هاجسان مصريان.. الإرهاب والسياحة

انتشال صندوقي طائرة «إيرباص» الأسودين يحسم «الفرضيات المعلَّقة»

هاجسان مصريان.. الإرهاب والسياحة
TT

هاجسان مصريان.. الإرهاب والسياحة

هاجسان مصريان.. الإرهاب والسياحة

أخيرًا، تمكنت فرق البحث، يومي أول من أمس، وأمس، من انتشال الصندوقين الأسودين العائدين لطائرة «الإيرباص» المصرية التي هوت بركابها في البحر المتوسط. ومن من شأن تحليل المعلومات التي يحتويها الصندوقان إماطة اللثام عن الغموض وراء الحادث الذي أدى لمقتل كل من كانوا على متنها وعددهم 66 شخصًا.
جدير بالذكر، أن العالم شهد خلال الأعوام الأخيرة حوادث غامضة لطائرات تحطمت أو اختفت بمن عليها مثل الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء، وقبلها الطائرة الماليزية في مكان ما في آسيا، ومع ذلك لم يتوقف الناس عن السفر حول العالم بهذه الوسيلة التي قرَّبت المسافات بين أركان الدنيا. إلا أن حادث «الإيرباص» المصرية يثير هاجسين مترابطين في مصر، هما: الإرهاب والسياحة. وللعلم، عثر الجيش المصري على بعض أشلاء ومتعلقات الركاب وأجزاء من حطام الطائرة في مياه البحر المتوسط، على بعد نحو 290 كيلومترًا شمال مدينة الإسكندرية الساحلية، وكانت رحلة «مصر للطيران» رقم 804 متوجهة من باريس إلى مطار القاهرة، إلا أن الطائرة اختفت من على شاشات الرادار في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، قرب اليونان، وعلى متنها 66 شخصًا، بينهم 30 مصريًا و15 فرنسيًا، والباقون من 10 جنسيات أخرى.
ولقد نفى صفوت مسلم، رئيس شركة «مصر للطيران»، على هامش الاجتماع السنوي للاتحاد الدولي للنقل الجوي «أياتا» المنعقد أخيرًا في العاصمة الآيرلندية دبلن، صحة تقارير إعلامية عن إرسال الطائرة التي سقطت في البحر المتوسط الشهر الماضي سلسلة تحذيرات فنية أثناء رحلات قامت بها خلال 24 ساعة قبل اختفائها من على شاشات الرادار، وأضاف أن الطائرة لم تواجه أي مشكلات تتعلق بالصيانة قبل مغادرتها، وأنها كانت «طبيعية.. ونحن نثق تمامًا بالطائرة والطيار».

سقوط عدة طائرات ركاب بـ«فرضيّات مُعلَّقة»، ومن دون نتيجة قاطعة خلال السنوات الأخيرة، لم يمنع الناس من السفر حول العالم بهذه الوسيلة التي دخلت الخدمة لأول مرة، كطيران تجاري، عام 1914، وقرَّبت منذ ذلك الوقت المسافات بين أركان الدنيا. بل ومن المتوقع أن ترتفع حركة السفر بالطيران من 3.5 مليار مسافر سنويا في العالم، إلى 3.8 مليار. كذلك توجد خطط للتطوير حفاظًا على أرواح الركاب ومن أجل التغلب على الاختفاء المفاجئ للطائرات يرجّح أن تدخل الخدمة قريبًا. لكن تداعيات حادث طائرة «الإيرباص إيه 320» المصرية، التي هوت بمن فيها من ارتفاع 37 ألف قدم في البحر المتوسط - كما يرى البعض - يبدو أنها تسير في طريق مختلف، ويطغى عليها هاجسان، هما: الإرهاب ومستقبل السياحة التي يهددها الإرهاب، لا سيما مع اتجاه كثرة من المعلّقين نحو الجزم بوجود «مؤامرة» تهدف إلى ضرب ما تبقى من السياحة، أحد أهم مصادر الدخل القومي في مصر.

قطاع السياحة
الواقع أنه فيما يخصّ عالم الطيران والمطارات، من آسيا إلى أميركا مرورًا بأوروبا، تمكّنت كثير من الدول، من تجاوز الأزمة، ومنع الحوادث العارضة من عرقلة حركة السفر والسياحة والاستثمار، بل إن دولاً خاضت تجارب مريرة مع كوارث الطيران، وتمكّنت مع ذلك من مداواة الجراح سريعًا والعودة أكثر قوة من السابق.
وعلى سبيل المثال، يشير اللواء نصر سالم، رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق بالقوات المسلحة المصرية وأستاذ العلوم الاستراتيجية بأكاديمية ناصر العسكرية، لـ«الشرق الوسط» في حوار معه إلى أنه «رغم تعدّد الفرضيات وغياب الأسباب حتى الآن وراء اختفاء طائرة (بوينغ 777) التابعة للخطوط الجوية الماليزية في مارس (آذار) عام 2014، فإن الملاحظ أن حركة السياحة والسفر إلى ماليزيا ازدادت أخيرا عما كانت عليه قبل الحادثة، التي راح ضحيتها 239 من ركاب الطائرة وطاقمها». ويضيف: «لقد تعامل الماليزيون مع كارثة اختفاء الطائرة التي كانت متجهة من كوالالمبور إلى بكين، بطريقة صحيحة، ولم يسيروا في الطريق الخطأ. ولذا ازداد عدد السياح في بلادهم، بينما يبدو أننا في مصر لدينا خوف من تجاوز مثل هذه الأزمات». إلا أنه يشير إلى أن قطاعًا من المصريين أصبح يدرك هذه الحقيقة ويعمل، في المقابل، على تخطي المشكلة. وجرى إطلاق حملة تدعو لـ«السفر على شركة (مصر للطيران)»، في رد يستهدف: «إعادة الثقة بالنفس أمام بعض المشككين».
ومن جانب آخر، لا ينفي اللواء جاد الكريم نصر، رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية للمطارات السابق، في رده على أسئلة «الشرق الأوسط»، بشأن هذه القضية، تأثير حوادث الطيران الأخيرة التي وقعت في مصر على قطاع السياحة الذي يعاني أصلاً من مصاعب منذ عام 2011. وهو يقول إن السياحة تأثَّرت سلبيًا بالفعل عقب سقوط الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بيد أنه أعرب عن اعتقاده بأن الحادث الأخير الخاص بسقوط طائرة «مصر للطيران» في البحر المتوسط، لن يؤثر على قطاع السياحة كثيرًا، على عكس ما جرى مع الطائرة الروسية.. «لا سيما إذا ظهر من التحقيقات أن السبب وراء حادث الطائرة المصرية عملية إرهابية، لأن هذا سيؤكد أن مصر لا علاقة لها بالموضوع، كون الطائرة أقلعت من مطار شارل ديغول في باريس».

خطر الإرهاب
في المقابل، يقول الدكتور خالد رفعت صالح، رئيس مركز طيبة للأبحاث السياسية في العاصمة المصرية، إن «حالة مصر تختلف عن ماليزيا فيما يتعلق بالحادثتين محل المقارنة». ويفسّر لـ«الشرق الأوسط» أن مصر «في حالة حرب (مع الإرهاب)، بعكس دولة ماليزيا»، ويرى أن الطائرة المصرية سقطت في البحر المتوسط «عن طريق عمل إرهابي»، بينما سقطت الطائرة الماليزية «قضاء وقدرًا»، وهذا، في حين تواصل اللجنة المصرية، المُشكَّلة للتحقيق في أسباب سقوط الطائرة، عملها، وهي تضم محققين فرنسيين وخبيرًا من شركة «إيرباص».
في هذه الأثناء يأمل كثرة من المراقبين أن تصل اللجنة إلى نتيجة سريعًا، منهم رجل الأعمال مسعد عبد الله، صاحب شركة سياحية في القاهرة، الذي يقول: «لا نريد للتحقيقات أن تتأخر كما حدث في قضية انفجار الطائرة الروسية فوق سيناء». ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أنه «كلما تأخر الكشف عن الحقيقة خاف الناس من القدوم إلينا. ونحن لا نريد أن نفقد ما تبقى من سياح». وينهي عبد الله، الذي يعدّ العدة لزيارة ألمانيا للترويج للسياحة في مصر، كلامه بثقة: «ما زال ملايين الزوَّار يتنقلون بالطائرات عبر مدن العالم. هذا لن يتوقف، ونحن نريد نصيبنا من السياح».

الإرهاب.. وداعش
معلوم أن الطائرة التابعة للخطوط الروسية «متروجيت»، وهي من نوع «إيرباص إيه 321» كانت قد أقلعت من منتجع شرم الشيخ السياحي بشبه جزيرة سيناء متوجهة إلى بطرسبورغ (لينينغراد سابقًا) في روسيا، إلا أنها انفجرت في الجو فوق شبه الجزيرة حيث ينشط تنظيم داعش الإرهابي المتطرّف، وقُتل كل من كان على الطائرة، وعددهم 224. وعلى الفور انتشر على نطاق واسع في مصر، وقتذاك، الاعتقاد بوجود مؤامرات خارجية تستهدف ضرب السياحة والاقتصاد وإضعاف حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي. وجاء ذلك بسبب تعجّل بعض الحكومات الأجنبية في إعادة رعاياها من السياح الذين كانوا يمضون إجازاتهم في مصر.
وفيما بعد تبنّى «داعش» المسؤولية عن تفجير الطائرة الروسية، وأشاع متطرّفون أن استهداف الطائرة جاء للانتقام من العمليات العسكرية التي تقوم بها روسيا في سوريا. ورغم مرور أكثر من أسبوع على سقوط الطائرة المصرية فوق البحر المتوسط، لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الحادث، مع تزايد نظريات وفرضيّات تخصّ الواقعة، ويشير بعضها إلى «عملية إرهابية». فالرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، على سبيل المثال، لم يستبعد ذلك، وقال في كلمة تلفزيونية عقب الحادث إنه لا يمكن استبعاد أو ترجيح أي فرضية، بما فيها «فرضية عمل إرهابي».
مع ذلك التزمت معظم الحكومات الحذر من مغبّة القفز إلى استنتاجات سابقة لأوانها. وقال دونالد ترامب المرشح عن الحزب الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية على صفحته على موقع «تويتر»، إن سقوط الطائرة المصرية «بدا هجومًا إرهابيًا جديدًا»، بينما علّقت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة المرشحة عن الحزب الديمقراطي، بالقول إن هذا العمل يبدو إرهابيًا، لكنها أضافت مستدركة أن التحقيق سيكشف ملابسات الحادث.
ومن جانبه هوَّن آدم شيف زعيم الديمقراطيين في لجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأميركي من تعليقات شخصيات أميركية، مثل ترامب وكلينتون، تشير لاحتمال أن يكون الحادث عملاً إرهابيًا، وفقًا لما ذكره لشبكة «سي إن إن» الإخبارية. ومع ذلك، أشار شيف إلى أن الأحداث الأخيرة تشير إلى الإرهاب «في ظل ما حدث للطائرة الروسية في شرم الشيخ، وفي ظل ما نراه من رغبة لا تزال قوية، ليس فقط لدى (داعش)، ولكن الآن لدى تنظيم القاعدة، الذي لا يزال لديه إصرار شديد على إسقاط الطائرات».
ومعلوم أن كلاً من فرنسا ومصر من الدول التي تشن حربًا بلا هوادة ضد الجماعات المتطرفة، خصوصًا مع حلول عام 2013. وكانت فرنسا قد شاركت في عمليات ضد جماعات متشددة في شمال مالي، وهي تعمل كذلك مع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية ضد «داعش» في العراق وسوريا، بينما ينفِّذ الجيش المصري حملة شاملة للقضاء على الجماعات المسلحة في شبه جزيرة سيناء. وفي المقابل، وجَّه «داعش» ضربات في قلب باريس، كما ردّ المتطرّفون في مصر بعمليات انتقامية وصل بعضها إلى داخل القاهرة.

مصر مُستهدَفة
وبينما رجّح رئيس الوزراء المصري، شريف إسماعيل، أن يكون الحادث «نجم عن هجوم إرهابي وليس نتيجة عطل فني»، يرى خبير الملاحة الجوية جيرالد فيلدزر، في تصريحات له أن «كلا من فرنسا ومصر هدف للتنظيمات المتطرفة»، لكنه يذكّر بأنه بشكل عام بأنه يجري تبني هذا النوع من الاعتداءات.. «وإذا كان هذا أحدها فسنعلم ذلك سريعًا». وينظر فيلدزر إلى احتمال وقوع مشكلة تقنية كبرى في الطائرة على أنه «احتمال ضئيل»، خصوصًا أن الطائرة «تُعدّ حديثة نسبيًا، إذ صُنعت عام 2003 وطرازها جدير بالثقة». وهنا يضيف مسؤول في شركة «مصر للطيران» أن الطيار أيضًا يتميز بخبرة كبيرة.
ثم بين النظريّات التي تداولها البعض احتمال تعرّض الطائرة المنكوبة للقصف بصاروخ، كما جرى لطائرة ماليزية أخرى كانت تحلق في أجواء أوكرانيا في يوليو (تموز) عام 2014. وهنا يشرح رئيس مركز طيبة للأبحاث السياسية، أن الطائرة المصرية، قبل دقيقة من اختفائها «كانت تتحدث مع برج المراقبة لكنها فجأة سقطت دون أي استغاثة، بينما كانت هناك مناورات عسكرية لدول في البحر المتوسط، في اليوم نفسه والمكان نفسه». ويتابع: «هناك ظواهر تقول إن الحادث ليس طبيعيًا». لكن فيلدزر يرد بالقول إن شمال مصر القريب من سواحل إسرائيل وقطاع غزة «يشكل المنطقة الأكثر مراقبة في العالم، بما في ذلك بالأقمار الصناعية. وبالتالي، بات إخفاء هذا النوع من المعلومات أصعب بكثير».
على صعيد ثانٍ، أعاد سقوط طائرة الرحلة 804 إلى الأذهان عدة حوادث مأساوية للطيران عبر العالم، يرجع تاريخ بعضها إلى عقود مضت. لكن أشهرها - بما يخصّ الطيران المدني المصري - الرحلة 990 لطائرة مصرية من طراز «بوينغ» سقطت في المحيط الأطلسي عام 1999 عقب إقلاعها من مطار نيويورك، مما أدى إلى مقتل جميع من كان عليها، وعددهم 217 شخصًا. وعن ذلك يشير اللواء نصر سالم، إلى أن المنطقة التي سقطت فيها الطائرة المصرية عام 1999 سقطت فيها أيضًا، وفي الشهر نفسه من ذلك العام، طائرة خاصة تابعة لأحد الأطراف من عائلة آل كيندي الأميركية. وبعد ذلك بشهر آخر، وقعت حادثة مماثلة.. «سقطت ثلاث طائرات في وقت متقارب، ولم يعرف السبب، ولم يتغيّر أي شيء». ويوضح سالم قائلا إن هذا المثال «ينطبق أيضًا على حالة الطائرة الماليزية (بوينغ 777)، المختفية حتى الآن، ولا أحد يعرف عنها شيئًا». ومن ثم فهو يرفض استباق الأحداث، ويتحفظ «على جري وسائل الإعلام وراء فرضيّات، ربما ليست صحيحة بشأن السبب وراء حادث سقوط الطائرة في البحر المتوسط». ويستطرد: «السبق الصحافي يمكن أن يكون سلاحًا ذا حدين. بثُّ معلومات خطأ يؤدي لنتائج كارثية. وبشكل عام ينبغي التعامل مع كل الاحتمالات، وليس التركيز على احتمال واحد فقط. وعمومًا، لا يمكن أن نحسم الأمر إلا بعد ظهور المعلومات في الصندوق الأسود».

رد فعل سياحي
في هذه الأثناء، في مكان تجمّع أطقم لمضيفات الطائرات، قرب صالة الدخول رقم 3 في مطار القاهرة الدولي، تقف عدة فتيات مرتديات الأطقم الزاهية الموحّدة، وبجوار كل منهن حقيبة تضم متعلقاتها الشخصية تأهبًا للسفر، بحكم طبيعة عملهن، إلى أماكن مختلفة حول العالم.
إحدى المضيفات قالت لنا وهي تبتسم: «لكل أجل كتاب. الموت يأتي في أي وقت. سواءً كنت على طائرة أو على فراش غرفة نومك. أنا أومن بهذا، وأعتقد أن جميع الناس لديهم الاعتقاد نفسه، سواء كان الشخص مؤمنًا أو حتى لو كان بلا ديانة. ولهذا الحركة لن تتوقف في كل مكان».
وبمثل هذه الروح المتحدية يتحدث كثيرٌ من المصريين، على عكس «القطاع المحبَط». وهنا يقول اللواء سالم إنه يتمنى أن يقوم المسؤولون بعمل حملة تسويقية صحيحة للتغلب على حادث الطائرة الأخير، موضحًا أن وزير السياحة المصري كان قد أعلن، فور توليه منصبه في مارس الماضي، أنه يستهدف زيارة عشرة ملايين سائح إلى مصر خلال ستة أشهر، ويضيف: «أنا أتمنى، ونحن في هذه الظروف، كمصريين، أن يكون العدد المستهدف أكثر من عشرة ملايين، كرد فعل على الحادث. العالم يقول إن جيناتنا جينات تحدٍ، لكن للأسف في الفترة الأخيرة ظهر بعض من يشككون، وأرجو أن نتخطاهم».
ووزير السياحة المصري نفسه، محمد يحيى راشد، شدّد خلال اجتماع لجنة السياحة والطيران في مجلس النواب خلال مايو (أيار) الماضي، على أن وزارته لن تقف أمام حادث الطائرة الأخير، ولن تسمح للأصوات المعادية بأن تعكّر خطتها للنهوض بالسياحة، بل ستعمل على تحسين الصورة الذهنية عن مصر في الخارج، إلا أنه أقرَّ بأن أزمة الطائرة المنكوبة جعلت وزارته تدخل تعديلات طفيفة على خطة تنشيط السياحة، منها التركيز على «مواساة أهالي الضحايا».
ختامًا، يبقى الإشارة إلى أن النيابة العامة المصرية أمرت بتسليم الصندوق الأول الذي جرى انتشاله يوم أول من أمس للجنة التحقيق الفني لتحليله واتخاذ إجراءات فحص وتفريغ المحادثات، ويتوقع اعتماد خطوة مشابهة إزاء الصندوق الثاني. وفي حين تنفست الأوساط المتصلة بالتحقيق في الحادث الصعداء بعد انتشال الصندوقين الأسودين، يأمل كثير من المراقبين أن تتوصل اللجنة إلى نتيجة سريعًا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.