«الانغماسيون».. الجيل الرابع من انتحاريي «داعش»

بعد سلسلة التراجعات.. التنظيم الإرهابي يزج بآخر أسلحته الفتاكة

«الانغماسيون».. الجيل الرابع من انتحاريي «داعش»
TT

«الانغماسيون».. الجيل الرابع من انتحاريي «داعش»

«الانغماسيون».. الجيل الرابع من انتحاريي «داعش»

في معارك تحرير صلاح الدين التي خاضها الجيش العراقي ضد تنظيم داعش عام 2015 زج هذا التنظيم الإرهابي ولأول مرة ما بات يسمى فيما بعد بـ«الجيل الرابع» لانتحاريي «داعش» أو «الانغماسيين»، وهم الكتيبة الأكثر تأثيرًا، الذين يشكلون مصدر رعب لخصومهم، لأنهم يحاربون إلى آخر رمق قبل أن يفجروا أنفسهم.
هم يختلفون عن باقي الأجيال الأخرى من الانتحاريين ممن يحملون أحزمة ناسفة ويتحركون بها إلى أهدافهم، سواء كانوا راجلين أو راكبي سيارات تنفجر بهم طبقًا للأهداف التي يحددها التنظيم لهم. ولكنهم أولئك الذين هم أكثر التزامًا بالتنظيم ومبادئه. الخبير الأمني المتخصص بشؤون الجماعات المسلحة هشام الهاشمي مستشار مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الانغماسيين هم في الواقع كتيبة خاصة من عناصر تنظيم داعش عقدوا بيعة الموت (النصر أو الموت) من غير أسر أو هروب. وهم في الغالب يشتركون في 6 صفات، وهي البنية البدنية القوية، والعقيدة التكفيرية، والتزكية والتاريخ الإرهابي، وفرط الشجاعة والتطوع». وأضاف الهاشمي أن «الانغماسيين هم رأس حربة جيوش (داعش) في سرايا الاقتحام وكتائب القنص وجدار الصد المتقدم»، وكانوا مصدر رعب في سوريا. وأوضح أنه «تاريخيًا بدأ بهذه الجماعة المدعو أبو محمد اللبناني حين أراد اقتحام سجن أبو غريب عام 2006، ومن ثم عرفت هذه المجموعة بكتيبة عائشة أم المؤمنين بقيادة المدعو أبو غزوان الحيالي، ثم أعاد إحياء هذه الكتائب المدعو حجي بكر نائب البغدادي وجعلها بقيادة عمر الشيشاني، والآن هم بقيادة المدعو فاضل حيفا مساعد البغدادي».
وطبقًا للوقائع والحيثيات التي رافقت مسيرة «داعش» في العراق منذ احتلاله الموصل وكل محافظة نينوى في العاشر من يونيو (حزيران) عام 2014، ومن ثم تمدده نحو محافظات صلاح الدين وديالى والأنبار واقترابه من العاصمة بغداد (على بعد 40 كلم)، بالإضافة إلى تحقيقه أخطر خرق باتجاه محافظة كربلاء (110 كلم جنوب بغداد)، التي تضم مرقدي الإمامين الحسين وأخيه العباس من خلال سيطرته على ناحية جرف الصخر (60 كلم جنوب بغداد) ونحو (40 كلم شمال كربلاء)، فإن تنظيم داعش لا سيما بعد إعلانه «الخلافة» عمل على تطوير أدواته وأدائه معًا. أما أدواته فقد تمثلت في نوعية المواد التي يستخدمها في عمليات التفجير والتفخيخ للأماكن والمنازل، بالإضافة إلى الأسلحة التي كان غنمها أثناء هزيمة الجيش العراقي في معركة الموصل (استسلام نحو 4 فرق عسكرية بكامل أسلحتها الثقيلة)، تضاف إلى ذلك الأموال التي بات يتحصل عليها من سيطرته على مئات آبار النفط في العراق وقبلها في سوريا، التي جعلته يضمن موارد مالية هائلة شهريًا من خلال بيع النفط بالسوق السوداء (سعر البرميل لدى «داعش» 25 دولارًا في وقت كانت فيه أسعار النفط العالمية لا تزال بحدود 90 دولارًا). غير أن الأخطر في أداء تنظيم داعش يتمثل في الأجيال الجديدة من الانتحاريين ممن باتوا يأتون إليه من مناطق مختلفة من دول العالم، لا سيما بعد إعلان ما أسماها «دولة الخلافة الإسلامية» ومبايعة أبو بكر البغدادي بمثابة «أمير للمؤمنين». وبينما جاء تمدد «داعش» بعد احتلاله ثلث مساحة العراق بسبب الانكسار الحاد للجيش العراقي، فإن إعلان الولايات المتحدة الأميركية عن تشكيل التحالف الدولي المناهض لـ«داعش» الذي يتكون من نحو 60 دولة، بالإضافة إلى الإجراءات التي تم اتخاذها في العراق وفي المقدمة منها إزاحة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عن منصبه، وإعادة هيكلة الجيش العراقي بعد تشكيل حكومة جديدة برئاسة حيدر العبادي، عدت أكثر توازنًا وتمثيلاً للمكونات من الحكومة التي سبقتها، بالإضافة إلى حشود المتطوعين بعد فتوى المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني المسماة «الجهاد الكفائي» وانخراط أبناء المناطق الغربية ذات الغالبية السنية فيما سمي «الحشد العشائري» بهدف مقاتلة «داعش»، أدت إلى تغيير المعادلة.
وقد بدأت المعادلة تتغير بالفعل منذ سبتمبر (أيلول) عام 2014 عندما بدأت الطلعات الجوية لطيران التحالف الدولي، وفي المقدمة منها الطيران الأميركي تضرب في عمق أهداف «داعش» ومراكزه الحيوية، يضاف إلى ذلك مقتل عناصر بتنظيم داعش ممن يشكلون الحلقة الضيقة المحيطة بأبو بكر البغدادي، وصولاً إلى بدء خسارة التنظيم معظم الأراضي التي كان يحتلها في العراق. فمن مجموع المساحة التي كان يحتلها تنظيم داعش في العراق التي بلغت نحو 40 في المائة من الأراضي العراقية، فإنه بدأ يتراجع بحيث لم يعد يحتفظ الآن إلا بما نسبته نحو 10 في المائة من الأراضي. وقد بدأ مسلسل تراجع التنظيم في محافظة ديالى التي جرى تحريرها أوائل عام 2015 ومحافظة صلاح الدين، ومن ثم معظم أراضي محافظة الأنبار خلال الشهور الستة الأولى من عام 2016 وآخرها الفلوجة التي تعد أهم معاقله، حيث لم يتبق سوى مدن الفرات الأعلى (راوة وعانة والقائم) من الأنبار، بالإضافة إلى محافظة نينوى التي بدأت المعارك فيها تحقق تقدمًا واضحًا.
في هذا السياق فإن التنظيم وهو يتراجع على مستوى الأرض بالإضافة إلى قلة موارده المالية بسبب فقدانه آبار النفط وكثيرًا من المنافذ والإتاوات التي يحصل عليها، بدأ يزج بما بات يسمى بالانغماسيين، وهم جزء من حروب الجيل الرابع. وفي هذا السياق يقول عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي محمد الكربولي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «الانغماسيين يمثلون حروب الجيل الرابع من الإرهاب، وهي حرب نفسية بامتياز، حيث يلعب فيها الإعلام الدور الأكبر والأخطر»، مشيرًا إلى أن «الإعلام هو أحد الأسلحة الرئيسية في الجيل الرابع، حيث يدعم أحداث الفوضى الاستباقية وتوجيه الأنظار وصناعة الخبر وتضخيم الأحداث وزعزعة الاستقرار والتحريض على الفتنة بين طبقات الشعب الواحد وإثارة المذهبية والعقائدية، بحيث يسهل تمزيق الوطن الواحد وإفشال الدولة في النهاية». ويضيف الكربولي أن «تزايد العمليات الانتحارية وتنوعها بطرق وأساليب مختلفة ومنها الانغماسيون يؤكد من جديد الحاجة إلى مقاربة صحيحة لمحاربة الإرهاب، لكن ليس بالطرق التقليدية التي عفا عليها الزمن، بل الحاجة باتت ماسة إلى العمل على تجفيف منابع الإرهاب من خلال إحكام سيطرة الدولة على المنافذ الحدودية، حيث يتدفق الإرهابيون، والعمل على استيعاب أبناء المناطق التي يحاول الإرهاب استخدامها للتمدد، مستفيدًا من الأخطاء التي تمارسها السلطات هناك، سواء كانت أمنية أم عسكرية، بالإضافة إلى تغيير النظرة إلى أبناء تلك المناطق ومحاولة استيعابهم وزجهم في مختلف ميادين العمل والحياة».
قبل عام 2015 لم يعرف شيء عن مصطلح «الانغماسيون» أو الجيل الرابع من مقاتلي «داعش». لكن خلال معارك تطهير مصفى بيجي التي جرت بدءًا من شهر مايو (أيار) عام 2015 ظهر إلى الوجود مصطلح الانغماسيين. وفي هذا السياق يقول يزن الجبوري القيادي في الحشد العشائري من أبناء محافظة صلاح الدين في تصريح لـ«الشرق الأوسط» عن بداية عمل الانغماسيين الذين إن تم تكليفهم بمهمة انتحارية فإنهم لا يترددون في تنفيذها تحت أي ظرف وأي حسابات، يقول إن «بداية هؤلاء وطبقًا للمعلومات التي كانت لدينا أن تنظيم داعش زج في معركة مصفى بيجي التي استمرت شهورًا وكلفت التنظيم كما كلفتنا في الجانب العراقي كثيرًا من الخسائر، من منطلق أن السيطرة على أكبر مصافي العراق تعني حسم معركة صلاح الدين بما بات يطلق عليهم فيما بعد الانغماسيين». وأضاف الجبوري أن «هؤلاء الانغماسيين جاءوا من منطقة الجزيرة إلى هذا المعسكر لتحقيق هدفين في آن واحد، أحدهما تحقيق نصر إعلامي لكي يقولوا إننا موجودون، وهو ما دفعهم إلى إرسال هذا النوع من الانتحاريين، والثاني إحداث أكبر قدر من الخوف لدى جماعة الحشد الوطني من أبناء المنطقة وجماعة معسكر نينوى لقناعتهم بأننا سنتوجه إلى الشرقاط (شمال تكريت) لاستكمال عملية تحرير صلاح الدين، وكذلك لشعورهم بأن أبناء هذه المناطق هم من سيتولون عملية تحريرها».
وأوضح أن «وجود الحشد الوطني وأبناء نينوى يفشل مشروع (داعش)، حيث يلغي صبغة الحرب الطائفية التي يسعى لتكريسها في العراق». لكن «داعش» رغم خسارته معركة صلاح الدين وقبلها ديالى وفشله في اقتحام أسوار بغداد وأخيرًا الفلوجة، فإنه بدأ يضاعف من العمليات التي ينفذها الانغماسيون، بهدف تحقيق جملة أهداف يقف في المقدمة منها البعد الإعلامي لجهة التأكيد أن التنظيم موجود وقادر على الضرب بل وحتى الانتقام. ولعل العملية الأخيرة التي حصلت في حي الكرادة قبل اليوم الأخير من رمضان وأودت بحياة أكثر من 300 قتيل عراقي وجرح مئات آخرين وما ترتب عليها من استقالات وإقالات (وزير الداخلية وقائد عمليات بغداد وقادة الأمن) تعطي الانطباع لدى الآخرين بأن «داعش» وإن يخسر الأراضي فإنه لا يزال يملك زمام المبادرة.
ليس هذا فقط، فإن التوجه نحو سامراء وبالذات إلى بلد يضم غالبية شيعية رغم وجوده في محافظة ذات غالبية سنية (صلاح الدين) ومهاجمة أحد المراقد الشيعية المهمة (مرقد الإمام سيد محمد أبن علي الهادي) بثلاثة من الانغماسيين، مما أدى إلى مقتل وجرح أكثر من 100 شخص بعد 3 أيام على فاجعة الكرادة، إنما يعني من منظور «داعش» أنه لا يزال موجودًا سواء على مستوى الإعلام بوصفه الخبر الأول في وكالات الأنباء، أو على مستوى الواقع حيث توقع عملياته مئات القتلى والجرحى في صفوف المدنيين.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».