لم يتفاجأ المتتبعون لمسار ومساهمات الباحث والناقد المغربي سعيد يقطين، بفوزه بـ«جائزة الشيخ زايد للكتاب»، في صنف «الفنون والدراسات النقدية»، عن مؤلفه «الفكر الأدبي العربي.. البنيات والأنساق»، هو الذي يحسب له انخراطه، منذ أكثر من ثلاثة عقود، في مشروع علمي، يسعى إلى جعل الأدب يتأسس على خلفية علمية، من خلال اقتراح أفق جديد للتفكير في الأدب، يتماشى ومتطلبات العصر المعرفي: مشروع جاد يجد صداه في تشديد القائمين على «جائزة الشيخ زايد» على أن كتاب «الفكر الأدبي العربي» قد انشغل بـ«تأسيس مفهوم الفكر الأدبي العربي الذي يجمع بين التنظير والتطبيق»، كما أنه «يتميز بالجدّة في الموضوع والدّقة في التناول، إضافة إلى الانضباط المنهجي وشمولية العرض والتحليل وتنوع طرائق الباحث في التعامل مع مادته النقدية، فضلاً عن تنوع المصادر والمراجع بين اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية وحسن استخدامها وتوظيفها بمستويات مختلفة من التوظيف».
منذ بداية كتابه، يضعنا يقطين في صلب مشروعه، واضح المعالم، مشيرًا إلى أن لمضمون ما سيأتي من أفكار علاقة بما سبق أن تناوله في كتب سابقة، هو الذي احتفظ، في كتابه الجديد، بالنبرة المحذرة نفسها، المنبهة والحاثة على الأخذ بأسباب التغيير والتطور، في النظرة وفي الممارسة، فيما تؤكد استعادة مضامين الكتب السابقة، كيف أن المؤلَّف الجديد هو تركيب لمشروع صاحبه، وأنه يأتي ليكون دعمًا لهذا المشروع، وتأكيد أهميته في صيرورة الدراسات الأدبية الغربية والعربية، ومحاولة لإبراز أن الدراسة العلمية للأدب هي الرهان الحقيقي لبلورة ما يسميه: الفكر الأدبي، بشكل يجعل من الكتاب محاولة لإنجاز قراءة تركيبية ونقدية للدراسة الأدبية في العصر الحديث من القرن التاسع عشر إلى الآن، واستشراف ما ينبغي أن تكون عليه في المستقبل.
إشكالية الكتاب
يركز الكتاب على إشكالية رئيسية، بغية الوقوف على هذا المنعطف الأدبي الجديد، لفهمه في سياق التحولات الكبرى التي شهدها العصر الجديد، ومن خلال ذلك إعادة صياغة التصور بخصوص الأدب منذ عصر النهضة إلى الآن، سواء في الآداب الغربية أو آثارها على الفكر الأدبي العربي، حتى تكون لنا «رؤية تاريخية للتطور نفهم بمقتضاها كيف تطورت الأفكار الأدبية (عالميا) ومدى انعكاسها على تصورنا للأدب وآليات تفكيرنا فيه، لتصحيح المسار، وتغيير الرؤية، واستشراف آفاق جديدة للمستقبل».
لا يوفر الكاتب فرصة انتقاد واقع الدراسة الأدبية في العالم العربي، خصوصا عندما يشير إلى أننا «بدل أن ننظر إلى واقع التحول الذي بدأ يتم على الصعيد العالمي، ونفهمه في ضوء التطور الذي مس البشرية، صرنا نركز على الظواهر السطحية، وننظر لها سياسيًا على أنها نتاج (العولمة)».
ينتهي يقطين إلى أنه، من دون الانطلاق من تصور صحيح في فهم الأدب «لا يمكن لتاريخ فكرنا الأدبي الحديث إلا أن يظل قائمًا على الانقطاع، وفي كل حقبة أدبية جديدة نجدنا ننتقل من دون تصور محكم أو موقف مضبوط، فيظل فكرنا الأدبي قاصرًا، على المستوى الأكاديمي والجامعي والمدرسي والإعلامي والحياتي، وبذلك يقصر الأدب عن لعب الدور الأساس في الحياة العربية لأننا لم نجذر فهمنا له في سياقاته المختلفة وتطوراته المتباينة».
يحمل يقطين هم الممارسة الأدبية في العالم العربي، هو الذي يعبر، في كل كتاباته، عن «قلق ثقافي وفكري وهمّ اجتماعي، للارتقاء بالإنسان العربي وإنتاجاته إلى مستوى أعلى». لذلك لا تخلو كتاباته من تحذير، يروم شحذ الهمم والتنبيه إلى مكامن الخلل لتجاوز الأعطاب والنقائص في طرق البحث والتفكير، حيث تتكرر في كتابه الجديد كلمات «سحرية»، يقوم عليها الموقف وتبنى عليها التحليلات وترسم بها الأهداف التي سطرها الكاتب لمشروعه، تركز، في جانب منها، على «ضرورة دخول العصر»، حيث ينتهي، من رصد متطلبات التوجه نحو آفاق جديدة للفكر الأدبي، إلى «الإقرار بأن التفكير في واقع الأدب ودراسته لا يمكن أن يتحقق على النحو الملائم من دون وضعه في نطاق العصر المعرفي الذي نعيش فيه. وأن أي نقاش خارج هذا النطاق سيظل يدور حول إشكالات لا يمكنها أن تفتح لنا منافذ لمعاينة المستقبل».
وإذ إنه لا يمكن، حين لا تتم الاستفادة من أعطاب التجارب السابقة، ولا يتم تجديد أدوات التفكير، إلا أن تتوالى الأعطاب وتتناسل الأخطاء، فإننا سنكون مع يقطين وهو يقترح رؤيته، التي تروم تصحيح المسار وتغيير الرؤية واستشراف آفاق جديدة للمستقبل، على أساس «المقايسة بين دخولنا العصر في بدايات القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين»، ملاحظًا أن القرن التاسع عشر كان «بداية عصر معرفي جديد»، غير أننا «لم ندخل هذا العصر لأسباب تاريخية معقدة»، لذلك سيدعو إلى «عدم تكرار التجربة»، بـ«التفكير في العصر الجديد عن طريق إعادة التفكير في تاريخنا الحديث، بموازاة مع إعادة قراءة تاريخ الغرب الحديث أيضًا، لكي نتمكن من دخول هذا العصر، وقد تركنا وراءنا تاريخًا حديثًا لم يقد إلا إلى الطريق المسدود».
وإذ إنه «لا يمكننا دخول العصر من دون التفاعل الإيجابي والنقدي مع ما يعتمل فيه»، فإننا نكون مع يقطين وهو يشدد على أننا «مطالبون بمراجعة كل ما قيل، لانتهاج سبيل مغايرة في النظر والعمل»، وذلك بانتهاج مدخل التطوير، وتحويل الكم إلى نوع، ومواكبة ما يفرضه علينا السياق المعرفي بجرأة وإبداعية. لذلك نقرأ له، في نهاية تركيب خلاصات الكتاب الجديد، أن «التفكير في الأدب، بهدف تحليله أو تأويله، ليس إنشاءات مدبجة بأسلوب يعتمد الصنعة، ولا رؤى آيديولوجية جاهزة لدحر (الآخر) وكسب (النصير)، ولكنه رؤية معرفية أصيلة بالإنسان والإبداع والحياة».
النهضة الجديدة
لا يتردد يقطين في التعبير عن عدم ارتياحه لأوضاع الفكر الأدبي العربي، الذي لا يتطور ولا يراكم تجارب قابلة للتحول، لذلك نجده ينتقد هذا البحث عن اجتهادات الآخرين من أجل تعريبها ونقلها إلى الفضاء الثقافي العربي، الشيء الذي يفسر «لماذا لا تجد لها مصداقية في التحليل ولا في التأويل». لذلك يبدو الكاتب ملحًا في تعزيز العلم في دراسة الأدب، بناء على أسئلة محددة، وانطلاقًا من مقاصد ملموسة، قبل أن يشدد على أن استعمال مفهوم «الفكر الأدبي» سيجعلنا نعيد قراءتنا للأدب وللتصورات المتشكلة عنه في مختلف العصور، ويجعلنا نعمل على منحه خصوصيته في علاقته بمختلف أصناف التفكير القريبة والبعيدة.
يعطي يقطين للتفكير في «الأدبي» بُعدَه المؤسس على خلفيات معرفية محددة، بشكل يمكنه من «أن يقيم علاقة جديدة مع مختلف العلوم، بشكل يوفر له الإجراءات والآليات التي تمكنه من أن يكون فكرًا له إطاراته النظرية والمعرفية، ولا يبقى خاضعًا أو تابعًا لمختلف أصناف التفكير المعاصرة، وعالة عليها».
وإذ إن الأمر يتعلق بأسئلة الفكر الأدبي العربي، فإن يقطين سيدعو إلى تجاوز «أعطاب» الفكر العربي، عبر «تجاوز الحديث المطمئن إلى الذات» و«تجاوز اجترار المحاضرات الجاهزة»، وتأسيس الفكر الأدبي على قاعدة البحث والقلق المعرفي بـ«اعتماد أدوات الفكر العلمي ومناهجه وأسئلته، بهدف الانتقال من جمع المعلومات ومراكمتها وتنظيمها، إلى إنتاج المعرفة الأدبية التي تسهم في تطوير إدراكاتنا بأحد أهم إنجازات الإنسان: الإبداع الأدبي والفني».
دعوة للتفكير في الأدب من وجهة نظر إنتاج المعرفة
«الفكر الأدبي العربي» لسعيد يقطين فاز بـ«جائزة الشيخ زايد للكتاب»
دعوة للتفكير في الأدب من وجهة نظر إنتاج المعرفة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة