نائب هيلاري كلينتون..ليبرالي متحفظ..لكنه عاقل

تيم كين ابن الحداد الذي تزوج «أرستقراطية فرجينية»

نائب هيلاري كلينتون..ليبرالي متحفظ..لكنه عاقل
TT

نائب هيلاري كلينتون..ليبرالي متحفظ..لكنه عاقل

نائب هيلاري كلينتون..ليبرالي متحفظ..لكنه عاقل

في الاسبوع الماضي، اختارت هيلاري كلينتون، المرشحة الديمقراطية لرئاسة الجمهورية، السناتور تيم كين نائبا لها. ويوم الاثنين، عندما وقفا معا امام مؤتمر الحزب الديمقراطي الذي استضافته فيلادلفيا، كبرى مدن ولاية بنسلفانيا، وعاصمة الاستقلال الأميركي، اهتزت القاعة بالتصفيق لهما. وفي صباح اليوم التالي كتبت الصحف الاميركية عدة مقالات حوله، حيث قالت صحيفة «لوس آنجليس تايمز»: «كان التصفيق سيهز القاعة اكثر اذا كانت كلينتون اختارت (منافسها اليساري بيرني) ساندرز نائبا لها. بل كان ساندرز نفسه سيهز القاعة». بينما قالت صحيفة «هافينغتون بوست» في تعليقها «ربما انتقاماً من ساندرز الكثير الكلام، والكثير الغضب، اختارت كلنتون رجلا هادئاً». في المقابل، قالت صحيفة «واشنطن بوست» مادحة الرجل «يجب احترام كين لانه، وهو الديمقراطي التقدمي، يظل يعارض الاجهاض لاسباب دينية (لكونه كاثوليكياَ، لكن يؤمل ألا يؤثر ذلك سلباً على (فرص) كلينتون». وفي اتجاه مماثل مؤيد ولكن متحفظ كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» أن «كين هادئ وعاقل وليبرالي.. لكنه ليس مثيراً».
ولد كين في سنت بول (ولاية منيسوتا) في عائلة كاثوليكية آيرلندية. ويظل، حتى اليوم، يدين بالكاثوليكية، ويفتخر بذلك. كان والده لحاما وحدادا. وبحث عن ظروف عمل أحسن، وانتقل، مع العائلة، إلى كنساس سيتي (ولاية ميزوري). هناك، درس كين المرحلة الثانوية. ثم درس في جامعة ميزوري، ثم في كلية القانون في جامعة هارفارد.
هناك، كما قال في وقت لاحق، مارس الكاثوليكية «بصفتها عملا، ربما أكثر من عبادة». تطوع في العمل الكاثوليكي (مع جماعة «المبشرين اليسوعيين») لمدة عامين تقريبا في هندوراس، في أميركا الوسطى. وهناك تعلم اللغة الإسبانية (التي، من دون شك، ستفيده، خلال هذه الحملة الانتخابية، في كسب أصوات اللاتينيين).
بينما كان يدرس في هارفارد، قابل طالبة القانون، آن هولتون، من رتشموند (عاصمة ولاية فرجينيا)، ومن عائلة: «أرستقراطية فرجينية»، وكان والدها حاكما للولاية.
في وقت لاحق، تزوج ابن الحداد بنت حاكم الولاية. لم يعودا إلى مقر عائلته في كنساس سيتي، وانتقل معها إلى مقر عائلتها في رتشموند. وهناك عمل محاميا، وجنى أكثر من فائدة:
أولا: صار صهرا لعائلة سياسية مرموقة في ولاية فرجينيا. وبدأ يتعلم النشاط السياسي (بعد أن كانت نشاطاته كاثوليكية وإنسانية تطوعية).
ثانيا: استفاد من سمعة العائلة في مكتب المحاماة الذي كان يعمل فيه. (مرة، رفع مكتب المحاماة قضية، بالنيابة عن حكومة الولاية، ضد شركة «نيشانوايد» للتأمينات. وعندما كسب مكتب المحاماة القضية بمئات الملايين من الدولارات، كان نصيب المكتب قرابة عشرين مليون دولار. وفجأة أصبح كين مليونيرا).
العمل السياسي:
بالتدريج، دخل كين العمل السياسي. بدأ من مجلس مدينة رتشموند، حيث ترشح وفاز أربع مرات. ثم ترشح وفاز عمدة للمدينة. في الوقت نفسه، بدأت زوجته ممارسة المحاماة، والعمل السياسي. وصار واضحا أن الزوجين يخططان لمستقبل سياسي كبير في ولاية فرجينيا.
رغم أن والد الزوجة كان جمهوريا، تحولت البنت إلى الحزب الديمقراطي. لكن، تقدر البنت على أن تفتخر بسجل والدها:
أولا: واجه والدها عائلة: «أرستقراطية فرجينية» أخرى، هي عائلة بيرد الديمقراطية التي سيطرت على الولاية لقرن كامل تقريبا، وعارضت الحقوق المدنية للسود. وكانت تسمى «منظمة بيرد» (لم تكن عنصرية متطرفة مثل منظمة «كوكلس كلان»، لكنها كانت عنصرية في غير خجل).
ثانيا: فتح والدها سجلا جديدا في تاريخ ولاية فرجينيا الحديث، وهو وصول الجمهوريين إلى حكم الولاية. وكان والدها أول حاكم جمهوري للولاية منذ الحرب الأهلية. ومن المفارقات، أن الديمقراطيين هم الذين عارضوا الحقوق المدنية للزنوج، وجاء الجمهوريون ليؤيدونها («على خطى الرئيس الجمهوري إبراهام لنكون»، كما قال الوالد في ذلك الوقت).
عمدة رتشموند:
عن سنوات كين كعمدة رتشموند، قال جون مويسار، أستاذ الدراسات الحضرية في جامعة رتشموند: «كان نشطا، وجذابا، وأهم من ذلك كله، كان صريحا في تأييده للتسامح العرقي في رتشموند».
وقالت صحيفة «نيويورك تايمز»: «لم يبن كين كوبري كبيرا في شارع رئيسي في رتشموند. لكنه بنى كوبري التواصل العرقي (بين البيض والسود)». ذلك أن رتشموند (وكل ولاية فرجينيا)، ولمئات السنين، كانت من معاقل التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة. وكانت عاصمة «الولايات الفيدرالية الأميركية» لأربع سنوات (بين انفصال ولايات الجنوب، سنة 1961. وهزيمتها سنة 1865).
وحتى اليوم، يستمر التوتر العرقي في المدينة وفي الولاية، وبخاصة لأنها ولاية جنوبية على الخط التاريخي بين ولايات الجنوب وولايات الشمال (وتجاور واشنطن العاصمة، وولاية ماريلاند الشمالية الليبرالية).
لهذا؛ عندما كان كين عمدة لرتشموند، وقف في قلب المدينة، حيث كان سوق تجارة الرقيق في الماضي البعيد، وقدم اعتذارا رسميا لما لحق بالزنوج في المدينة. أفرح ذلك الزنوج، حتى سموه «أول عمدة أسود لرتشموند».
لكنه أغضبهم عندما رفض إزالة تمثال الجنرال روبرت لي (الذي قاد قوات الولايات الجنوبية خلال الحرب الأهلية). وقال كين جملة تتردد حتى الآن: «كان جزءا كبيرا من تاريخنا مشينا. لكن، لا نقدر على إزالة التاريخ».
حاكم الولاية:
في عام 2005. وبناءً على سجله كعمدة للعاصمة رتشموند، وبمساعدة زوجته وعائلتها، ترشح كين حاكما للولاية، وفاز. وصارت زوجته الساعد الأيمن له (عندما دخلت مع زوجها المنزل الرسمي لحاكم الولاية، لم تكن تلك أول مرة بالنسبة لها، فقد عاشت في المنزل وهي صبية عندما كان والدها حاكما للولاية).
عن سنوات كين حاكما للولاية، قالت صحيفة «واشنطن بوست»: «تخطى كين المحلية الفرجينية، وانفتح على بقية الولايات المتحدة، واشتهر بالتعقل والهدوء».
مثلما يقال هذه الأيام، بعد أن رشحته هيلارى كلينتون نائبا لها، ربما ليس سهلا وصف سياسي بأنه «هادئ» أو «ممل»، لكن، يظل كين هكذا. وربما سيكرر التاريخ نفسه؛ لأن كين فاز حاكما للولاية على جيرى كيلمور، المرشح الجمهوري الغوغائي الذي يمكن تشبيهه بالمرشح الجمهوري الحالي لرئاسة الجمهورية، دونالد ترامب. اتهم كيلمور كين بأنه «يريد إعادة كتابة تاريخ ولاية فرجينيا». وردد شعارات مثل التي يرددها، في الوقت الحاضر، ترامب. مثل: «لنجعل فرجينيا عظيمة مرة أخرى». (مثل شعار ترامب: «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى».)
في الأسبوع الماضي، تهكم بيل ماهار، النجم التلفزيوني الليبرالي الفكاهي، على شعار ترامب. وقال: إن ترامب يقصد أن يقول: «لنجعل أميركا بيضاء مرة أخرى». وتهكم على خجل ترامب ومؤيديه من الاعتراف بهذه الأحاسيس. لهذا؛ يمكن تطبيق ما قال ماهار عن ما يقول ترامب، على ما قال كيلمور عندما ترشح ضد كين.
وربما سيعيد التاريخ نفسه مرة أخرى؛ لأن الذين يصفون كين بأنه «هادئ، وربما ممل»، يكررون ما كان قال: أنصار كيلمور. في الحقيقة، في ذلك الوقت، شن كليمور حملة ضد كين بأنه «ليس سياسيا حقيقيا»، إشارة إلى أن زواجه من ابنة حاكم الولاية السابقة هو الذي دفع به إلى واجهة المسرح السياسي في ولاية فرجينيا.
ويتوقع أن يقول ترامب الشيء نفسه، وأن يهاجم كين شخصيا، مثلما يهاجم هيلاري كلنتون، ويصفها بأوصاف سلبية متطرفة، مثل أنها «كاذبة» و«غبية».
سيناتور:
في عام 2012. بعد دورتين حاكما لولاية فرجينيا (الحد الأقصى حسب دستور الولاية)، ترشح كين لعضوية مجلس الشيوخ، وفاز بأغلبية مريحة، وحل محل سيناتور جمهوري، في تقلب حزبي آخر، في هذه الولاية التي تتأرجح بين ولايات الجنوب وولايات الشمال.
هذا هو سجله في السياسة الخارجية:
أولا، العراق: واصل انتقاده لغزو العراق. في الحقيقة، عام 2006 (بعد ثلاثة أعوام من غزو العراق)، عندما كان حاكما لولاية فرجينيا، ألقى خطابا رئيسيا رد فيه على خطاب الرئيس جورج بوش الابن أمام الكونغرس. وقال فيه: «صار واضحا أن الشعب الأميركي زود بمعلومات غير صحيحة عن أسباب غزو العراق».
في ذلك الوقت، كان كين واحدا من سياسيين أميركيين قلائل يستعمل عبارة «غزو العراق» (وليس «عملية الحرية الدائمة»).
ثانيا، سوريا: انتقد تردد الرئيس أوباما في التدخل في سوريا، بعد أن تحولت الثورة إلى حرب أهلية. وكان من أوائل أعضاء الكونغرس (جمهوريين أو ديمقراطيين) الذين طالبوا بإعلان منطقة حظر الطيران فوق سوريا، بهدف تجميد طيران حكومة الرئيس بشار الأسد، وبهدف حماية المواطنين السوريين، وبهدف تنزيل مساعدات إنسانية لهم.
في ذلك الوقت، قال لإذاعة «إن بي آر»: «تظل استراتيجيتنا في سوريا نصف استراتيجية. لا نحن قررنا إسقاط نظام الأسد، ولا نحن قررنا عدم التدخل. وها نحن الآن بين تدخل وعدم تدخل».
ثالثا، «داعش»: في عام 2014. مع انتشار خطر تنظيم داعش، تحالف السيناتوران الديمقراطي كين والجمهوري ماكين، لإقناع الرئيس أوباما بإعلان الحرب رسميا على «داعش» (وطلب موافقة الكونغرس، حسب الدستور). وقالا إن البديل هو عدم التدخل «بأي صورة من صور التدخل».
في ذلك الوقت، قال كين لصحيفة «ديلي بست»: «هل هي حرب (في سوريا) أم غير حرب؟ إذا كانت حربا، لا بد من موافقة الكونغرس. ها هم جنودنا يضحون بأرواحهم ويقتلون. وها نحن لا نعرف هل هم في حرب، أم نصف حرب، أم ربع حرب».
رابعا، أفغانستان: في عام 2014، كتب كين في موقعه بصفته سيناتورا في الإنترنت: «يبدو أن مهمتنا الأساسية في أفغانستان، وهي تحطيم تنظيم القاعدة، قد اقتربت من النهاية. لهذا؛ يجب وضع خطوات انسحاب نهائي من أفغانستان، وانسحاب سريع، وانسحاب قريب. مع وضع اعتبار لأمن أفغانستان، ولأمن المنطقة».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.