نظّمت جمعية التشكيليين العراقيين في المملكة المتحدة معرضها الثاني لفن التصوير المفهومي Conceptual art في قاعة Greenside بلندن، وقد شارك في هذا المعرض عشرة فنانين من بلدان مختلفة، هي العراق وسوريا والمملكة المتحدة. وقد تنوعت موضوعات الصور المفهومية لتنقل للمتلقين أفكار الفنانين ووجهات نظرهم التي اجترحوها في هذه الأعمال الفنية العشرة، التي تعتمد على المضمون ولا تراهن على الشكل ومعطياته البصرية المعروفة. ولعل أقرب الأمثلة التي تجسّد الفن المفهومي هو عمل «واحد وثلاثة مقاعد» للفنان الأميركي جوزيف كوسوث، الذي يتألف من كرسي خشبي، وصورة فوتوغرافية لهذا الكرسي، والتعريف اللغوي الذي قدّمه لنا بصيغة مكبّرة مقروءة ليضعنا نحن المتلقين أمام سؤال لا نُحسد عليه في معرفة مفهوم الكرسي الحقيقي: هل هو الكرسي الخشبي الذي وضعه كوسوث في الصالة، أم هو الكرسي المُصوَّر، أم تعريفه المقتبس من أحد المعاجم الإنجليزية؟
لا يلتقط الفنان المفهومي صورته مباشرة، سواء من الطبيعة أو من «الفيكَرات» الحيّة أو الجامدة، وإنما يجب أن ينهمك في الفكرة، ويشتغل على المضمون لمدة زمنية كافية تؤهله لاجتراح ثيمة يفهم القارئ رسالتها الملموسة، وربما تكون صورة «التفكيكية» للمصور حسين السكافي هي أقرب نموذج للصورة المفهومية المُعبِّرة. تتألف هذه الصورة من ثلاثة عناصر لا غير، وهي كتاب «التاريخ والوعي الطبقي» الذي يشكِّل خلفية لهذا العمل، وهو من تأليف الفيلسوف المجري جورج لوكاش، وترجمة الدكتور حنّا الشاعر، وثمة مفك براغي screwdriver على يمين الغلاف، ومفتاح براغي قابل للتكييف adjustable Spanner على يساره. وكلتا الآلتين «المفكّ والمفتاح» تستعمل للتفكيك «والتركيب أيضا»، ولكن السكافي يريد أن يُحيلنا إلى أهمية العنصر التفكيكي في قراءة الكتب الفكرية والفسلفية والدينية خاصة؛ كي نتفادى خطل التأويل وخطورته في الوقت نفسه. فالعقل التفكيكي الرصين يقابله في نهاية الأمر العقل التأويلي الذي قد يفضي بصاحبه إلى ما لا تُحمد عقباه. إنها دعوة إلى التأمل، وإِعمال الذهن، والقراءة التفكيكية التي تضع الأمور في نصابها الصحيح.
ركّزت المصورة زينب الفكيكي على فكرة «الوجود» على الرغم من الإعاقة التي يعانيها الشخص الجالس على كرسي المُقْعدِين. ولعل خروجه من مكتبة ما يقطع الشك باليقين بأنه موجود بقوة في أعمق مفاصل الحياة، وهي الثقافة بشكل خاص أو المناخ المعرفي بشكلٍ عام.
يتمحور العمل المفهومي المعنون «سلّم والإحساس باللانهاية» للمصور البريطاني توبي أندرتون على التناقض البصري، حيث يكرر تصوير المرأة مرات متعددة وبأبعاد مختلفة توحي باللانهاية وهي ترتقي سلّمًا يقودها إلى فضاء شاهق.
أما المصور أثير داود فقد اختار «البرلمان» فكرة لعمله المفهومي، وعلى الرغم من أن المكان يوحي بقبو معتم فإنه يحيل إلى البرلمان العراقي تحديدًا. فالجميع يتحدثون في آنٍ واحد، ولكنهم لا يرون ولا يسمعون شيئا، بينما ظل الكرسي فارغًا في منتصف العمل تحيطه ست شخصيات برلمانية متشابهة في كل شيء تقريبًا. وربما يستدعي هذا الكرسي الفارغ غياب الرئيس، أو خلعه أو موته في أذهان المتلقين.
تتكرر فكرة السلّم في عمل المصورة رشا مؤيد، حيث ترتقي سلّمًا مثبتًا في غابة كثيفة وهي تحاول الإمساك بمقبض مظلة سوداء مرتبطة بعشرات المظلات الأخر المشدودة إلى بعضها بعضًا كي تحلّق في الأعالي بواسطة هذا الكمّ الكبير من المظلات السابحة في الفضاء.
ليس غريبًا أن نصادف صورة «إنسانية» لإبراهيم عماد الباوي في العراق والبلدان العربية كلها. فهناك عدد كبير من الرجال الطاعنين في السن نراهم يدفعون عربات الحمل الثقيلة، وثمة من يُعينهم على دفعها أو إنزالها من رصيف مرتفع إلى أرضية الشارع تمامًا، كما يفعل أحد المارة مع «بطل» هذه الصورة التي تنتقد بشدة حقوق الشيخوخة المنتهَكة في العراق «الجديد!».
شيخ كبير آخر تحاصره الكتب في شارع المتنبي أو في مكان آخر من مدينة بغداد قد يوحي بأقدم بائع كتب على الأرصفة، فهناك من أمضى خمسين أو ستين عامًا وهو يبيع الكتب القديمة إلى القرّاء الذين يتوافدون إلى هذا الشارع أيام الجمع، لكن المصور ناظم دراجي سمّى هذه الصورة «بعض من التفاؤل» الذي يمكن تلمّسه في الكتب التي تحيط به من جميع الجهات أو في العملة الورقية التي يتأملها بين يديه.
لم يوفق علي الكلابي في عمله المعنون «أطفال النزوح» بدءًا من العنوان الذي يشير إلى الجمع، بينما لا نرى سوى طفلة واحدة نظيفة وحسنة الهندام. ربما يعوِّل الكلابي على خلفية الصورة التي تُظهر منزلاً متقوضًا اتخذه النازحون ملاذا لهم، وسكنًا لعوائلهم التي شردتها الحروب الطائفية التي اندلعت بعد سقوط بغداد عام 2003.
العمل المفهومي الأكثر نضجًا من بين الأعمال الفنية القادمة من العراق هو «تصحّر التعليم» للمصور مهنّد حسن. يتكون هذا العمل من شجرة يابسة يحمل غصنها الجاف الأيسر قميصًا أبيضَ وتنّورة سوداء، وخمسة مقاعد خشبية متناثرة في مشهد الصورة، وثمة كتب مدرسية مفتوحة بعضها على المقاعد وبعضها الآخر على الأرض. أما الطلاب فهم غائبون تمامًا ولا أثر لهم إلا في الزي المدرسي الأنثوي المعلق على الفرع الأيسر من الشجرة الجافة.
أما العمل المفهومي الأكثر قوة ودلالة، فهو عمل المصورة السورية دايالا مدّاح الذي ينضوي تحت عنوان «الموت ليس هو الخسارة»، وهو مقتبس من الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط، الذي قال «إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الكبرى هو ما يموت فينا ونحن أحياء»، وقد دفنت المصورة أجزاء كثيرة من جسد «البطل» تحت التراب في إشارة واضحة إلى ما مات في هذا الرجل وهو حي يُرزق.
قد تبدو بعض الصور المفهومية أجمل من غيرها شكلاً، لكن الرهان الفني لا ينعقد على الشكل الذي يأتي بالمرتبة الثانية، وإنما على المضمون المُبهر الذي يهزّ المتلقي، ويستفز حدْسه، ويستنفر قدراته العقلية. فالفن المفهومي هو خروج على الثوابت الكلاسيكية، ومحاولة جدية لتحطيمها بغية الولوج إلى فضاء الفكرة التي تُعمِل العقل، وتُحيّد العاطفة البشرية إلى حدٍ كبير.
ينبغي التذكير بأن بناء الصورة المفهومية يعتمد على اشتراطات محددة، أبرزها التقشف في العناصر المكونة للعمل الفني الذي تتسيّد فيه الثيمة على حساب الشكل. كما أن الفن المفهومي نفسه نابع من التقليلية أو «المنيمالزم» التي تكتفي بالحد الأدنى من العناصر، وتستغني عن الكثير من التفاصيل الزائدة التي قد تثقل كاهل العمل الفني، وتربك لغته البصرية، وتشوّش آلية التلقي عند المشاهدين. فلا غرابة إذن في أن تكون غالبية هذه الصور المفهومية العشر قليلة العناصر، لكنها متينة البناء ولا تخلو من لمسات سريالية هنا وهناك؛ فالفن المفهومي برمته مشتق من حركات فنية معروفة مثل الدادائية، والتعبيرية التجريدية. لقد تألق الفن المفهومي بأسماء فنية مهمة نذكر منها مارسيل دو شامب و«نافورته» التي علقت في الأذهان منذ عام 1917 والرسّام والنحات الأميركي روبرت راوشنبيرغ الذي اشتهر بعمله ذائع الصيت «محو لوحة دي كونينغ»، والفنانة البريطانية ترسي إيمين التي عرضت «سرير نومها» في التيت غاليري ثم اقتناه تشارلز ساعتجي بمائة وخمسين ألف جنيه إسترليني!
رهان على الفكرة واستغناء عن التفاصيل
دعوة إلى التأمل وإِعمال الذهن في معرض الفن المفهومي بلندن
رهان على الفكرة واستغناء عن التفاصيل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة