«ولاية جونز الحرة».. فيلم أميركي يستعيد التاريخ العنصري

يؤرخ للتمرد المسلح الذي قاده رجل من جنوب الولايات المتحدة

الممثل ماثيو ماكونوهي في فيلم «ولاية جونز الحرة»
الممثل ماثيو ماكونوهي في فيلم «ولاية جونز الحرة»
TT

«ولاية جونز الحرة».. فيلم أميركي يستعيد التاريخ العنصري

الممثل ماثيو ماكونوهي في فيلم «ولاية جونز الحرة»
الممثل ماثيو ماكونوهي في فيلم «ولاية جونز الحرة»

العنصرية مكون أساس من مكونات الحياة الاجتماعية والثقافية الأميركية. تاريخ الولايات المتحدة مثقل، بل ملطخ بها، والشواهد لا تحصى. لكن الولايات المتحدة ليست بدعا في ذلك، فتاريخ شعوب وثقافات أخرى كثيرة يؤكد أن الأميركيين ليسوا وحدهم في ذلك المضمار غير المشرف. ومع أن ضحايا العنصرية ينتشرون بين أعراق وألوان بشرية كثيرة، فإن أفريقيا تظل الأكثر تضررا من ذلك التاريخ المقيت الذي يؤكد المرة تلو الأخرى ما قاله المفكر الألماني فالتر بنيامين: «لا توجد وثيقة للحضارة إلا وبجانبها وثيقة للبربرية». فإذا كانت الولايات المتحدة اليوم ترى نفسها وريثة للحضارة الأوروبية البيضاء، فإنها في الوقت نفسه وريثة الثقافات الأفريقية التي لونت تاريخها مثلما لونته ثقافات أخرى كثيرة، فهو ليس تاريخا من الإنجازات وحدها، وإنما من الظلم والمعاناة أيضا. ولكن ما يميز الثقافة الأميركية هو قدرتها على مجابهة ذلك التاريخ بإنتاج الأعمال الأدبية والفنية إلى جانب الدراسات التي لا تتوقف عند الاعتراف بتلك العنصرية، وإنما تتعدى ذلك إلى إبراز شراستها، سواء في قرون العبودية أو في التعاملات اليومية بعد تحرير الرق وإقرار ما يعرف اليوم بالحقوق المدنية للسود في ستينات القرن الماضي.
الفيلم الذي يعرض هذه الأيام في دور السينما الأميركية بعنوان «ولاية جونز الحرة» يستعيد فصلا مشرقا ومؤلما في الوقت نفسه من فصول العنصرية ضمن استعادته حكاية حقيقية جرت أحداثها أثناء الحرب الأهلية الأميركية في ستينات القرن التاسع عشر، الحرب التي جرت، كما هو معروف، بين ولايات جنوبية تريد الانفصال عن الاتحاد الأميركي بإصرارها على قوانين تسمح بالرق وممارسة العنصرية البيضاء على المستويات كافة وولايات شمالية يقودها إبراهام لنكولن تسعى لفرض الاتحاد وإلغاء العنصرية، ضمن أهداف أخرى بالطبع. الفيلم يؤرخ للتمرد المسلح الذي قاده رجل من الجنوب الأميركي اسمه نيوتن نايت ضد ما كان يعرف بالولايات الكونفدرالية في مقاطعة جونز بولاية ميسيسيبي. الفيلم أطلق في يونيو (حزيران) الماضي وكانت بطولته للممثل ماثيو ماكونوهي McConaughey إلى جانب ممثلين أميركيين وبريطانيين برزت من بينهم غوغو مباتا رو، البريطانية السوداء، وماهرشالا علي، الأميركي الأسود. أخرج الفيلم غيري Gary روس.
لست بصدد نقد الفيلم فنيا فلست من أهل الاختصاص، وإن كنت قد انبهرت به إخراجا وتمثيلا دون أن أرى ما يبرر التحفظ الذي أبداه البعض فيما وجدته على الإنترنت (ولكن ذلك يعود على الأرجح إلى عدم امتلاكي ناصية النقد السينمائي). ما يعنيني هنا هو طرح مسألة العنصرية الأميركية في الظروف المعاصرة، وهي بالغة الاحتقان كما يلاحظ المتابع للشأن الأميركي؛ ما يجعل إطلاق الفيلم في هذه الظروف تدخلا إبداعيا مهما في مجريات الأحداث والخطاب المنتشر حول العلاقة بين أفراد المجتمع الأميركي وفئاته وطبقاته.
في تاريخ السينما والتلفزيون الأميركي الكثير من التدخلات التي أشير إليها، وهي تدخلات يعود تاريخها إلى بدايات الحضور الأميركي الأسود، أو الأميركي الأفريقي الفاعل في الحياة الثقافية والفنية في الولايات المتحدة. ومع أن ذلك التدخل ليس قديما؛ فقد ترك أثره على كيفية طرح مسألة العنصرية. فالأميركي الأسود كان موجودا منذ فترة طويلة، لكنه وجوده الإيجابي، أي باعتباره في نظر الناس والقانون إنسانا يفكر ويبدع وله كيانه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ليس جديدا، وقد احتاج المجتمع الأميركي الأبيض إلى فترة طويلة لكي يتصالح مع ذلك الوجود. أذكر كيف كان الاهتمام الواسع بمسلسل «جذور» التلفزيوني في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وكنت حينها طالبا في الولايات المتحدة. وما يزال ذلك المسلسل حاضرا ومؤثرا منذ ظهرت له تتمات كثيرة وحوّل إلى أفلام بنيت على رواية أليكس هيلي، وكان عند عرضه من أكثر المسلسلات التلفزيونية حصدا للجوائز وأعلاها مشاهدة.
يختلف فيلم «ولاية جونز الحرة» أولا في أنه يؤرخ لبطولة رجل أبيض وليس لشخصيات من السود. لقد رفض البطل حكم رجل من لونه، أي حكما فرضه البيض؛ انتصارا للعدل وإزالة للظلم الذي لحق بغيره من البيض إلى جانب السود المستعبدين. لقد لاحظ نيوتن نايت، الذي يستعيد الفيلم بطولته، أن جنود الكونفدرالية في ولاية ميسيسيبي يرتكبون ممارسات ظالمة على الناس من الفلاحين والقرويين البيض، وهو مساعد الطبيب الذي يقوم على الجرحى أثناء الحرب، فكانت ردة فعله هي رفض تلك الممارسات ورفض الثقافة العنصرية التي تسندها، وحين وجد بعض العبيد الآبقين في مستنقعات الجنوب التي يصعب الوصول إليها أسس معهم الكيان الذي تحول إلى ما عرف بولاية جونز الحرة، فهي حرة لأن السود فيها غير مستعبدين، بل يعاملون بوصفهم مساوين لغيرهم.
بعد انتصار جيش الاتحاد بقيادة لنكولن جاء إعلان إلغاء الرق على النحو المعروف، لكن الفيلم يذكرنا بأن الإعلان لم يكن سوى الخطوة الأولى في عملية طويلة ومعقدة لتغيير نظام اجتماعي ظالم تجذر في الحياة الأميركية منذ بدايات الاستيطان الأبيض في الأميركتين. استطاعت الولايات الجنوبية المهزومة أن تجد بدائل للرق يستطيعون بموجبها إخضاع السود لأوضاع لا تختلف كثيرا. وكان في طليعة تلك البدائل قانون «التمهين» الذي يتيح للبيض تشغيل السود بوصفهم متمهنين أو طالبي مهنة، وقد كبلوا بقيود لا تختلف كثيرا عن الرق. يساعد البيض في ذلك الفقر المدقع الذي وجد فيه السود أنفسهم وقد حرروا اسما، لكنهم بقوا أسرى الحاجة إلى الثري الأبيض. فمن دون تعليم ولا أملاك لم يكن في وسعهم قفز السلم الاقتصادي والاجتماعي بسهولة. وهذا كما هو معروف هو حال كثير من الإثنيات التي عوملت باضطهاد في حالات استرقاق أو ما يشبه الاسترقاق في مجتمعات كثيرة أخرى.
يرينا الفيلم الأميركي بطله وقد أقام علاقة بسيدة سوداء كانت من الرقيق ثم تحررت، وكيف أنجب منها طفلا مع أنه كان متزوجا. ذلك الطفل يدخل الفيلم على شكل قصة تتقاطع مع الحكاية الرئيسية، فنشاهد الطفل «الأبيض» في عصر تالٍ وقد غدا رجلا متزوجا من سيدة بيضاء، لكن المحكمة في ولاية ميسيسيبي ترفض الزواج على أساس أن نسبة من دم الطفل تعود إلى جذر زنجي، أي فيما يشبه «عدم تكافؤ النسب» الذي عرفناه هنا في السعودية في السنوات الأخيرة. ومع أن الرجل الأميركي فرق بينه وبين زوجته وحكم عليه بالسجن فإن الحكم ما لبث أن ألغي بقرار من المحكمة العليا بالولاية. وهذه أحداث تقدم على أنها تاريخية وليست متخيلة.
يبقى أن أقول إن الحرية التي تعتلي اسم الفيلم لم تكن يوما أسهل منالا من غيرها من القيم التي قامت عليها الولايات المتحدة وتسعى إليها شعوب ودول أخرى، كقيم المساواة والديمقراطية والاستقلال. اعتلاء الكلمة اسما أو منبرا أو دستورا هو مجرد خطوة أولى في طريق صعب وطويل ليس بالنسبة للأقليات والمضطهدين وحدهم، وإنما بالنسبة للجميع.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!