«البكتاشية».. شيوخها ودراويشها

مركز «المسبار» يفتح ملف «التصوف» والتيارات الدينية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT
20

«البكتاشية».. شيوخها ودراويشها

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

حلّ موضوع «الإسلام الموازي في تركيا: البكتاشية وجدل التأسيس»، محور بحث عدد من الدارسين المختصين، لمركز «المسبار» للبحوث والدراسات، ونشر ضمن الإصدار رقم 113 للكتاب الشهري.
يتناول البحث تحديدًا موضوع «التصوف» والتيارات الدينية في العالم الإسلامي، حيث كانت النصوص التي أرّخت لممارسات الطرق الصوفية، محكومة بوجهة نظر يمكن الحديث عنها وفق محورين، الأول: محور سياسي يعتمد مسارًا رسميًا للسلطة الحاكمة آنذاك، ومذهبها الديني الذي اعتمدته في تسيير شؤون الجماعة التي تحكمها. أما الثاني: فمذهبي قد يصل إلى المستوى الطائفي، في وجهة النظر التي تكتب عن تاريخ الطرق الصوفية والمقولات العقدية التي تبنتها.
ويرى الباحث العراقي علاء حميد إدريس، أن الطريقة البكتاشية واحدة من الجماعات التي يمكن أن تنطبق عليها الإشكالية التي ذكرناها سابقًا، إذ ظلّ تاريخ تحديد النشأة والانتشار في البلدان التي عرفت فيها، لا سيما البلدان العربية (مصر والعراق)، يعيش أزمة بحثية وتاريخية أحيلت أسبابها على السمات الدينية التي حملتها «البكتاشية» ونظرة السلطة والمجتمع إليها.
في العراق، كان لـ«البكتاشية» تكايا تمارس فيها نشاطاتها الدينية والاجتماعية، إذ تذكر الأخبار التاريخية أن التكية البكتاشية في بغداد كانت عند مدخل سوق الهرج، وفي مدينة كربلاء كانت قريبة من مرقد الإمام الحسين عند جهة قبر الشاعر فضولي البغدادي.
لم يبق من آثار «البكتاشية» في كربلاء سوى بيت «ده ده» الذي تعود أصوله الاجتماعية والدينية إلى «البكتاشية»، إذ يذكر أن أحد أجدادهم قد تولى زعامة الطريقة البكتاشية وإدارة شؤون التكية في المدينة. مدينة النجف - أيضًا - أقيمت فيها تكية بكتاشي، لكن لم يبق من آثارها شيء معلوم.
أما في مدينة كركوك فتختلط أعراق وإثنيات جعلت من ثقافة المدينة تحتضن كثيرا من الطرق الصوفية، والجماعات الدينية، الإسلامية وغير الإسلامية. أقيمت التكية البكتاشية في منطقة طوزخورماتو التي تسكنها غالبية من التركمان.
«البكتاشية» بأنموذجها العراقي، وما أنتجته من شيوخ ودراويش، تمكنوا من تولي إدارة أهم تكية بكتاشية في البلقان «تكية سعيد سلطان أو تكية ديمقوطية» كان لها دور مشهود في نشر التعاليم البكتاشية في شبه جزيرة البلقان، لكن مع هذا لم تنتج «البكتاشية» أثرًا بيّنًا في العراق طوال مدة وجودها، إلا ما ظهر في التديّن والأدب الشعبي.
من جهته، يعالج الباحث المصري في التصوف الإسلامي، خالد محمد عبده، تاريخ البكتاشية في مصر. وقبل تفصيل الكلام عن حضورها في أرض الكنانة، يضع القارئ أمام دور هذه الفرقة في الدولة العثمانية. فقد وحّدت أغلب الفرق والطرق الصوفية، خصوصًا ذات الشكل الباطني عقائديًا مثل «القلندرية» و«الحيدرية»، وهضمت تعاليم السابقين في طريقتها، ووحدت - إلى حدّ كبير - الفكر الصوفي في تركيا، مما قوّى الكيان العثماني وقتها.
ارتبطت الطريقة البكتاشية في مصر باسم عبد الله المغاوري، وهو من أولياء «البكتاشية» ومشايخها الكبار. رحل من تركيا إلى مصر وصار شيخا للتكية التي أنشئت له في قصر العيني بالقاهرة عام 806هـ، وإن عُرف في الأدبيات التركية باسم «غيبي بك» أو «قايغوسز أبدال»، ففي القاهرة «سيدي المغاوري» وله فيها ضريح شهير، كان مقصد الزّائرين حتى وقت قريب.
الباحث المصري في التصوف الإسلامي خالد محمد عبده، يقدم شهادة الفنان المصري المعاصر عصمت داوستاشي، الذي اصطبغت أعماله - حسب روايته - بالحس الصوفي، نظرًا للجو الديني الذي كان محاطًا به في فترة طفولته وشبابه، وبدا هذا الأثر واضحًا في معرضه «المستنير دادا»، ثم في أعماله التالية له.
ويقول عصمت داوستاشي في شهادته: «رفضتُ اقتراح بابا سري بأن أصبح شيخا للدراويش، فلم يكن في الحقيقة أي دراويش على الإطلاق بعد سفر آخرهم الشيخ رجب، أو الشيخ لطفي إلى أميركا، حيث فتح تكية هناك، وكانت رغبة بابا سري هي استمرار وجود التكية بعد رحيله. كنت مرتبطًا بقوة برغبتي في دخول كلية الفنون الجميلة، لأن تكيتي الحقيقية هي الفن.. أسرد هنا ما تبقى في ذاكرتي مع ما جمعته عن البكتاشية وتكيتهم من وثائق وأوراق وموضوعات صحافية».
إصدار «المسبار» تضمن أيضا قراءة لكتاب «سبعة دراويش: جغرافيّة الصوفيّة الأناضوليّة»، أعدها عضو هيئة التحرير الباحث عمر الترابي. وهو الكتاب الذي كتبه الروائي التركي نديم غورسيل، الذي قام بزيارة لمقامات سبعة دراويش، واهتم باكتشاف عالمها الصوفي والشعري.



روائي فرنسي يواجه روبوت الذكاء الاصطناعي... والنتيجة مذهلة

هيرفي لوتوليي والآلة التي هزمته
هيرفي لوتوليي والآلة التي هزمته
TT
20

روائي فرنسي يواجه روبوت الذكاء الاصطناعي... والنتيجة مذهلة

هيرفي لوتوليي والآلة التي هزمته
هيرفي لوتوليي والآلة التي هزمته

مباراة من نوع جديد قد تشّكل منعطفاً تاريخياً كتلك التي جمعت لاعب الشطرنج العالمي كاسباروف بآلة الذكاء الاصطناعي ديب بلو عام 1997. هذه المرة موضوع المنافسة يخصّ الإبداع والأدب أكثر التخصّصات إنسانيةً، حيث جمعت هذه المباراة الكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلي الحاصل على جائزة الكونغور عام 2020 عن روايته «الخلل» بـ«كلود» مساعد الذكاء الاصطناعي وأحدث نماذجه. وهو يتميز بقدرته على فهم وإنتاج النصّوص بقدر كبير من الدّقة. والمهمة التي أعطيت لكلا الطرفين هي تأليف قصّة بوليسية قصيرة من ثلاثة آلاف حرف شرط أن تبدأ بالجملة التالية: «لمح في المكتب الجثّة الهامدة للكاتب...» وأن تنتهي بهذه الجملة: «ثم قالت لنفسها كل شيء يغتفر... قبل أن تختفي». بعد أسبوع جاءت النتيجة مذهلة لم يتوقعها أحد، حيث تفوّق مساعد الذكاء الاصطناعي «كلود» بنصوص أدبية فائقة الجودة وأسلوب أدبي قوي وسلّس بشهادة الجميع بما فيهم الكاتب هيرفي لوتيلي نفسه.

صحيفة نوفيل أوبسرفتوار التي نظمت المقابلة وخصّصت لها ملفاً كاملاً في طبعة شهر مارس (آذار) نقلت انطباع الكاتب الفرنسي في مقال بعنوان «مباراة بين هيرفي لوتيلي والذكاء الاصطناعي والنتيجة مفاجئة ومرعبة في آن واحد»، حيث كتبت مايليي: «بعد أن قرأ هيرفي رواية كلود ظل صامتاً للحظات ثم نظر إلينا مذهولاً وتفّوه بهذه الجملة (يا للهول...انه أمر مذهل...!) ثم أضاف: (قد تكون هذه النصّوص التي أنتجها الذكاء الاصطناعي هي أفضل ما كُتب من إنتاج روائي فرنسي هذه السنة، وإذا أراد الكُتّاب رفع التحّدي فعليهم من الآن فصاعداً التشمير عن ساعد الجّد!)». في حواره عبَّر الكاتب عن استعداه لرفع تحديات المستقبل، فقد تكون الآلة سبباً في رفع مستوى المنافسة الأدبية، وهذا شيء إيجابي، ولكنه عبَّر أيضاً وبصراحة عن مخاوفه، حيث قال: «لم أشعر يوماً بأن وجودي ككاتب مهدّد بالذكاء الاصطناعي، لكن هذه التجربة فتحت عيني نحو حقيقة جديدة: التكنولوجيا في تطور مستمر، وإذا كنا لغاية الآن مرتاحين لفكرة أن الذكاء الاصطناعي قد جاء ليكمل ويحسّن نشاطنا الإبداعي، فإن المستقبل قد يخبئ لنا مفاجآت لن تكون دائماً سارة».

وفي موضوع آخر بعنوان «كيف تحديت كاتباً حائزاً على الغونكور بالذكاء الاصطناعي» كتب بونوا رافاييل الخبير الذي كُلّف بتدريب مساعد الذكاء الاصطناعي «كلود» بمساعدة «تشات جي بي تي» ما يلي: «صراحة توقعت أن أخسر الرهان وحضّرت نفسي لكي أتقبلّ الهزيمة بكل روح رياضية، فالكاتب هيرفي لوتيلي معروف بموهبته الفذّة في الكتابة، وأنا شخصياً قرأت له رواية «الخلل»، التي بيع منها أكثر من مليون نسخة، وأذكر أني أجبت مدير صحيفة نوفيل أوبسرفتوار حين عرض علي موضوع المقابلة بأن الآلة لن تتغلب على الإبداع البشري، واستشهدت بتجاربي السابقة حيث حاولت قبل سنة طرح نصوص أدبية بمساعدة «شات جي بي تي» وكانت النتائج مخيبة للآمال، ولكن هذه المرة لم تسر الأمور كما كان متوقعاً والنتيجة كانت مذهلة !!». أضاف الخبير الفرنسي بأن تدريب الآلة استغرق أسبوعاً كاملاً لم يكتف فيه بتغذية نظامها بروائع الأدب الكلاسيكي والحديث ومختلف الدراسات المقارنة لقواعد اللغة الفرنسية وأنماطها وتطور الكلمات على مّر التاريخ ثم مطالبتها بتأليف رواية بوليسية شيّقة، ولو فعل ذلك لحصّل على مجرد تقليد لأنماط سبق وأن تدربت عليها، بل إنه ذهب لأبعد من ذلك، حيث اعتمد على سلسلة محادثات طويلة مع مساعد الذكاء الاصطناعي كلود «لإجباره»، كما يكتب، على الاقتراب من عملية الإبداع البشري بتوجيهه نحو توليد محتوى أدبي فريد و«متميز»، مضيفاً أن هذه الخطوة كانت أشبه بـ«تحضير وصفة»، فكان هنالك «وصفة للسّرد» و«وصفة للّغة» وأخرى للأسلوب.

الأدهى أن الخبير عرض القصّتين على عدد من الأشخاص وحتى على تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتقّصي مدى إمكانية التفريق بين التجربة الإنسانية والتجربة الآلية وكلهم أجابوا بالخطأ لأنهم نسبوا رواية الذكاء الاصطناعي إلى المؤلف وعكسوا الإجابة الصحيحة. حيث وُصفت الرواية التي ولّدها الذكاء الاصطناعي بعنوان «مرآة المرحوم» بما يلي: قصّة متميزة بأسلوب قوي وكثافة دلالية (المرآة كمفهوم سريالي). عمقها الموضوعي (الندم وخيارات الحياة) بنيتها السّردية الرمزية وتأثيرها العاطفي القوي جعلوا منها قصّة متكاملة. أما الثانية (رواية الكاتب هيرفي لوتيلي) وهي بعنوان «وصية حجر الذئب» فقد وُصفت بالقصّة البوليسية المسّلية إلا أنها تقليدية وأقل جاذبية من ناحية الأسلوب والعاطفة. هذه التجربة المذهلة أعادت فتح أبواب النقاش الفلسفي حول ماهية «الإبداع»، هل هو فعلاً مرتبط بالعوامل الشعورية والحياة العاطفية للإنسان؟ أم أنه حان الوقت لنعيد النظر في مفهومنا للإبداع والأصالة وحتى الفعل الكتابي. ماذا حدث هذه المرة لكي تتحول النصوص النمطية المكرّرة للخوارزميات إلى نصوص متميزة قوية حتى أصبحنا لا نفرق بين رواية لكاتب مرموق وأخرى لآلة من دون عاطفة أو إحساس؟ أهي نهاية الأدب كما تنبّأ به المؤلف البريطاني روالد دال في قصّة قصيرة كتبها عام 1953 حيث تخيل آلات تكتب الروايات في خمسة عشر دقيقة، فينهار سعر الكتب ويتوقف الكُتاب عن الكتابة؟ قطعاً لا، فالآلة بارعة في الكتابة لكنها لا تعرف لماذا تكتب، ليس لها هواجس ولا شكوك ولا عاطفة، لكن واقع التطور التكنولوجي فرض وجودها علينا، ولا مجال لتجاهلها أو الرجوع للوراء. فهي حاضرة بقوة في المنصّات الإلكترونية كأمازون التي تعرض آلاف الكتب التي ولدّها الذكاء الاصطناعي للبيع يومياً، وفي صناعة السينما أين يستبدل بكتّاب السيناريوهات تطبيق «شات جي بي تي». بعض الكتاب يفضلون التركيز على النصف الممتلئ من الكوب بالترويج لنموذج هجين من «الأدب التركيبي»، الذي يقترب أكثر فأكثر من الإبداع البشري بفضل التفوق التكنولوجي والتوجيهات الحاسمة للعنصر البشري. في كتابه «رواية الرواية» الذي ألفّه مع برنامج الذكاء الاصطناعي كلود يستعرض الكاتب تيري توزي من خلال محادثاته مع كلود، المفارقة التي يواجهها الكاتب المعاصر بين الذكاء الاصطناعي كمصدر للإلهام، وكتهديد محتمل للأصّالة، فهو يكتب مثلاً في الفصل العاشر: «لا أستطيع التركيز بسبب التعب سأترك لكلود مهمة قراءة بقية الفصول».

ورغم الضغط الذي عاشه هذا الكاتب في تجربته الإبداعية مع الآلة فهو ينصح زملاءه من الكتّاب باحتضان التقنيات الجديدة بدل النظر اليها كمنافس، لأنه ببساطة، لا مفر من ذلك.