مثقفون مغاربة: سجالات اليوم.. عنوان مشهد ثقافي معطوب

الجدالات الفكرية والأدبية.. لماذا انحسرت في ثقافتنا العربية المعاصرة؟

الموساوي -  الحجري - بلمو
الموساوي - الحجري - بلمو
TT

مثقفون مغاربة: سجالات اليوم.. عنوان مشهد ثقافي معطوب

الموساوي -  الحجري - بلمو
الموساوي - الحجري - بلمو

بحسرة من يحن إلى زمن جميل مفتقد، يستعيد المثقفون المغاربة السجالات المضيئة، التي ميزت المشهد الثقافي العربي، خلال العقود الماضية، قبل أن ينخرطوا في محاكمة راهن ثقافي معطوب، طغت عليه «الأحقاد»، وسادت فيه «القيم البئيسة»، التي يتوسل أصحابها منطق «المجاملات المزيفة» و«النفاق»، لتترك تلك الصراعات المثمرة التي ميزت العقود الماضية مكانها لصراعات فارغة، مجانية لا علاقة لها بالفكر والأدب، فيما تخضع لمنطق «اللوبيات» و«الشللية» و«الحسد» و«الكيد» و«سوء النوايا».
ويرى الشاعر المغربي محمد بلمو أن «التطرق لأسباب غياب السجال الثقافي، وطنيا وعربيا، اليوم، مهم للغاية، ليس، فقط، لأنه يتأسس على المقارنة مع ما كان حاصلا قبل عقود ما بين الأديبين المصريين عباس محمود العقاد وطه حسين، أو حديثا ما بين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وطيب تيزيني ومهدي عامل وغيرهم، ممن كان لهم دور مهم في النهوض بالفكر والثقافة العربيين وتحريك مياهها الراكدة، ولكن لأنه يؤشر بشكل واضح على مستوى الضحالة والانحطاط الذين انتهى إليهما الحوار أو الجدال في الساحة العربية في العقود الأخيرة».
يشدد شاعر «حماقات السلمون» على أن سبب غياب السجال الثقافي اليوم، لا يرجع، فقط، إلى غياب هذه الطينة من المثقفين، ولكن إلى اكتساح نوع آخر من «السجال» للساحة الثقافية والإعلامية، يتمثل في «السجال الآيديولوجي السياسي الذي ملأ الفراغ الحاصل بفعل انهيار المشاريع المجتمعية الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والقومية التي تبناها المثقفون العرب قبل أن يضطروا للتراجع إلى الوراء».
ويذهب بلمو إلى أن «المتأمل في السجال السياسي الآيديولوجي الذي يملأ، اليوم، الساحة ضجيجًا وصراخًا، لا بد أن ينتبه إلى فقره الفكري ووضاعة أساليبه. لذلك إذا كان السجال الثقافي الذي تابعنا بمتعة معرفية بين طه حسين ومحمود العقاد أو بين محمد عابد الجابري وجورش طرابيشي مثلا، أو بين الشاعرين الفلسطينيين محمود درويش وسميح القاسم في رسائلهما المتبادلة على صفحات مجلة (اليوم السابع) الباريسية، أو بين الشاعرين المغربيين أحمد المجاطي ومحمد بنيس، قد انبنى على الندية والاحترام بين طرفي السجال، وتسلح بالتراكمات والمناهج العلمية وأخلاقيات الحوار الحضاري واللغة الراقية، فإن السجال السائد اليوم، على العكس، تماما، من ذلك، ينبني على العداء والاحتقار المتبادل بين طرفيه أو أطرافه، وهو سجال يعادي العلم والعقل ويتسلح بأساليب التخوين والتكفير والشيطنة والشعوذة السياسية، واللغة المنحطة».
وختم بلمو وجهة نظره بالقول إن سجال، اليوم: «فارغ فكريًا ورديء لغويًا ومتخلف أخلاقيًا، ومتطرف عقائديًا، يؤشر على انحطاط فكري وثقافي يريد أن يهيمن على الساحة ويستحوذ على كل مفاصل المجتمع، من خلال ترهيب وقمع أصوات الحكمة والتنوير. والنتيجة، طبعًا، هي الدخول في مرحلة جديدة من التخلف الفكري والثقافي والاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي».
من جهته، يقر الناقد والروائي المغربي إبراهيم الحجري بـ«تراجع الوظيفة السجالية بين المبدعين والنقاد والمفكرين عبر العالم العربي»، بعد أن «خفت صوت المثقف الذي كان يصول ويجول في ستينات وسبعينات القرن الماضي، فلم يعد معنيًا بما يحدث حوله في عالم متسارع الوتيرة، وكأنه استقال من وظيفته المجتمعية».
ويرجع الحجري أمر هذا التحول إلى عدد متداخل من الأسباب، أجملها في «الانعزالية التي دخل فيها المثقف بعد نكسة اليسار، واعتزاله العمل السياسي، فقل حضور ما كان يسمى بالكاتب الملتزم والمثقف الكاريزماتي الذي يخوض فيما حوله»؛ و«الهوة القائمة بين السياسي والمبدع والمثقف، والتي تتفاقم بالتدريج»؛ و«ظهور الوسائط الإلكترونية الجديدة التي أغرقت الكائن البشري في عزلة قاتمة، وذلك من انشغاله بالإثارة المتجددة للوسيط وانهماكه الكلي فيها، فلم يعد هناك مجال للتفاعل المباشر وتبادل النقاش المثمر والهادف والحاد أحيانًا، فالوسائط الجديدة بما فيها مواقع التفاعل الاجتماعي، لم تستطع الاستعاضة عن الفعل الثقافي في الساحات المعروفة والفضاءات التاريخية التي كان يشد إليها الرحال من مسافات لحضور لقاءات فكرية وسجالات ثقافية حول المواضيع الراهنة، مثل دور الشباب، المسارح، دور السينما، الجامعات، الحلقيات الخاصة بالنقاش، المناظرات التلفزيونية والإذاعية، المنتديات العامة التي يحضرها الجميع، وينشطها مثقفون ومفكرون من مختلف التخصصات والاتجاهات المتناقضة»، فضلا عن «تراجع صيت اللقاءات الثقافية والمهرجانات ومعها دور المثقف والمبدع في خلق دينامية مجتمعية»؛ و«تراجع دور الخطابة وحلول الصوت الفريد محلها، من خلال هيمنة وسائل الإعلام البصرية والوسائط التفاعلية».
لكن: «في ظل أفول شمس الخصومات المضيئة والنقاشات الحادة بين الأدباء والمفكرين»، يضيف الحجري «ظهر ما يسمى بالأحقاد والنيران الكيدية الصديقة التي تشتعل وتستعر في الخفاء تاركة وراءها قيما بئيسة في الوسط الثقافي، وفي الواجهة، يلوح منطق المجاملات، والطلاءات المزيفة والإفحامات المنافقة، التي تقوم الأشياء عن غير اقتناع ولا تأمل، وهي ظاهرة نتجت عنها صراعات مجانية لا علاقة لها بالفكر والأدب، وأفرزت لوبيات وشللية لا تحتكم إلى القيم الفنية والفكرية والثقافية، بل إلى منطق الحسد والكيد وسوء النوايا، للأسف الشديد».
من جهته، يرى الشاعر المغربي جمال الموساوي أن «السجال الثقافي هو علامة التعدد والاختلاف اللذين يصنعان الحياة. وفي غيابه يكون المجال مفتوحا للغة أخرى لسنا في حاجة للاستدلال عليها في هذه المنطقة التي ننتمي إليها». قبل أن يستحضر السجالات التي ميزت مغرب الستينات والسبعينات، فيقول: «في المغرب، كلنا نتذكر فترة، وإن كنت من جيل لم يعشها، كانت فيها الساحة الثقافية تشتعل بسجالات كبيرة عنيفة أحيانا بين (الفرقاء) الثقافيين. كان ذلك خلال سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لماذا الفرقاء ولماذا العنف؟ ببساطة لأن المغرب كان يعرف في تلك الفترة صراعا مزدوجا بين تيارات سياسية معينة وبين السلطة التي كانت تحاول إرساء جذورها وتكريس هيمنتها من جهة، ومن جهة أخرى بين التيارات السياسية نفسها بالنظر إلى تباين مرجعياتها الآيديولوجية. في خضم هذا الصراع كان المثقف فاعلا أساسيا. بمعنى آخر، كان من الصعب ترسيم الحدود بين السياسي والثقافي، وبشكل أدق، ربما كان السجال ثقافيا في الظاهر ولكن خلفيته كانت سياسية وآيديولوجية، ومن هنا الحدة والعنف التي ميزت تلك النقاشات».
يرى الموساوي أنه «بالرغم مما يمكن أن ينسب لتلك الفترة من سلبيات ومن مآسٍ، وبالرغم مما أوقعته من ضحايا سواء للموت أو للاعتقال، فإن لها علينا أن نعترف لها وللفاعلين فيها بأن ما يعرفه المغرب حاليا من انفتاح يعود الفضل فيه لهم ولسجالاتهم ونضالهم».
يقارن الموساوي بين الأمس واليوم، فيبدي أسفه على الوضع الراهن، فيقول: «للأسف، حاليا، ومع ما ذكرته من انفتاح، قد نختلف على قدره، فإن الأمور تغيرت. تغير منظور السلطة للأمور، وتغيرت أشياء كثيرة مما يساهم في تكوين المثقف وأصبح هذا الأخير متحررا بقدر أكبر من عباءة السياسة، وإن كان يمارسها بشكل غير نظامي (خارج الأحزاب والنقابات)، وهنا يمكن طرح أسئلة من قبيل هل لم يعد المثقف مؤمنا بفكرة ثابتة يدافع عنها؟ أو هل تخلت السياسة عن استقطاب المثقفين الذين هم أصل السجال كما سبقت الإشارة؟ أو هل باتت الثقافة والاشتغال بها مجرد طريق إلى أشياء أخرى؟ في هذا الإطار من الصعب الجزم بأن المثقف يشتغل خارج منظومة فكرية يؤمن بها ويصدر عنها».
يشدد الموساوي على أنه يبقى «من غير المستبعد أن يكون رجل السياسة، الذي استخدم بشكل ما المثقف في الماضي، قد زهد في استقطاب مثقفين حتى يخلو له الجو ويتخلص من أي إزعاج محتمل. إن انعكاس هذا التغييب أو الغياب واضح على مشهدنا السياسي من حيث انحطاط الخطاب، ومن حيث عدم قدرته على إنتاج الحلول للقضايا التي تشغل الرأي العام في مختلف المجالات. على الأقل كان المثقف في الماضي صاحب اقتراحات فيما يتعلق بتصور نوع المجتمع الذي ينبغي بناؤه».
يؤكد الموساوي على حقيقة أن «الكثير من المثقفين تصالحوا مع السلطة التي كانوا أعداءها بالأمس وهناك من يؤاخذهم على ذلك، وأنهم تخلوا عن قناعاتهم، ومن الممكن اعتبار هذا نوعا من السجال لكنه لا يرقى إلى حدة سجالات العقود الماضية». لذلك يرى الموساوي أنه «لا يمكننا حاليا أن نتغاضى عن وجود سجال يتخذ شكل صراع عنيف حول القيم التي ينبغي أن تسود بين منظومتين فكريتين ثقافيتين مختلفتين. هذا السجال موجود بشكل يومي في الجرائد وفي مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية عموما». ويعتقد الموساوي أن «هذا السجال المكتوب والمسموع ضروري للحفاظ على سلامة المجتمع لأن الانتصار فيه رهين للقدرة على إقناع الناس بأفكار معينة أو بنقيضها، ومن الأفضل لهذا السجال أن يبقى ويتطور لأن في غيابه أو في عدم احترامه لقيم التعدد والاختلاف خطرَ أن يشرع الباب لسجال من نوع آخر لا أحد يريده، والأمثلة حوله لا تخفى».
وما بين الأمس واليوم، يكاد يتفق المتتبعون للمشهد الثقافي المغربي على أن الشعر يبقى أكثر الساحات التي شهدت صراعًا بين المثقفين، أفرادًا أو أجيالاً شعرية، حيث تبقى الصراعات، المعلنة والمضمرة، بين من ينتصرون لهذا الجيل أو ذاك، أبرز ما ميز مسيرة الشعر المغربي المعاصر. وهي صراعات وصلت، في كثير من الأحيان، حد التبرؤ من الآخر، السابق أو اللاحق، لكن من دون أن يفتقد، حسب عدد من المتتبعين، خصائص الندية والاحترام، والتسلح بالتراكمات والمناهج العلمية وأخلاقيات الحوار الحضاري واللغة الراقية.
ويبقى الصراع الذي جمع الشاعرين أحمد المجاطي ومحمد بنيس من أبرز السجالات التي يحتفظ بها المشهد المغربي خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ويذهب الناقد نجيب العوفي، في تبرير هذا الصراع، الذي جمع بين المجاطي وبنيس، إلى أن الأول لم يكن مرتاحًا إلى شعر وأدب الثاني ولا كان راضيًا عليه، ولذلك «كان (أي المجاطي) دائم الانتقاد له (أي لمحمد بنيس) والغمز من قناته، في جلساته وحواراته ومحاضراته».
ولم يملك العوفي إلا أن يتأسف لطبيعة هذا الصراع، الذي جمع المجاطي وبنيس، وهو الصراع الذي كان، حسب رأيه: «كتيمًا وكواليسيًا وجامعيًا، ولم يتسن له أن يرقى إلى مستوى المعارك الأدبية المكتوبة والموثقة».
ومن المؤكد أن هذا الصراع، المبني على خلاف واختلاف في الرؤية الشعرية، بين أفراد وأجيال التجربة الشعرية المعاصرة في المغرب، كان حافزًا لمزيد من العطاء، وعنوانًا لنوع من الحراك الإيجابي، على مستوى الممارسة الشعرية، بشكل عام، سوى أنه خف، أو توقف، كما لم يكتب له أن يكون في مستوى الخصومات النقدية التي ميزت (وأغنت) الشعرية العربية، قديمها وحديثها. ومن ذلك أن يكتب الشاعر ياسين عدنان، تحت عنوان «الشعراء في المغرب ليسوا أكثر من شائعات»، مستعيدًا، ما عاشه هو وأصدقاؤه من جيل التسعينات في المغرب، خاصة في «الغارة الشعرية»، في علاقة بما سبق تجربتهم من شعر ومن أجيال، قبل أن يتوقف عند حاضر الممارسة الشعرية ومكانة الشعر والشعراء في مجتمعهم: «كنا نتصور أنفسنا بديلا عن كل ما كتبه المغاربة، منذ ابن زنباع حتى محمد بنيس. اليوم، ربما بدأت الأمور تتغير. اكتشفتُ شخصيًا أننا خاصمنا الكثير من التجارب الشعرية قبل أن نقرأها ونتمثل، بعمق، أهمية منجزها الشعري»، قبل أن يتابع: «اليوم، صرت أكثر تواضعًا، كما أن أوهامي قلَّتْ. وحينما يتعلق الأمر بالشعر، خصوصا، أحس كما لو أن الحديث عن (السائد) مجرد كلام مقاه. الشعر لم يسُد قط في هذا البلد.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!