لم يكن أحد يتوقّع أن تنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في ظرف أشهر معدودة، كما لم يخطر على بال أحد أن تنتهي فترة ديفيد كاميرون في رئاسة الوزراء بعد أن قضى أقل من سنتين في 10 داونينغ ستريت، لتخلفه إحدى وزيرتيه اللتين تتنافسان على لقب «المرأة الحديدية» الجديدة.
وبعد انتهاء الدورة الثانية لتصويت النواب المحافظين على زعيم حزبهم الجديد ورئيس الوزراء البريطاني الخميس الماضي، انحصرت المنافسة بين وزيرتي الداخلية تيريزا ماي، والطاقة أندريا ليدسوم. واكتسحت ماي الانتخابات الداخلية للحزب بدورتيها، حيث حصلت في الأولى على 165 صوتا من زملائها النواب المحافظين، تلتها ليدسوم بـ66 صوتا، فيما استبعد وزير الدفاع الأسبق ليام فوكس الذي حظي بدعم 16 نائبا فقط. أما في الدورة الثانية التي أعلن عن نتائجها مساء الخميس، فتفوقت ماي على منافستها الرئيسية بفارق 115 صوتا، بينما استبعد وزير العدل مايكل غوف ب، 46 صوتا فقط.
يتوقّع المراقبون أن تنجح ماي في آخر دورة انتخابية لحزب المحافظين على منافستها ليدسوم، والتي سيشارك فيها ما يصل إلى 150 ألف عضو في حزب المحافظين لاختيار رئيس الوزراء الجديد بحلول 9 سبتمبر (أيلول) المقبل.
ويرى النواب في ماي «مرشّحة توافقية» قد تنجح في تضميد جراح الحزب الذي لم يصمد أمام زلزال الاستفتاء حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وفي إعادة توحيد بلاد منقسمة بين مؤيد للتكتل الشامل لـ27 دولة ومناهض له. وعلى خلاف مع المحافظين بوريس جونسون، رئيس بلدية لندن السابق، وغوف، لم تعتمد ماي موقفا معاديا لديفيد كاميرون؛ بل انضمّت إلى حملته (حملة «البقاء أقوى») دون أن تكون من وجوهها البارزة أو أن تنشط في فعالياتها. وبالتزامها الحياد النسبي، لم تغضب وزيرة الداخلية التي عرفت بموقفها المشكك في الاتحاد الأوروبي قواعد الحزب المناهضة لمؤسسات بروكسل.
وفي مقال رأي نشرته صحيفة «التلغراف» أمس، كتبت النائبة المحافظة نوس غاني حول السباق لزعامة حزبها وترؤس الحكومة البريطانية أن «الأمر لا يتعلق فقط بالاستقرار والكفاءة، اللذين تجلبهما تيريزا ماي إلى الطاولة؛ فهي واحدة من مهندسي تحويل وعود حزبنا بخلق مجتمع ينعم بالأمن والسلامة والعدل، إلى واقع. وهي إصلاحية عظيمة، يحركها احترام لمؤسساتنا التقليدية، ولكنها مدفوعة أيضا بالفرص التي تنشأ عندما يتم تحديث هذه المؤسسات، ومن ثم تظل فعالة وتلبي احتياجات العالم الحديث».
وأضافت مدافعة عن ماي في مقال عنونته «ماي هي ما تحتاجه بريطانيا»: «لقد كانت شجاعة ومستعدة للتصدي للعراقيل التي تقيد الناس، عن طريق الاهتمام بمصلحة الجميع، وليس مجرد القلة القليلة. إن نجاحاتها تقف شاهدة على اتجاه حزبنا؛ فنحن لسنا مجرد حزب الحكومة، وإنما نحن ما يحتاج إليه البلد». وتابعت: «ماي أشرفت على انخفاض في الجريمة إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. كما ساندت عملية تسليم السلطة فيما يتعلق بالأداء الأمني للشرطة من قصر (وايت هول) إلى المجتمعات المحلية، وقامت بإصلاح إجراءات التفتيش. ومنحت صوتا لضحايا الإساءة من الأطفال وقادت جهود إدخال إجراءات جديدة مطلوبة للحفاظ على أمن مجتمعنا، وحشد كل قوى أجهزة الأمن البريطانية لحماية مواطنينا من الإرهاب، والوقاية من التشدد وتعزيز صلابة مجتمعاتنا التي تحتاج للرد عليه».
في المقابل، يرى مناهضوها أنها ستساهم في «تقسيم البلاد لا توحيدها». هذا ما لمّحت إليه وزيرة العمل السابقة إيفيت كوبر، في مقالها على صحيفة «الغارديان» أمس بعنوان «ماي ساهمت في تقسيم بريطانيا. لن تساهم في معالجتها». واعتبرت كوبر التي لن تشارك في التصويت على رئيس الوزراء الجديد، باعتبارها نائبة عمالية، أن ماي كانت «في قلب حكومة (محافظة) خفضت لمدة ست سنوات الضرائب على الأغنياء والإعفاءات الضريبية التي كان يتمتع بها الفقراء.. وبالتالي، وعندما تدّعي أنها تشتغل بجد لتحسين ظروف الطبقات الكادحة، عليها أن تعترف بأن حكومتها ساهمت في تدهورها».
سيرة شخصية
ولدت تيريزا ماي، البالغة من العمر 59 عاما، في ايستبورن بمقاطعة ساسكس في 01 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1956. كان والدها كاهنا إنجليكيانيا في المقاطعة. وتلقّت ماي مزيجا من التعليم الحكومي والخاص، ثم تخرجت من جامعة أكسفورد المرموقة.
وقبل أن تصبح نائبة في البرلمان في عام 1997. عملت ماي في بنك إنجلترا، ثم في أحد المراكز البحثية.
ويعدّ سجلها الوظيفي وجديتها في العمل أبرز مواطن قوّتها.
وتشغل ماي منصب وزيرة الداخلية منذ 6 أعوام، الوظيفة التي وأدت كل آمال المهن الأخرى في مستقبلها الوظيفي. وفي فترات الفوضى، كان الجميع ينظرون إليها بوصفها أكثر الخيارات أمانا.
أما نقاط ضعفها وفق ما يرى أعداؤها السياسيون، فتتمثّل أساسا في موقفها المؤيد للبقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي، رغم أنه موقف لين غير صلب، الذي قد يستخدم ضدها من قبل باقي أعضاء الحزب. ولقد حاولت في الماضي التعبير عن رؤية أوسع للأحداث.
وإعلاميا، بعيدا عن عالم السياسة، عرفت ماي بأناقتها وذوقها المتميز في اختيار اللباس. كما اشتهرت بين الناخبين الشباب بحبها لفريق «آبا» الموسيقي، الذي كان أحد خياراتها المفضلة من برنامج «ديزرت آيلاند ديسكس» الإذاعي أغنية «الملكة الراقصة» لفريق «آبا» الغنائي. وقالت آنذاك إنها تحب «الموسيقى التي تدفعك إلى الرقص بنشاط وحيوية».
أبرز مواقفها السياسية
تعد ماي واحدة من أكثر الوزراء البريطانيين الذين تولوا لوقت طويل مسؤولية قيادة وزارة الداخلية في تاريخ بريطانيا، وينظر إليها كأوفر مرشحة حظا لتزعم حزب المحافظين. ولمع نجم ماي في السياسة البريطانية لأول مرة في عام 2013. حينما نجحت فيما فشل فيه كثير من الوزراء قبلها، وذلك في قضية ترحيل المتشدد أبو قتادة الفلسطيني، وإبعاده إلى الأردن.
وتعهدت ماي بالعمل على توحيد دعاة البقاء في الاتحاد الأوروبي ودعاة الخروج داخل حزب المحافظين، كما تعتبر من أبرز المطالبين بتحديث حزب المحافظين. وقالت في تصريحات صحافية سابقة بهذا الصدد: «إنه من واجبات حزبنا الوطنية أن نحكم ونوحد البلاد بالطريقة الأمثل التي تضمن حماية مصالح بريطانيا. نحن بحاجة إلى نظرة جديدة وإيجابية للمستقبل».
وفي إشارة إلى موقفها من الاتحاد الأوروبي، أوضحت ماي حال إعلانها عن دخولها سباق الترشح لزعامة الحزب: «سوف أنشئ وزارة جديدة في الحكومة تضطلع بإجراء المفاوضات البريطانية مع الاتحاد الأوروبي». وبعد حالة من الصمت التام تقريبا خلال أسابيع مطولة من الاقتتال الداخلي في حزب المحافظين، كانت ماي حريصة على أنها سوف تؤيد النتيجة النهائية.
وبينما دعمت ماي حملة البقاء في التكتل الأوروبي، إلا أنها أكّدت مرارا أن نتائج الاستفتاء يجب أن تحترم، وأنه لن تكون هناك محاولات للبقاء في الاتحاد أو الانضمام إليه من «الباب الخلفي». كما تعهدت أنه لن تكون هناك انتخابات عامة قبل عام 2020. كما لن يتمّ اللجوء إلى موازنة طارئة لتغطية نفقات وخسائر قد تترتب على خروج بريطانيا من الاتحاد.
وحول المفاوضات مع قادة الاتحاد الأوروبي ومؤسسات بروكسل، تعهدت ماي بأن لا تفعّل المادة 50 من اتفاقية لشبونة للبدء في مفاوضات خروج البلاد من الاتحاد قبل نهاية 2016. وذلك لمنح الجميع الفرصة للدخول في المفاوضات استنادا لموقف واضح حول طريقة وشكل التفاوض.
أما عن حرية تنقل البضائع والأشخاص، تطالب وزيرة الداخلية بضرورة أن تتمكن الشركات البريطانية من الوصول إلى السوق الموحدة وفقا لمبدأ حرية حركة الأشخاص والبضائع، لكن مع القدرة على ضبط الحدود والسيطرة على تدفق المهاجرين من أوروبا إلى بريطانيا.
وفيما يتعلق بملف الهجرة، فقد اتخذت وزيرة الداخلية موقفا متشددا حيال قضية الهجرة، وهي تريد حتى الآن انسحاب المملكة المتحدة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. كما أنها حريصة للغاية على تمرير مشروع قانون سلطات التحقيق، والمعروف إعلاميا باسم «قانون المتلصصين».