مصائر المأساة ومآلات السرد في رواية المدهون

الهولوكست يحضر لتسليط الضوء على النكبة

غلاف الرواية - يافا.. التي يسميها الفلسطينيون عروس البحر، والتي تهددها المستوطنات الإسرائيلية
غلاف الرواية - يافا.. التي يسميها الفلسطينيون عروس البحر، والتي تهددها المستوطنات الإسرائيلية
TT

مصائر المأساة ومآلات السرد في رواية المدهون

غلاف الرواية - يافا.. التي يسميها الفلسطينيون عروس البحر، والتي تهددها المستوطنات الإسرائيلية
غلاف الرواية - يافا.. التي يسميها الفلسطينيون عروس البحر، والتي تهددها المستوطنات الإسرائيلية

تبدو رواية ربعي المدهون «مصائر» مشغولة بنفسها منذ العنوان، فهي تستدعي التفكير بهويتها السردية والفنية بشكل عام، علاقة السرد بالفنون أولاً، ثم بالقضايا التي تتمحور حولها. ويزداد انشغال القارئ بتلك الهوية فيما يسميه الكاتب «قبل القراءة»، وهي مقدمة رأى أهمية أن تتصدر الرواية توضيحًا للرؤية، ودفعًا للبس. والرواية بتوجهها الاستهلالي، ثم بسمات أخرى، منها ذكر اسم المؤلف نفسه في الرواية، تستدعي ما يعرف بالـ«ميتافكشن»، أو ما وراء الرواية، الشكل الذي بات مألوفًا اليوم، ولم يكن غائبًا في الماضي.
أشير إلى هذا الجانب من الرواية، وأقاوم الغرق في التنظير، مع أن الرواية تغري به. لكن حقيقة الأمر هي أن ما تثيره الرواية من قضايا متصل ببنائها السردي، وهو ما يبرر الإشارة إليه. ولا شك أن تلك الصلة إحدى مميزات الرواية، وربما أحد مبررات فوزها بجائزة «البوكر» للعام 2016، ولكنها في الوقت نفسه مصدر لحيرة قارئ غير معتاد على تلك الحيل السردية، مما يعني أن الرواية لا تتوجه للقارئ العادي، وإنما لقارئ يمكنه التعامل مع الدلالات المركبة لبناء كهذا، والاستمتاع بمتاهته، لا سيما إن كان يعرف هذا اللون من الأبنية لدى أساتذته، من أمثال الأرجنتيني بورخيس والأميركي جون بارث.
في رواية «مصائر» رواية أخرى تكتبها إحدى الشخصيات، وهي جنين الفلسطينية التي عادت لتعيش في يافا، وتكتب عن رجل فلسطيني اسمه «باقي هناك»، وزوجته وعلاقته بجارتهما اليهودية. ومع جنين، نرى زوجها باسم الذي عاد أيضًا، لكن على مضض، وبرغبة ملحة في الخروج لسوء معاملة الإسرائيليين له. وتسبق الإشارة إلى جنين وروايتها، أو ما يسميه الكاتب «الحركة الأولى» من الكونشرتو، المشار إليه في عنوان «مصائر»، نقرأ حكاية وليد وزوجته البريطانية المولودة في فلسطين، حين تزوجت أمها الفلسطينية ذات الأصول الأرمينية ضابطًا بريطانيًا في أثناء الانتداب. ولتمعن الرواية في متاهات السرد، نجد وليد يخبرنا أن زوجته جولي تقرأ رواية للكاتبة المعروفة أهداف سويف، أي أن الافتراضي يقرأ الواقعي أو الفعلي، ولكي يجعل الكاتب العودة من تلك المتاهة صعبة حقًا، نجده يشير إلى نفسه، حين يرد اسم المدهون بوصفه روائيًا تعرفه بعض شخوص الرواية. هنا، تحكم المتاهة دائرتها، ويتصل ذيل الثعبان بفمه، كما يعبرون في الغرب.
لكن المهم هنا أن هذه التداخلات المحيرة في رواية «مصائر» تنسج نفسها في عمق المآسي التي تصورها، إلى جانب أنها من ناحية أخرى لا تغرقنا في كآبة ننسى معها رشاقة السرد والكوميديا التي تشيع في أجوائه. والواقع الافتراضي الذي يصنعه وجود رواية داخل الرواية يتوازى مع واقع تاريخي معروف (الانتداب البريطاني، الاحتلال الإسرائيلي، تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم... إلخ)، بل إن ذلك الواقع الافتراضي أو المتخيل من خلال الرواية الداخلية التي تكتبها جنين هو ما يصور الجانب الآخر من المأساة، الجانب المتعلق بواقع الفلسطينيين الذين قرروا البقاء في فلسطين. وذلك التصوير يستعيد أيضًا جانبًا من الهولوكوست الذي تعلن الرواية عنايتها به في العنوان، والذي تصوره أيضًا حكاية وليد وجولي ووالدتها. يحضر الهولوكوست في واقع الأمر من خلال الاحتكاك الفلسطيني الإسرائيلي، ومن خلال بعض حكايات المستوطنين الذين احتلوا بيوت أهلها الأصليين، لكن حقيقة الأمر هي أن الرواية معنية في المقام الأول بالنكبة الفلسطينية، والهولوكوست حين يحضر فإنه في الغالب يأتي لتسليط الضوء على النكبة، من خلال المفارقة المعروفة المتمثلة في أن اليهود الذين أحرقتهم أفران هتلر جاءوا ليمارسوا إحراقًا مشابهًا على أهل فلسطين. ويسطع ذلك بوضوح حين يزور وليد متحف المحرقة في القدس والرواية تقترب من نهايتها، فهو يتساءل أولاً عن جدوى الزيارة، وإن كان «صادقًا ومقنعًا» حين قال إنه سيزور المتحف. ثم يوضح هدفه الحقيقي: «إنني أريد أن اختبر موقف من يتذكر الضحايا الذين أزورهم من الضحايا في الجهة الأخرى؟ وكيف يمكن إبقاء ذكرى من أبادتهم النازية الألمانية حية، بقصف غزة مثلاً؟ وما الفرق بين الحرق في أفران الغاز أو الحرق بصواريخ الأباتشي؟»، وتتلو تلك الصورة المسكونة بالنكبة أكثر مما هي مسكونة بالمحرقة صورة أخرى، هي لحظة تتعالى بشعرية عذبة ومؤلمة في الوقت نفسه، وذلك في أثناء الجولة في المتحف: «في تلك اللحظة أطلت علي وجوه آلاف الفلسطينيين الذين عرفت بعضهم ولم أعرف الكثيرين منهم. كانوا يتزاحمون كمن يرغبون في النزول إلى قاعات المتحف والتوزع عليها، واحتلال أماكنهم كضحايا».
لا شك أن هذه الذاكرة، وهذا التعالي الشعري، أو لحظة الكشف التي تبرق على وليد في المتحف، مبررة على كل المستويات، فمن الصعب على فلسطيني يرى وطنه يتوارى أمام عينيه، أو قد توارى فعلاً، ثم يتعاطف مع من فرضوا ذلك التواري ثمنًا لمعاناتهم. لكن هل يبرر ذلك، فنيًا على الأقل، وضع المحرقة على عنوان الرواية الجانبي: «كونشرتو الهولوكوست والنكبة»؟ إن من الأمور الكثيرة التي تميز الرواية تلك الوقفات الواقعية في النظر إلى النكبة الفلسطينية، النقد الذي يوجه لبعض الذين تركوا الأرض أو من بقوا، مثل ذلك «لم يتبق من فلسطينيته سوى الاسم والماضي»، وكذلك التساؤلات المرة التي تدور بين فلسطينيين يرغبون في الابتعاد أو ينعمون في العيش بعيدًا عن معاناة من بقوا. وثمة سخرية وكوميديا هنا وهناك، كما في تعليق شاعر فلسطيني غاضب على «ربعي المدهون» (المتخيل) حين يغرق هذا الأخير في خطابية رومانسية حول فلسطين: «صاحبنا المدهون، باينّه كان سالخ صحنين حمص، ومازع وراهم صحنين كنافه، وشارب إبريق مي.. اتحمس وبلش يخطب: الحمص لنا، الكنافة لنا من موطنها النابلسي إلى مقدسها...»، وقال له الشاعر: «بلا حمص، بلا كنافه، بلا بطيخ أصفر، اليهود أخذوا البلاد كلها، وانت بتحكي لي عن الحمص والزعتر. حل عن سمانا يا زلمه».
المدهون الحقيقي هو من يسعى للتعالي على الرؤيتين معًا، الرومانسية الحالمة بأرض باقية وهوية ثابتة، والواقعية التي ترى انهيارات الحلم. أقول يسعى لأن الروائي يحاول أن يتخفى خلف كل شخوص العمل، ليظل من الممكن مع ذلك الإمساك به وبتحيزاته في مكان ما خلف شخصية أو خلف عبارة، وفي ظني أننا سنجد الكاتب، وربما نحن أيضًا، خلف عبارة مؤثرة يقولها باسم لزوجته: «اليوم واللا بكره هاذول الناس رايحين. وِن ما راحو، إسرائيل ما رح اتظل إسرائيل. إسرائيل اللي شايفاها يا جنين مرحلة عابرة في تاريخ فلسطين».
ولا شك أن رواية مثل «مصائر» تواجه تحديا ليس بالسهل، تحدي الاحتفاظ بالاستقلال الفني بعيدًا عن مآلات الخطاب السياسي والعاطفة الوطنية. يشعر بذلك القارئ وهو يتأمل استعمال الكاتب للشكل الموسيقي «كونشيرتو»، وتوضيحه للهدف منه. فليس أعلى من الموسيقى شكلاً تسعى إليه الفنون، كما قال الناقد الإنجليزي والتر بيتر في القرن التاسع عشر. ومع أنني لم أر علاقة قوية بين الشكل الموسيقي والرواية، فالكونشيرتو يتألف عادة من ثلاث وليس أربع حركات، والرواية في تقديري لم تكن بحاجة إلى حشر ذلك الشكل في بنيتها المتماسكة والقوية الدلالة من دونه.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!