فيما حمي وطيس الجدل بين الحكومة والمعارضة اليمينية في فرنسا حول نجاعة الوسائل والتدابير الأمنية التي لم تنجح في منع حصول الاعتداء الإرهابي المرعب في مدينة نيس بمناسبة احتفالات العيد الوطني الفرنسي، كان السؤال الكبير المطروح على المستويات الحكومية والسياسية والأمنية يتناول توصيف عملية نيس وتحديد شخصية منفذها محمد لحويج بوهلال: هل هو إرهابي من فئة «الذئاب المتوحدة» التي تتحرك بعيدا عن أي تنظيم لارتكاب مجزرة تحدد هي بنفسها مكانها وزمانها ووسيلة التنفيذ؟ أم أنه ينتمي إلى «خلية» على تواصل مع قيادات «داعش» أو القاعدة أو النصرة في سوريا والعراق؟ أم أن مجزرة نيس التي سقط ضحيتها 84 قتيلاً دهسًا وعدة مئات من الجرحى، بينهم 52 على الأقل في حال الخطر الشديد؟ أم أن هذا التونسي الذي كان في الحادية والثلاثين من العمر وعلى وشك الطلاق من زوجته التي شَكَتْ من لجوئه إلى العنف الأسري بحقها، هو مختل عقليا أم مريض نفسيا أو ضعيف الإمكانيات وفق شهادات والده التي نقلتها وسائل الإعلام الفرنسية أول من أمس؟
هذه التساؤلات ملأت صفحات الجرائد وهيمنت على تصريحات المسؤولين والسياسيين فيما بدا التردد والحيرة على تعاطي رئاسة الجمهورية والحكومة ووزارة الداخلية بصدد طريقة التعامل مع الهجوم الإرهابي الجديد، وهو الأعنف والأكثر دموية منذ العمليات الإرهابية التي ضربت باريس في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي عندما هاجمت مجموعة إرهابية من عشرة أشخاص مسرح الباتاكلان ومقاهٍ ومطاعم في الجانب الشرقي من باريس فضلا عن محاولة مهاجمة الملعب الكبير في محلة سان دوني (شرق العاصمة). وكانت نتيجة كل ذلك 130 قتيلا و350 جريحا. وككل مرة، كان السؤال يصاغ كالتالي: ما التدابير الأمنية الإضافية التي كان يمكن اتخاذها والتي كان من شأنها أن تمنع وقع عملية نيس؟ وما بين تأكيد رئيس الحكومة مانويل فالس أمس وأول من أمس أنه لا وجود لـ«تقصير» من جانب، وقرار الرئيس هولاند تمديد العمل ثلاثة أشهر إضافية بحالة الطوارئ التي كان من المفترض أن ينتهي العمل بها بعد عشرة أيام، يبدو أن التدبير الجديد الوحيد هو استدعاء القوى الاحتياطية الخاصة بالدرك الوطني لمؤازرة القوى الأمنية. ونظريًا، سيوفر هذا التدبير في حال تطبيقه 28 ألف دركي متقاعد و26 ألف رجل من المجتمع المدني. والحال أن تدبيرًا كهذا سيعني تخلي الآلاف من الموظفين عن وظائفهم، فضلاً عن أن بعضهم تم إشراكه في عمليات المحافظة على النظام والأمن منذ نوفمبر الماضي.
بيد أن العنصر الجديد أمس كان تبني تنظيم داعش عملية نيس. وجاء التبني مزدوجًا عبر وكالة «أعماق» التابعة له من جهة، التي تبث أخباره وأخبار عملياته وأيضًا عبر بيان أذاعته محطة «البيان» التابعة له. وهذا التبني هو ما كان ينتظره المسؤولون والخبراء لتحديد نوعية المجزرة التي شهدتها لؤلؤة الشاطئ اللازوردي الفرنسي. بيد أنه لم يحسم الجدل في غياب براهين مادية تسعى الأجهزة الأمنية للحصول عليها من خلال توقيف خمسة أشخاص على علاقة بمحمد لحويج بوهلال بينهم زوجته السابقة التي أوقفت أول من أمس وأربعة أشخاص أوقفوا أمس.
كذلك يسعى خبراء الأجهزة الأمنية إلى «استنطاق» الهاتف الجوال العائد لبوهلال الذي عثر عليه في قمرة قيادة الشاحنة للتعرف على محيطه وعلى الأشخاص الذين كان على تواصل معهم. ويرى الخبراء أن الهاتف الجوال بالإضافة إلى الكومبيوتر الشخصي الذي صودر في عملية المداهمة للشقة التي كان يسكنها يمكن أن يوفرا الدلائل المادية التي سيمكن الاعتماد عليها من أجل حل لغز هذا الإرهابي، الذي يقول عنه جيرانه وأقرباؤه إنه لم يكن يومًا متعلقًا بأهداب الدين أو ممارسًا له أو مترددًا على المساجد، فيما السمة الغالبة على شخصيته هي العنف وسبق أن حُكم عليه بالسجن بسبب أعمال جنحية، منها السرقة وضرب سائق سيارة والتعرض لزوجته.
وجاء في بيان التبني الذي أذاعته وكالة «أعماق» وكذلك راديو «البيان» أن محمد لحويج بوهلال «منفذ عملية نيس في فرنسا جندي من جنود (الدولة الإسلامية) وقد نفذ عمليته استجابة للدعوات التي أطلقت من أجل استهداف مواطني الدول المنضوية في التحالف الذي يقاتل (الدولة الإسلامية)». وجاء في البيان أيضًا أن تنفيذ العملية تم وفق «طريقة جديدة»، في إشارة إلى استخدام الشاحنة المبردة التي تزن 17 طنًا لإيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى في تجمع بشري على كورنيش مدينة نيس السياحية. ويحذر البيان دول التحالف «الصليبي» من أنه مستمر في عملياته مهما كانت التعبئة والتدابير الأمنية التي ستتخذ لتلافي وقوع مثل هذه الأعمال. أما إشارة البيان إلى أن العملية جاءت «استجابة» لدعوات قادة «داعش»، فإنها إشارة للدعوة التي أطلقها أبو محمد العدناني، الناطق باسم التنظيم الإرهابي في سبتمبر (أيلول) عام 2014 حيث ناشد مناصري «داعش» أينما كانوا باستخدام ما تيسر من وسائل لقتل «المارقين»، مشيرًا من بينها إلى استخدام السيارات.
لكن هل سيبدد التبني الشكوك بشأن طبيعة العملية الإرهابية في نيس؟
قبل أن يصدر بيان «داعش» أمس، كان رئيس الحكومة مانويل فالس، بعكس وزير داخليته برنار كازنوف، الأكثر جزمًا بالطبيعة الإرهابية المتطرفة لمجزرة نيس. وقال فالس الجمعة في حديث إن بوهلال «مرتبط بلا شك بشكل أو بآخر بالمتطرفين» فيما سبقه الرئيس هولاند ليلة أول من أمس بأن نسب العملية إلى «الإرهاب الإسلامي» وهي المرة الأولى التي كان يستخدم فيها تعبيرًا كهذا.
أما وزير الداخلية فقد بقي حذرًا، فيما أشار مدعي عام باريس المتخصص في شؤون الإرهاب فرنسوا مولينس إلى أن العملية الإرهابية «تنطبق عليها تماما دعوات المتطرفين لارتكاب عمليات القتل». لكن مولينس حرص في أول مؤتمر صحافي عقده للحديث عن عملية نيس على الإشارة إلى أن بوهلال «كان مجهولا لدى أجهزة المخابرات ولم يكن يومًا على لائحة الأشخاص الخطرين الذين سطرت بحقهم بيانات من فئة (S)، أي التي تعتبرهم خطرين على أمن البلاد».
هذا الصورة تجعل تبني داعش لعملية نيس موضوع تساؤل وحذر،إذ لا تستبعد مصادر أمنية أن يكون «داعش» قد «انقض» على العملية وتبناها ليبين أنه «ما زال قادرا على مهاجمة أهداف أينما كان»، وأن قدراته «لم تتناقص» رغم ما لحق به في سوريا والعراق من هزائم. وبالنظر لهذا الاحتمال، فإن السلطات الفرنسية الرسمية لم يصدر عنها حتى بعد ظهر أمس أي تعليق على ما جاءت به وكالة «أعماق»، بانتظار أن تعرف المزيد عن بوهلال وعن اتصالاته وعلاقاته.
وأمس، دخلت فرنسا حالة الحداد رسميًا لثلاثة أيام فنكست الأعلام على المقار والمراكز الحكومية والرسمية وسيلتزم المواطنون دقيقة صمت حدادا ظهر الاثنين بحيث تتجمد الحركة في البلاد بأكملها. وفي قصر الإليزيه رأس فرنسوا هولاند وبحضور رئيس الحكومة ووزراء الداخلية والدفاع والخارجية والعدل ورئيس أركان القوات المسلحة ومسؤولي أجهزة المخابرات اجتماعًا لمجلس الدفاع والأمن هو الثاني من نوعه خلال 24 ساعة لتقييم الوضع وإقرار الخطوات القادمة داخليا وخارجيا. وأعقب الاجتماع الأمني الدفاعي اجتماع استثنائي للحكومة بكل أعضائها. وستقدم الحكومة يوم الأربعاء المقبل مشروع قانون للجمعية الوطنية لتمديد العمل بحالة الطوارئ. ومن جانب آخر، أفادت مصادر قصر الإليزيه بأن الرئيس هولاند قرر إلغاء جانب من الجولة الأوروبية التي كان سيقوم بها عقب قرار الناخبين البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي. ومن بين البلدان الخمسة التي كان سيزورها «النمسا، سلوفاكيا، التشيك، البرتغال وآيرلندا»، فإنه احتفظ بزيارته إلى الدولتين الأخيرتين بسبب تبعات عملية نيس.
واستمرت أمس موجات التعاطف مع فرنسا ومع الضحايا. وتحول موقع الحادث على كورنيش مدينة نيس إلى محجة يأتيها الناس من كل حدب وصوب لإضاءة الشموع، وحمل الورود تكريما لذكرى 14 يوليو (تموز)، الذي سيبقى في أذهان الناس صنوا للإجرام بأبشع أشكاله.
«داعش» يتنبى عملية نيس.. والسلطات الفرنسية تنتظر دلائل حسية دامغة
توقيف 5 أشخاص على علاقة بالمنفذ.. وهاتفه الجوال يمكن أن يحل لغز هجوم الدهس الإرهابي
«داعش» يتنبى عملية نيس.. والسلطات الفرنسية تنتظر دلائل حسية دامغة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة