لبنان: «النكسة» البلدية تهز «المستقبل»

ريفي بعد فوزه عليه في طرابلس لـ «الشرق الأوسط»: أفكّر بالانتقال من الحالة الفردية إلى حالة أكبر

لبنان: «النكسة» البلدية تهز «المستقبل»
TT

لبنان: «النكسة» البلدية تهز «المستقبل»

لبنان: «النكسة» البلدية تهز «المستقبل»

لم يستوعب بعد تيار «المستقبل» في لبنان حجم «النكسة» التي تعرّض لها في جولة الانتخابات البلدية في مدينة طرابلس، عاصمة شمال لبنان وثاني كبرى مدنه، وشهدت فوزًا كبيرًا وغير متوقع لوزير العدل المستقيل اللواء أشرف ريفي الذي خاض المعركة وحيدًا بوجه تكتل القوى السياسية وفعاليات المدينة.
إلا أن الصدمة المدويّة التي لم يجد «التيار الأزرق» تفسيرا وافيا لها، دفعت بقيادييه إلى إطلاق حملة نقد ذاتي في محاولة لتحديد مكامن الخلل والأخطاء التي أدّت لتراجع شعبيته، ليس فقط في شمال البلاد، بل أيضا في العاصمة بيروت، حيث أتت النتائج البلدية «مخيبة»، حتى ولو تحمّل قسما لا بأس به حلفاؤه المسيحيون الذين فشلوا بدفع قواعدهم الشعبية للتصويت للائحة توافقية ضمّت معظم القوى السياسية وواجهت لائحة للمجتمع المدني تمكنت من تحقيق نتائج مفاجئة وخاصة في دائرة بيروت الثالثة.
بعكس كثير من القوى السياسية الأخرى، أقرّ تيار «المستقبل» في لبنان الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، بتراجعه وباقترافه «أخطاء» لم يحدد طبيعتها، وهو ما عبّر عنه وزير الداخلية نهاد المشنوق أخيرا داعيا لمراجعة هذه الأخطاء وأخذ العبر من الاستحقاق البلدي قبل التجهز للاستحقاق النيابي المقبل في صيف العام 2017. واعتبر المشنوق - أحد وزراء «المستقبل» في الحكومة - أن التبدلات في المزاج الشعبي لم تقتصر على جمهور «المستقبل» إنما طاولت مؤيدي كل الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى على ضفتي 8 و14 آذار.
وفي حين لم يعلّق الرئيس الحريري بعد بشكل مباشر على نتائج الانتخابات البلدية، مكتفيًا بتهنئة الفائزين في الشمال عمومًا، وطرابلس خصوصًا، ودعوة قوى الطرابلسية إلى تجاوز الاصطفافات الانتخابية وتسهيل مهمة المجلس المنتخب في إنماء المدينة وحل مشاكلها، فإن الحركة التي تشهدها دارته في بيروت توحي بأن العمل قد بدأ فعليا لتدارك ما حصل. والأهم من ذلك، بدأ العمل للملمة صفوف التيار المهدد بالتفكك بعد انسحاب ريفي منه، وتلويحه ضمنًا بإمكانية تشكيل تيار يكون خارج جناح «المستقبل»، لا سيما أن «المستقبل» مقبل على استحقاق دستوري كبير ومهم وهي الانتخابات البرلمانية، التي ستحدد حجمه السياسي ودوره في قيادة المرحلة المقبلة.
من جهة ثانية، بعيدا عن تحفظات تيار «المستقبل» وحلفائه الخاسرين في معركة الشمال، بدأ وزير العدل المستقيل أشرف ريفي أكثر وضوحًا في قراءته لما حصل، وذهب بعيدا في تحديد معالم المرحلة المقبلة، حيث قال لـ«الشرق الأوسط» بأن انتخابات طرابلس حمّلته مسؤولية كبرى جعلته يفكّر بـ«الانتقال من الحالة الفردية إلى حالة أكبر». ولفت ريفي إلى أنّه لم يقرر بعد كيف ستكون هذه الحالة، مضيفًا «لا أخفي أنها وضعتني أمام هذا التحدي، وسأتعاطى معه وفق ما تستوجبه الظروف وتطلعات الناس، فالشارع السنّي ليس شموليًا إنما هو تعدّدي ويستوعب الجميع».

«الخيارات الخاطئة»
وتحدث ريفي عن «الكثير من العوامل التي قلبت المزاج الشعبي في طرابلس ضدّ تيار المستقبل»، مشيرا إلى «الكثير من الخيارات الخاطئة التي انتهجها هذا التيار، بدءًا بترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وطريقة معالجة ملف ميشال سماحة، والتحالف الانتخابي مع الرئيس نجيب ميقاتي، الذي طعنهم في الظهر عبر حكومة القمصان السود التي أطاحت بحكومة الرئيس سعد الحريري». وأبدى اللواء ريفي، أيضًا، أسفه لأنهم (المستقبل) «فضلوا التحالف مع ميقاتي بدل أن يلتقوا مع أشرف ريفي، أو أقله أن يستنكفوا عن هذه المعركة»، مشيرًا إلى «وجود عوامل أخرى مثل الترهل في التيار، وفشل المسؤولين المحليين (في طرابلس) بأن يكونوا على قدر المسؤولية».
ورغم أن طابع المعركة البلدية هو إنمائي بامتياز، شدد ريفي على أن «التصويت في المدن يغلب عليه الدافع السياسي، لذلك فإن طرابلس صوتت بالسياسة أكثر مما صوتت للإنماء، خصوصًا أن لائحة التحالف السياسي، شكّلها سياسيون ضمّت تمثيلاً فاقعًا مثل (الأحباش) والعلويين الممثلين لرفعت عيد المطلوب للعدالة».
ومع تقلّص مساحة التفاهم بينه وبين «المستقبل» خصوصًا بعد انتخابات طرابلس التي اكتسحتها لائحته، أشار وزير العدل إلى أنه «لا خلافات شخصية مع الرئيس سعد الحريري، إنما افتراق على الخيارات السياسية». وقال: «المطلوب منه الاعتراف باستقلاليتي الكاملة، وأنا عندما قدمت استقالتي من الحكومة، كانت الأسباب كثيرة منها هجوم (حزب الله) على المملكة العربية السعودية ودول الخليج، والإخفاق في التعاطي مع ملف ميشال سماحة، وفشل الحكومة الذريع في معالجة الملفات بما فيها ملف النفايات». ومن ثم، عبّر عن أسفه لأن «تيار المستقبل ذهب إلى خيارات تتناقض مع مسيرتنا، وهي خيارات غير مقبولة لدى جمهورنا، الذي اعتبرها خيارات استسلام وانكسار»، معتبرًا أن «نتائج الانتخابات في كل لبنان أظهرت أن الناس بات لديها خيار استراتيجي نحو التغيير، ولديها تذمر من الطبقة السياسية، وهي أعطت إشارات كبيرة من بعلبك إلى الجنوب وبيروت والضاحية الجنوبية، لكنها كانت أكثر تعبيرًا في طرابلس».

مزاج الناخب
عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل» النائب السابق الدكتور مصطفى علوش، لم يخف وجود أخطاء قادت إلى هزيمة التحالف السياسي الذي كان تياره جزءًا منه في طرابلس، وإذ أقرّ بأن «هذه النتيجة لم تكن متوقعة»، أكد لـ«الشرق الأوسط»، أنه «لم تكن هناك قراءة جدية لمزاج الناخب الطرابلسي، إن لجهة امتناع الناس عن النزول إلى صناديق الاقتراع بنسبة 75 في المائة، أو لجهة عدم التصويت للتحالف السياسي الذي خاض المعركة».
ولا ينكر علوش أن «منطق المظلومية والاستفراد (الذي رفعه الوزير أشرف ريفي) تحبّه الناس وتؤيده، بالإضافة إلى الشعارات التي رفعت أي شعارات ثورة الأرز وقضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري». وأوضح من المؤكد أن «جمهورنا في تيار (المستقبل) لم يستطع تقبّل هذا التحالف من دون نشرح أو نفسّر له الأسباب التي أملت علينا الدخول في هكذا تحالف». وأضاف: «قد يهضم جمهورنا تحالفنا مع الرئيس نجيب ميقاتي، لكنه بالتأكيد لم يهضم التحالف مع الوزير (السابق) فيصل كرامي ومع جماعة الأحباش (المعروفة بولائها إلى النظام السوري وأتباعه في لبنان)».
أما في القراءة السياسية وما إذا كان تبدل المزاج الشعبي هو استراتيجيًا أو مجرد رسالة تنبيه إلى «المستقبل» وقيادته، أبدى علوش، اعتقاده بأن «هناك تغيرًا جزئيًا وليس كاملاً في المزاج الشعبي»، مضيفًا أن «هناك عوامل تراكمت منذ 11 سنة، أي منذ تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهناك غياب للمواقف التي تجيّش الناس»، ومذكرًا بأن تيار المستقبل «ليس حزبًا عقائديًا أو ثوريًا، بل لديه الكثير من البراغماتية، وهو تيار ليبرالي وليس صاحب سطوة في وضع عصبة دائمة تجعل الناس تلتف حوله بشكل دائم».
ويلفت علوش إلى أن «التكتلات أو الشعارات الطائفية والمذهبية، قد تجعل الجمهور يلتف حول الزعيم، لكن هذه الشعارات لا بد أن تقود نحو الكارثة». وقال: «عندما يكون الشخص في موقع المسؤولية لا يمكنه أن يلجأ إلى التجييش الطائفي». وتطرق عضو المكتب السياسي في «المستقبل»، إلى الحملة التي خاضها ريفي في طرابلس والشعارات التي رفعها، وتمسكه بقضية رفيق الحريري، وسأل: «لو كان الوزير ريفي رئيسًا للحكومة هل كان استقال من منصبه؟ لماذا وافق على الدخول في الحكومة وهو يعرف أنها حكومة توازنات سياسية؟ لماذا قاتل من أجل الدخول إلى الحكومة؟ ولو كان وزيرًا للداخلية هل كان بمقدوره أن يتصرف بخلاف ما يقوم به الوزير نهاد المشنوق ويترك الشغب يعمّ المدينة؟» ومن ثم شدد على أن «مرحلة ما بعد الانتخابات تفرض واقعًا جديدًا للتعاطي مع الشارع، وفهمًا أكبر لخيارات الناس، ولكن من دون الانجراف وراء الغرائز، لأننا بالتأكيد نرفض أن نربح شعبيًا ونخسر الوطن، بل المطلوب أن نتفّهم رغبات الناس، وأن نحافظ على الوحدة الوطنية معًا».

خسائر.. واعتراض
في الحقيقة، لم تقتصر «خيبات» تيار «المستقبل» شمالاً على مدينة طرابلس بل طرقت أبوابه في قضاء المنية – الضنية أيضًا، حيث خسر في بلدة سير، كبرى بلدات القضاء ومسقط رأس النائب أحمد فتفت، بوجه ﻻئحة «سير أحلى» المدعومة من رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي والوزير السابق فيصل كرامي. ولقد وصف فتفت النتيجة هناك بـ«غير المتوقعة والقاسية». وهنا يردّ خلدون الشريف، السياسي الشمالي ومستشار رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، النتائج المفاجئة و«النكسات» التي شهدتها أكثر من منطقة لبنانية لـ«الحركة الاعتراضية على الطبقة السياسية التي تشكلت من المجتمع المدني الذي بدأ حراكه في العام 2015 ضمن حملات بدنا نحاسب وطلعت ريحتكم»، ولفت الشريف في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّه «رغم أن المفاجآت حلّت في أكثر من منطقة فإنها أتت في طرابلس لتكون جرس الإنذار الأقوى وبالتحديد على المستوى السني، ما يتطلب إعادة نظر بالخطاب والأداء السياسي وبطريقة التعاطي مع الشارع». وأردف «لا شك أن حالة الاسترخاء لدى القوى السياسية في طرابلس، ونحن منها، واعتبارها أن المعركة مضمونة ساهمت إلى حد بعيد بفوز الطرف المنافس المتمثل باللواء ريفي الذي قاد معركة لائحته بنفسه، بخلافنا، باعتبار أننا ارتأينا عدم استخدام الخطاب السياسي وترك المرشحين إلى المجلس البلدي يخوضون معركتهم بأنفسهم».

لا تطرف ولا اعتدال
ولا يذهب الشريف بعيدا بقراءة أبعاد معركة كما فعلت بعض قوى 8 آذار، التي اعتبرت أن نتائج طرابلس «توحي بانتصار التطرف على الاعتدال»، فهو يشدد على عدم إمكانية تصنيف ريفي بـ«المتطرف»، معتبرا أن خطابه «حاد وشعبوي لكنّه غير متطرف». وإذ ردّ تراجع «المستقبل» على مستوى لبنان لـ«تخليه عن الشعارات التي كان رفعها عند دخوله الحكم، وغياب قائده عن لبنان إضافة لحالات التمرد وأبرزها تمرد ريفي الذي كان يُعتبر أحد أبرز صقور تيار الحريري»، ذكّر الشريف بأن «خطاب رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري لم يكن يوما حادا»، لافتا إلى أن «الحريرية السياسية لطالما كانت قائمة على التسويات، وبالتالي ليس صحيحا أن من يعبّر عن الحريرية السياسية هو اللواء أشرف ريفي». كذلك رأى الشريف أن الحديث عن «سقوط الأحادية السنّية، الذي يُعتبر أصلا مصلحة وطنية، وقيام ثنائيات وثلاثيات أمر مبكر»، مشددا على وجوب انتظار النتائج التي ستفرزها الانتخابات النيابية المقبلة.

الفائزون في انتخابات مدينة طرابلس
* من لائحة «قرار طرابلس» المدعومة من اللواء أشرف ريفي وزير العدل المستقبل:
خالد عمر تدمري – رياض عزت يمق – أحمد عبد الوهاب المرج – خالد وليد الولي – أحمد عبد القادر قمر الدين (رئيسا للبلدية) – زاهر إبراهيم سلطان – جميل أحمد جبلاوي – سميح محمد حلواني – أحمد محمود البدوي – توفيق محمد أمين العتر – محمد نور أسعد الأيوبي – باسل أسعد الحاج – محمد عدنان تآمر – يحيى واصف فتّال – لؤي عبد الكريم المقدم – وأحمد عبد الحميد القصير
* من لائحة «لطرابلس» المدعومة من تيار «المستقبل» والرئيس نجيب ميقاتي والوزير فيصل عمر كرامي:
أحمد مصطفى حمزة – عزام بهاء الدين عويضة – شادي غسان نشابة – رشا فائز سنكري – محمد صفوح أحمد عصمت يكن – محيي الدين علي البقّار – عبد الحميد وليد كريمة – باسم عبد الوهاب بخاش.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟