنهي وجود التنظيم في المدينة. كما لم تسمح بربط مناطق نفوذ الأكراد في شرق سوريا بمعقلهم الشمالي في عفرين.. فالعوائق التي تحول دون التقدم العسكري، ليست إلا جزءًا بسيطًا من موانع استراتيجية تحول دون ربط تلك المناطق، ليست أقلها العوائق السياسية الدولية والإقليمية، فضلاً عن العوائق الديموغرافية.
فالأكراد يتشاركون مع عدد من الإثنيات والقوميات والطوائف في شمال شرقي سوريا، الميدان الجغرافي نفسه. هم أكبر خليط من القوميات والطوائف في سوريا، وتتداخل مناطق النفوذ، مما يمنع حكما أن يُطبق نموذج كردستان العراق في سوريا. أما من الناحية السياسية، فإن العوائق الدولية، تمنع قيام كيان مشابه، على ضوء ارتباط معظم أكراد سوريا بحزب العمال الكردستاني الذي تحظره تركيا. وهو ما دفع الأكراد إلى بدائل، تمثلت في المساعي لتطبيق الفيدرالية في شمال سوريا، وقيام نموذج حكم مشترك بين العرب والأكراد والسريان، مثل «الحاكمية المشتركة» في مقاطعة «الجزيرة» أو «عفرين» أو «كوباني».
يجمع الأكراد على أن النظام الفيدرالي، الذي أعلن في مارس (آذار) الماضي بالتزامن مع مفاوضات «جنيف3» التي استبعدوا منها، هو لتنظيم العلاقات بين مكونات مجتمع مناطق شمال سوريا، وأنه «لا يعني أننا سنكون نسخة عن كردستان العراق». أما ضمّ ما كانت تعرف بمناطق «روج آفا» إلى تلك الأخيرة في شمال سوريا، فباتت اليوم مجتمعة تحت اسم «الاتحاد الديمقراطي روج آفا وشمال سوريا»، وهي خطّة كان قد بدأ البحث فيها قبل أربعة أشهر من مفاوضات جنيف، وأعلن عنها بعد اجتماعات ومشاورات مكثفة بين مختلف المكونات في هذه المناطق، بحسب ما واظب كبار المسؤولين الأكراد على تأكيده.
منذ إعلان تلك الخطوة، برزت تغييرات ميدانية تعزز الاعتقاد بأن الهدف من معركة منبج، هو ربط مناطق سيطرة الأكراد بعضها ببعض. لكن الواقع أن مرحلة ما بعد معارك ريف حلب الشرقي، وتحديدًا معركة منبج، تبدو ضبابية بالنسبة للأكراد و«قوات سوريا الديمقراطية». وترى مصادر كردية واسعة الاطلاع أن معركة منبج «لم تدخل مرحلة الحسم بعد»، وأنها «ستطول عسكريًا بالنظر إلى الألغام المزروعة داخل المدينة، والمدنيين الذين يلوذون بالفرار داخلها».
بدأت «قوات سوريا الديمقراطية»، بدعم من التحالف الدولي، هجوما منذ 31 مايو (أيار) الماضي لاستعادة السيطرة على منبج، وتمكنت من محاصرة أكثر من 79 قرية ومزرعة في محيط المدينة، والسيطرة عليها. وأدت محاصرة المدينة، إلى قطع طريق التواصل والإمداد المباشر من جرابلس الحدودية مع تركيا الخاضعة لسيطرة «داعش»، إلى معاقل التنظيم في الباب ودير حافر، وصولاً إلى الرقة. وبعد السيطرة على الطرقات المحيطة بمنبج، يضطر التنظيم لسلوك أكثر من 140 كيلومترًا لنقل إمداداته بين جرابلس والباب، بدلاً من 60 كيلومترًا. وبات ضروريًا للقادمين من الرقة كمحطة من دير الزور والأراضي العراقية، باتجاه جرابلس، المرور في مدينة الباب وريفها الغربي، وصولاً إلى الريف الجنوبي لمدينة مارع، قبل الانتقال إلى مدينة الراعي الحدودية مع تركيا ثم مدينة جرابلس.
وتعد تلك العملية «الأوسع» ضد تنظيم «داعش» في شرق سوريا، وتتبع المسار العسكري باتجاه الغرب، وراء ضفة نهر الفرات الغربية، وليس جنوبًا باتجاه الرقة، بهدف وصل مناطق سيطرة الأكراد بين الإدارة الذاتية في كوباني والإدارة الذاتية في عفرين، كما يرى المتابعون للملف، وسط استبعاد لأن يكون هذا التوسع يهدف للاقتراب من الشريط الحدودي مع تركيا بسبب الحساسيات مع أنقرة، علمًا بأن القوات التي تخوض المعارك في منبج «تتألف بشكل أساسي من المجلس العسكري في منبج الذي يتضمن قوات عربية وأخرى كردية تنحدر من المدينة»، إلى جانب و«حدات حماية الشعب» الكردية.

مخاوف السوريين
غير أن دخول «قوات سوريا الديمقراطية» إلى المدينة، حتى لو استغرق وقتًا إضافيًا، يثير هواجس المعارضة السورية التي تعبر عن مخاوفها من أن تسهّل هذه العملية للأكراد إعلان «كانتون» لهم في شمال سوريا، رغم أن الأكراد ينفون ذلك، مؤكدين أن النطاق الجغرافي في سوريا «متداخل بين القوميات والأعراق، خصوصًا بين العرب والأكراد في شمال سوريا، مما يمنع قيام دولة قومية غير تشاركية، ومن هنا تأتي (الحاكمية المشتركة) للفيدراليات التي تم الإعلان عنها».
وتتشارك المعارضة السورية الهاجس التركي حول قيام دولة كردية على حدودها، وباتت أكثر قربًا، مع إحراز «قوات سوريا الديمقراطية» التي يغلب عليها الأكراد، تقدمًا باتجاه الريفين الشرقي والشمالي لمدينة حلب على حساب تنظيم «داعش»، الذي سيكون معزولاً عن العالم خارج سوريا والعراق، إذا تمكنت تلك القوات من السيطرة على مناطق نفوذه.
وبانتظار تحقيق حسم عسكري، لا ينفي مستشار القيادة العامة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» الدكتور ناصر الحاج منصور، أن مرحلة «ما بعد منبج»، مسألة معقدة جدا، موضحًا في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن تعقيداتها «تنطلق من أن الأزمة السورية يؤثر فيها لاعبون دوليون وإقليميون ومحليون، نظرًا لأن هناك توازنات إقليمية ودولية والتحالف الدولي، كما أن هناك مجموعة قوى متداخلة ومتصارعة وتعاني مشكلات كثيرة».
وتنتشر في مناطق شمال سوريا فصائل متعددة الولاءات، إضافة إلى «جبهة النصرة»، وتنظيم داعش، وقوات النظام السوري التي تحيط بمناطق سيطرة ونفوذ الأكراد، إلى جانب دخول العاملين الأميركي والروسي على خطوط التأثير بالملف السوري.
وإذ أكد الحاج منصور: «إننا لن نكون العامل الوحيد في صناعة الأحداث أو تسجيلها، رغم أننا جزء أساسي منها في شمال سوريا»، أشار إلى أن الخيارات المتاحة، في مرحلة بعد منبج، «لم تتبلور بعد»، وأنها «رهن الانتظار والتوافق عليها مع التحالف الدولي سياسيا وعسكريا».
يقول كثيرون إن الأكراد يفوضون التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، والولايات المتحدة الأميركية، لاتخاذ القرارات عنهم، في ضوء مساعدتهم عسكريًا للقضاء على «داعش»، وقد أثبتوا أنهم يمتلكون قدرة كبيرة على تحقيق ذلك، من خلال انتصارات أحرزوها في جبهات عدة في شمال سوريا وشمال شرقيها، مثل جبهات ريف الحسكة وريف الرقة وتحرير مدينة كوباني (عين العرب) الحدودية مع تركيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 2015.
وفي حين ينفي الحاج منصور أن يكون أكراد سوريا قد فوضوا التحالف تقرير الخطوات المناسبة، قال إن العلاقة «تفاوض وليس تفويضا، بمعنى أننا نتفق معهم على كل الخطوات، والتعامل بيننا يتم على أساس النقاش والتوافق والتقاطعات المشتركة»، لافتًا إلى أن أهمية التنسيق مع التحالف تزداد أيضًا بالنظر إلى «دوره على الصعيد الإقليمي في كبح جماح تركيا أو النظام، أو غيرها من العوامل الأخرى»، لجهة التعامل معهم.
ولا ينفي الأكراد نيتهم وصل الفيدرالية في كوباني بالفيدرالية في عفرين، لتكون «فيدرالية شمال سوريا»، المعروفة باسم «روج آفا»، متصلة، وتمتد من محافظة الجزيرة أو الحسكة السورية في شمال شرقي البلاد، على طول الشريط الحدودي مع تركيا، وصولاً إلى رف حلب الشمالي في عفرين، على مساحة تناهز العشرين ألف كيلومتر مربع.
وقال الحاج منصور: «من المبكر جدًا الحديث عن هذا الأمر حتى الآن، كون معركة منبج وما بعدها ستستغرق وقتًا إضافيًا، رغم أن المعركة الحالية هي بداية نهاية (داعش)، وتطلق العدّ العكسي ضد وجود التنظيم، لكنني أؤكد أن الفيدرالية التي نسعى لإنشائها في شمال سوريا لن تكون كردية أبدًا، بل ستكون فيدرالية مشتركة تضم بالتأكيد عربًا وأكرادا وأشخاصًا ينتمون إلى كل الطوائف والمذاهب».
وتناقل كثيرون الحديث عن أن الأكراد بدأوا بتغيير اسم منبج، مع اقترابهم منها وحصار تنظيم «داعش» فيها، وبدأوا يطلقون عليها اسما كرديًا. لكن القيادي الكردي ناصر الحاج منصور، نفى أن يكون هناك أي توجه لتغيير اسمها، قائلاً إن اقتراب «قوات سوريا الديمقراطية» من طرد «داعش» منها، لا يمكن أن يلغي حقيقة منبج بأن الأغلبية الساحقة من أهلها وسكانها من العرب، وبالتالي لا يمكن تغيير اسمها، وليس هذا الأمر مطروحا بتاتًا. وأوضح أن «المساحات الجغرافية في سوريا متداخلة وتعيش فيها كل القوميات، وكل قومية تطلق عليها اسمًا باللغة المعتمدة، كذلك منبج، التي نؤكد أن اسمها العربي هو اسمها الرسمي».

مخاطر تقسيم سوريا
يرى المعارضون السوريون الفيدرالية، نقيضًا لما يطالب به الائتلاف، وهو إبقاء سوريا موحدة وإنشاء نظام ديمقراطي تعددي. ويقول عضو الائتلاف السوري المعارض سمير نشار، إن «ما يصرّح به قادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي يحمل مخاطر شديدة». ورأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه «من السابق لأوانه وقبل سقوط نظام بشار الأسد أن تعتقد أي قوة أنها قادرة على تحديد مستقبل سوريا»، مشيرًا إلى أن «مستقبل سوريا يحدده كل السوريين من عرب ومسيحيين وتركمان وأكراد وسنّة وشيعة، لأن الشعب السوري متنوع وسوريا دولة متعددة الأديان والمذاهب».
وقال: «أي تصور أو خطة يطرحها أي مكون تحمل مخاطر كبيرة، لأنه داخل كل كيان، توجد عناصر متطرفة تدفع نحو اقتتال طويل، ومن الخطأ أن يحاول الأكراد الاستفادة من التطورات على الأرض، وأن يلجأوا إلى اتخاذ قرار منفرد»، لافتًا إلى أن «الطموح الكردي الذي يجنح نحو التقسيم، سيقابل برد فعل عنيف من المكون العربي والتركماني، لكن موقف المكون العربي سيكون حادًا».
وأضاف نشار: «مخاطر تقسيم سوريا كبيرة جدًا، وعليهم أن يعلموا أن العرب السنّة هم أم الصبي، والحريصون على وحدة سوريا، ولا يقبلون بأن يقوم البعض، بدعم قوى دولية، بطرح مشاريع خطيرة يصعب التنبؤ بنتائجها». ونبّه إلى أنه «إذا صحت التصريحات المنقولة عن مسعود بارزاني، حول مطالبته بتقسيم العراق إلى ثلاث دول؛ شيعية وسنية وكردية، فإن ذلك سيدفع أكراد سوريا إلى طرح مثل هذه الأفكار أيضًا».
وشدد عضو الائتلاف على أن «الوقت الآن ليس لطرح مستقبل سوريا، فلتبقَ الأفكار في النفوس إلى ما بعد سقوط النظام، وكل من يصر على طرح هذه الرؤى الآن هو متواطئ ومتآمر على الشعب السوري وعلى الثورة السورية».

فيدرالية التشارك الإثني والطائفي
لا يبدو أن الفيدرالية التي أعلنها الأكراد، التفاف على الوقائع الجيوسياسية في شمال سوريا لإعلان الانفصال التام، أو إقصاء القوميات والإثنيات الأخرى عن السلطة في أي نظام مستقبلي تستقر عليه سوريا، بالنظر إلى استحالة قيام «كردستان سوريا» كما يسميها مؤيدو هذا الطرح. فقد أثارت خطوة إعلان «النظام الفيدرالي» في مناطق سيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي» في شمال سوريا، في شهر مارس الماضي، كثيرا من المخاوف، حتى إن البعض اعتبرها مقدمة لاعتماد نظام مماثل في الأراضي السورية كافة بعد الحرب، وهو ما رفضه كل من النظام والمعارضة.
الخبير الاستراتيجي اللبناني ومدير معهد الأبحاث الجيوسياسية، خطّار بو دياب، ذكّر بأنه «لم يصدر حتى الآن أي تصريح رسمي من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، يعلن فيه أنه يريد دولة كردية مستقلة في شمال سوريا».
وأوضح في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «كل ما قيل حتى الآن هو إعلان فيدرالية (روج آفا)، من ضمن نظام فيدرالي في كل سوريا، وهم يعتبرون أن هذه الفيدرالية لا تخص الأكراد وحدهم، إنما المجموعات العربية والآشورية والتركمانية وغيرها». وقال: «في ظلّ التحولات التي حصلت في الماضي ومنها (سايكس – بيكو)، تلقى الأكراد وعودًا بإقامة دولتهم المستقلّة، لكن كل هذه الوعود سقطت، باستثناء ما تحقق في كردستان العراق، ومن هنا يُفهم أن الكرد في سوريا يأملون بتكرار تجربة العراق، لكن تحقيق ذلك يبقى رهنًا بميزان القوى على الأرض»، مشيرًا إلى أن «الدول الغربية المؤثرة في الأزمة السورية لا تدعم أي تقسيم، لكنها لا تمانع قيام دول اتحادية، بخلاف بعض المتشددين الأكراد الذين لديهم نزعة نحو إحياء ما كان يعرف بالدولة الكردية التي كانت ممتدة من شمال حلب إلى تركيا».
وأضاف الخبير الاستراتيجي: «لا يستطيع أي طرف من الأطراف إعادة صياغة ما هو تاريخي، وإلا عندها يمكن للبعض أن يطالبوا باستعادة الأندلس». ولفت إلى أن «أكراد سوريا يحاولون الاستفادة من دعم الدول الكبرى لهم، لأنهم أثبتوا أنهم القوّة الأقدر على قتال (داعش)، ولكن إذا قرأنا نظريات (زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا) عبد الله أوجلان، نفهم أنه يطرح مزيدا من الحكم الذاتي للأكراد ضمن دولهم، بما يؤمن حقوقهم القومية والثقافية، لكنه لا يحلم بهدم حدود الدول القائمة حاليًا».

معارك منبج مستمرة
بعد شهرين من انطلاق معركة منبج، لا يزال المدنيون يعوقون العمليات العسكرية في داخل المدينة، نظرًا لأن القوات التي تنوي مهاجمتها، مدعومة بالطائرات الحربية التابعة للتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، وتشن غارات جوية أمام وخلف القوات المهاجمة لإسنادها في تقدمها.
ومع أن «قوات سوريا الديمقراطية» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» الكردية عمودها الفقري، تمكنت من دخول منبج، لكنها تواجه مقاومة تحول دون طرد «الجهاديين» الذين يستخدمون التفجيرات الانتحارية والسيارات المفخخة. وتتركز المعارك في الأحياء الغربية من المدينة، حيث يتصدى تنظيم داعش «بشراسة لمحاولات (قوات سوريا الديمقراطية) التقدم إلى داخل المدينة، ويزج بالأطفال على خطوط المواجهات».
المدينة الاستراتيجية التي كانت تضم أكبر صوامع الحبوب والقمح في شمال سوريا، تقع في وسط زراعي، ويقع فيها مركز المدينة الإداري لعشرات القرى والبلدات التي يعمل سكانها بالزراعة. بلغ تعداد سكان المنطقة 408.143 نسمة حسب التعداد السكاني لعام 2004، ويسكن أريافها خليط من العرب والأكراد والتركمان، كما يسكنها بعض الشركس والمسيحيين والأرمن، علمًا بأن القسم الأكبر من سكان منبج ونواحيها، من القبائل والعشائر العربية المختلفة التي هاجرت إليها من ضفاف الفرات واستقرت فيها. وقد قصدها في العصر الحديث، عائلات كثيرة من المهنيين والتجار والموظفين والعلماء قدموا إليها من مدينتي حلب والباب ومناطق أخرى مجاورة؛ للعمل فيها، واختاروها مستقرًا لهم.
بعد سيطرة «داعش» على المدينة وريفها في أواخر عام 2014، شهدت المدينة حركة نزوح ثانية بعد النزوح الأول إثر سيطرة قوات المعارضة عليها، وتقلص عدد السكان إلى نحو 40 ألف نسمة، ما لبثوا أن تقلص عددهم أيضًا إثر الهجمات الأخيرة التي شنتها «قوات سوريا الديمقراطية» إلى نحو 20 ألف نسمة، بحسب ما قالت مصادر عسكرية معارضة لـ«الشرق الأوسط». وفر آلاف المدنيين مطلع الأسبوع من مدينة منبج مع اقتراب «قوات سوريا الديمقراطية» من مشارفها خوفا من المعارك والغارات الجوية التي يشنها التحالف الدولي.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».