خلّفت الأزمة المالية العالمية الأخيرة تركة تحديات ضخمة لاقتصادات الدول المتقدمة، خفضت معها أسعار الفائدة البنكية لـ«صفر»، ووصلت بالسالب في دول أخرى، ولجأت أغلب الحكومات إلى برنامج للتيسير الكمي (شراء الأصول) كإجراء سهل لضخ سيولة جديدة في الأسواق؛ كما ارتفعت الديون السيادية على الدول حول العالم، نتيجة ارتفاع العائد على السندات وأذون الخزانة، فضلاً عن القروض التي توسعت فيها معظم الدول، لجذب سيولة جديدة.
وزادت المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي العالمي، وفقًا لهذه المعطيات، كما تراجعت آفاق النمو المتوقعة في الاقتصادات المتقدمة والناشئة أيضًا، نتج عنها أزمة سيولة ضربت بعض الأسواق، انخفضت معها قيمة الأصول إلى مستويات أقل مما يتناسب مع أساسيات الاقتصاد الكلي.
ووصل الاقتصاد العالمي إلى مرحلة التباطؤ، بل والركود في بعض الدول، نتيجة تراكم هذه المؤشرات المخلّفة من الأزمة المالية العالمية، بالإضافة إلى معطيات جديدة مثل تراجع أسعار النفط والسلع الأولية. اللذين تسببا في تراجع معدلات التضخم في بعض الدول بأقل من المستهدف مثل الولايات المتحدة الأميركية ودول منطقة اليورو.
ومع هذه المعطيات المالية السلبية، زادت أعداد الفقراء في العالم، وانخفضت نسبة الطبقة المتوسطة، بينما زادت ثروات الأغنياء نتيجة السياسات المالية والنقدية الحالية؛ مما يعيد التفكير الفوري في السياسة المالية للدول لإنعاش اقتصاداتها.
الباحثة الاقتصادية المصرية سلمى حسين، قالت لـ«الشرق الأوسط» إن النظرية الاقتصادية انهارت أمام الأزمة المالية العالمية التي بدأت تظهر أواخر عام 2007. مؤكدة: «النظريات الاقتصادية التي تدرس في الجامعات تقوضت أكثر على أرض الواقع، وهذا الأمر ظهر جليًا في الأزمة المالية». وافقها في الرأي الدكتور أسامة الأنصاري أستاذ التمويل والإدارة في كلية التجارة جامعة القاهرة، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «لا يمكن تطبيق النظريات الاقتصادية الكلاسيكية في جميع دول العالم، مع كل المتغيرات والتفاوت بين الدول». مشيرًا إلى صعوبة تطبيق العولمة في ظل التفاوت بين المجتمعات. ومؤخرًا أوضح صندوق النقد الدولي أنه مستعد للنظر في فكره الاقتصادي ومناهجه المعنية بالسياسات المالية، وقال كبير الاقتصاديين في الصندوق موريس أوبتسفلد: «الصدمة التي أحدثتها الأزمة المالية العالمية أدت بالمجتمع الأكاديمي والمعني بالسياسات على مستوى العالم إلى القيام بعملية إعادة نظر واسعة النطاق في السياسة الاقتصادية الكلية والمالية، وبالنظر إلى تأثيرات قراراتنا على البلدان الأعضاء والنظام الاقتصادي العالمي، نرى أنه من المهم للغاية أن نواصل إجراء عمليات إعادة تقييم للفكر الذي نتبناه في ضوء الأدلة الجديدة».
وقالت الباحثة الاقتصادية سلمى حسين إن اعتراف المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي، بالأخطاء فيما يخص مراجعة سياستهم المالية: «لم يترجم لسياسات أخرى بديلة، رغم ظهور مئات الكتب التي تتناول بدائل كثيرة ومن كافة الاتجاهات». وتشير الأدلة الجديدة في الاقتصاد العالمي، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي عن الاستقرار المالي العالمي الذي صدر في أبريل (نيسان) الماضي، إلى «ارتفاع المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي العالمي مقارنة بما كانت عليه من قبل».وأضاف: «أدت الانخفاضات في أسعار النفط والسلع الأولية إلى استمرار مستوى المخاطر المرتفع في اقتصادات الأسواق الصاعدة، بينما أدى ارتفاع عدم اليقين بشأن التحول في نموذج النمو الصيني إلى زيادة انتقال التداعيات إلى الأسواق العالمية؛ وتسببت هذه التطورات في زيادة ضيق الأوضاع المالية، وخفض الإقبال على تحمل المخاطر، وزيادة المخاطر الائتمانية، وتعطيل معالجة الخلل في الميزانيات العمومية، مما أثر على الاستقرار المالي». ورغم أن مزاج السوق تحسن بسبب ارتفاع أسعار النفط، وقوة البيانات المالية الأميركية، والإجراءات الداعمة التي اتخذتها البنوك المركزية؛ لكن استمرار الاضطرابات ينتج عنه ارتفاع «مخاطر عدم الاستقرار، قد تصل في بعض الأحيان إلى اقتتال داخلي، وهذا يفسر الوضع الحالي في بعض الدول العربية التي حدثت بها اضطرابات». بحسب حسين.
وتوضح هذه البيانات ارتفاع المخاوف من حدوث أزمة مالية جديدة، الأمر الذي جعل صندوق النقد الدولي يؤكد على أنه «ينبغي اتخاذ تدابير إضافية للوصول إلى مزيج من السياسات الأكثر توازنًا لتحسين آفاق النمو والتضخم وتأمين الاستقرار المالي، وفي غياب هذه التدابير، قد تتكرر اضطرابات السوق».
وأضاف: «في مثل تلك الظروف، قد يؤدي تصاعد علاوات المخاطر إلى أوضاع سوقية أكثر ضيقًا، ودائرة مدمرة من الآثار المرتدة تتعاقب فيها هشاشة الثقة وضعف النمو وانخفاض التضخم وتصاعد أعباء الديون. ويمكن أن تؤدي اضطرابات أسواق الأصول العالمية إلى زيادة مخاطر الاقتراب من تباطؤ أخطر وأطول يتسم بالركود المالي والاقتصادي». بينما حذرت سلمى حسين بوضوح من السياسات المالية المتبعة حاليًا التي تتجاهل «مصالح العامة»، إذ إن «السياسات الحالية انعكاسًا لمجموعة تمثل مصالح ضيقة، عادة ما تتعارض مع مصالح العامة». مشيرة إلى أن 60 في المائة من حجم الثروات في الشرق الأوسط يمتلكها 10 في المائة فقط السكان، مما يشير إلى اتساع التفاوت في الثروات بين السكان «اللامساواة». وفقًا لحسابات توماس بيكيتي مؤلف كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين».
وتأتي تلك التغيرات في فكر صندوق النقد والبنك الدولي وكبار الاقتصاديين، متوافقة مع فكر الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي الذي ألف أحد أكثر الكتب الأكثر مبيعًا على مستوى العالم: «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، إذ تناول فيه انعدام العدالة في توزيع الثروات حول العالم.
ويوضح بيكيتي أن الثروة تنمو بشكل أسرع من نمو الناتج الاقتصادي، ويبرهن على ذلك بمعادلة اقتصادية توضح العلاقة بين الثروة والناتج القومي، مؤكدًا أن الرأسمالية لا تصحح بنفسها المسار نحو مزيد من المساواة، فتركيز الثروة المتعاظم، سيكون له تأثير يتزايد مثل كرة الثلج إذا ما تركت الأمور دون حل.
تتزايد مخاطر المالية العامة في معظم الدول تقريبًا. ففي الاقتصادات المتقدمة، تؤدي مخاطر الاستمرار المزمن للنمو الضعيف والتضخم المنخفض إلى زيادة التحديات أمام تخفيض نسب الدين، وفي اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، يمكن أن تتسبب زيادة ضيق الأوضاع المالية العالمية واشتداد تقلبها في رفع فاتورة الفوائد، في وقت تتصاعد فيه احتياجات التمويل الإجمالية.
ولا يمكن إيجاد حل دائم لمشكلة أعباء المديونية المفرطة دون تحقيق نمو أعلى على المدى المتوسط، ومع الحفاظ على زيادة في النمو قدرها نقطة مئوية واحدة يمكن الوصول بنسب الدين في الاقتصادات المتقدمة إلى مستويات ما قبل الأزمة في غضون عقد واحد؛ وهذا يتطلب تعجيل الإصلاحات الهيكلية، بما في ذلك سياسات الضرائب والإنفاق التي تعزز حوافز العمل والاستثمار، وتعطي دفعة لنمو الإنتاجية. بحسب تقرير لصندوق النقد عن مخاطر المالية العامة حول العالم.
ولا شك في أن الحالة الاقتصادية المتردية للحكومات الناتجة عن الأزمة المالية، تجعلهم يلجأون إلى تحفيز رجال الأعمال على الاستثمار من خلال قوانين فضفاضة، ينتج عنها تهرب ضريبي ارتفعت معدلاته بشدة بين الأغنياء، وظهر مؤخرًا في «وثائق بنما»، فضلاً عن خصخصة الشركات التي تعطي القطاع الخاص دورًا أكبر في مصير القوى العاملة في البلاد؛ ووقتها تلجأ الحكومات إلى إلغاء الدعم أو تقليله بحجة توفير النفقات، لترتفع معدلات الفقر حول العالم.
وتوضح سلمى حسين أن الأزمة المالية كان لها تداعيات سلبية على جميع الدول، بنسب متفاوتة إلا أن المجتمعات الفقيرة تأثرت بشكل أكثر، مشيرة إلى زيادة معدلات الفقر نتيجة تدني الإيرادات والأجور في هذه المجتمعات، وأصبح الفقر مرتبط بعامل السن، قائلة: «خروج العامل على المعاش كفيل بنقله من طبقة مستورة إلى طبقة فقيرة»، نظرًا لتدني قيمة المعاشات التي يحصل عليها العامل في المجتمعات الفقيرة.
أثار مقال على موقع صندوق النقد الدولي نشر الأسبوع الماضي، الشكوك في سياسة «النيوليبرالية» التي هيمنت على الفكر الاقتصادي على مدى العقود الثلاثة الماضية، وقال الاقتصاديون جوناثان أوستري، براكاش ونغاني، وديفيدي فيرسي، إنهم يرون حركة متنامية ضد بعض المبادئ الليبرالية الجديدة، ويعتقدون أن حرية حركة رأس المال عبر الحدود، وتدابير التقشف من قبل الحكومات العالمية - بدأت تعيق، بدلاً من مساعدة العالم. وخلصوا إلى أن السياسة المالية الحالية رفعت نسب عدم المساواة والفقر حول العالم، مما يضر بمعدلات النمو.
وقال أستاذ التمويل والإدارة أسامة الأنصاري لـ«الشرق الأوسط» إن «الأقلمة لا بد أن تحل بديلاً عن العولمة»، نظرًا لفشل الأخيرة بصورة ظهرت واضحة في الأزمة المالية العالمية. ودعت سلمى حسين الباحثة الاقتصادية العالم إلى التكاتف للخروج من براثن الأزمة، إذ «لا تستطيع دولة واحدة حلها، لكن على الأقل يمكن حلها إقليميًا»، مؤكدة أن «المجتمع الدولي قاصر على مواجهة الأزمة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين».
هل أصبحت سياسة العالم «المالية» خطرًا على الاقتصاد الدولي؟
صندوق النقد الدولي بدأ إعادة التفكير
هل أصبحت سياسة العالم «المالية» خطرًا على الاقتصاد الدولي؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة