مثلما توقع عدد من الخبراء، لم تسفر «المبادرة من أجل السلام» التي دعت إليها واستضافتها باريس أمس عن مقررات أو خطوات «ثورية»، بل بقيت في سياق ما كان منتظرا منها، أي إظهار وعي الأسرة الدولية للمخاطر المترتبة على استمرار التأزم في مفاوضات السلام الفلسطينية - الإسرائيلية المتوقفة منذ عامين، والسعي إلى عمل مشترك من أجل توفير الشروط والظروف الضرورية والمناسبة لعودة الطرفين إلى طاولة المفاوضات.
ومن بين جميع الحاضرين، كان وزير الخارجية الفرنسية جان مارك أيرولت الأكثر تفاؤلا؛ إذ أعرب عن أمله في تحقق انعقاد مؤتمر ثان في العاصمة الفرنسية خلال الخريف المقبل يكون استكمالا للأول، بعد أن تكون «مجموعات العمل» التي سيتم تشكيلها، التي ستتناول الشؤون الأمنية وخفض العنف، وخطوات بناء الثقة والأمن الإقليمي، والاعترافات المتبادلة والمحفزات الاقتصادية، قد أنجزت مهامها ليتم عرضها وإقرارها. وأهمية المؤتمر الثاني أيضا أنه سيضم الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي اللذين لم تتم دعوتهما في اجتماع الأمس. والأمر الثاني الذي يعكس تفاؤل أيرولت أنه يأمل باستئناف المفاوضات المباشرة الفلسطينية - الإسرائيلية «في الوقت الملائم»، عارضا خدمات فرنسا والمؤتمرين لتوفير «الإطار والدعم» المناسبين لتسهيل انعقادهما، بما في ذلك عرض الضمانات والحوافز التي ستقوم مجموعات العمل المتخصصة بتحضيرها.
لكن هذا التفاؤل لم يجد من يدعمه، على الرغم من إدراك الجميع لخطورة الوضع في الشرق الأوسط وانسداد الأفق السياسي، وهو ما توقف عنده الرئيس فرنسوا هولاند في كلمته الافتتاحية التي خلت من الإشارة إلى المؤتمر الثاني، أو إلى استئناف المفاوضات المباشرة. وقال مصدر دبلوماسي عربي، رافق مجريات اجتماع الأمس، إن الحاضرين (29 وزيرا وزير دولة وأمين عام منظمة إقليمية أو دولية) ركزوا على الصعوبات الحقيقية التي تواجه إعادة إطلاق عملية السلام وعلى الحاجة إلى التحرك. لكن أيا منهم لم يقدم تاريخا محددا لمعاودة المفاوضات، بمن فيهم وزير الخارجية الأميركي جون كيري. وعلمت «الشرق الأوسط» من أوساط أميركية أن كيري عبَّر عن تشاؤمه بقوله إنه «لا يعول كثيرا على الاجتماع» الذي ترفضه إسرائيل رفضا شديدا، وقال لصحافيين رافقوه «سنرى.. سنجري ذلك الحوار. لكن ينبغي أن نعلم إلى أين سيذهب وماذا سيحدث. بدأنا توا. دعونا ندخل في المحادثات».
وعلم أن كيري عقد كثيرا من المشاورات الجانبية داخل مركز المؤتمرات، وتحدث في الداخل لربع ساعة تقريبا، لكن مصدرا دبلوماسيا فرنسيا قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأهم هو «أن يتركنا كيري نعمل، ونحن نعرف رأيه، ومفاده بأن ما هو غير أميركي لا يمكن أن ينجح»، مضيفا أن نجاح الاجتماع والتعبئة الدبلوماسية والسياسية عالية المستوى التي جيشها «من شأنها دفع كيري للتخلي عن فتوره».
من جهتها، قالت مسؤولة الشؤون الخارجية والأمن الأوروبية فدريكا موغيريني، التي مثلت الاتحاد الأوروبي، إن «من واجب اللاعبين الدوليين والإقليميين أن يجدوا مخرجا للأزمة؛ لأن الجانبين (الفلسطيني والإسرائيلي) عاجزان عن فعل ذلك وحدهما. وبحسب موغيريني فإن «سياسة التوسع الاستيطاني وعمليات الإزالة والعنف والتحريض تكشف لنا بجلاء أن الآفاق التي فتحتها أوسلو عرضة لأن تتلاشى بشكل خطير». أما الأمر الثاني اللافت الذي تمخض عنه اجتماع باريس فهو عودة مبادرة السلام العربية إلى الواجهة، التي ستكون من ضمن مرجعيات الحل السياسي المنشود.
وقال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، في حديثه للصحافة أمس، إن أساس أي خطة سلام مستقبلية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ما زال يتمثل في المبادرة العربية لعام 2002، وحث إسرائيل على قبولها، مضيفا أن مبادرة السلام العربية بها كل العناصر المطلوبة لتسوية نهائية. وبحسب الوزير السعودي فإن المبادرة مطروحة على مائدة المفاوضات، وتمثل أساسا قويا لحل النزاع الطويل، وعبر عن أمله في أن تسود الحكمة في إسرائيل وأن تقبل بهذه المبادرة.
وعكس الجبير موقف المملكة السعودية «الثابت» بشأن إيجاد حل للنزاع على أساس قرارات مجلس الأمن ومبادرة السلام العربية، والهادف إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإيجاد حل عادل للاجئين الفلسطينيين، مبني على القرار «194»، مضيفا أن هذا كله ورد في مبادرة السلام العربية. وأعرب الجبير عن أمله في أن يفضي الاجتماع إلى «مؤتمر دولي للسلام» للوصول إلى الحل النهائي والشامل للنزاع.
وسألت «الشرق الأوسط» الوزير السعودي عما إذا كان قد طلب من الطرف العربي في الاجتماع، الذي مثله إلى جانب نظرائه وزراء خارجية مصر والأردن والمغرب، إدخال أي تعديلات على مبادرة السلام العربية فأجاب بالنفي. وقال: «لماذا يطلب التعديل؟ مبادرة السلام العربية واضحة، وهي تتماشى مع القرارات الأممية، ومع المبادئ التي تقوم عليها معظم المبادرات الدولية، وقد أصبحت مبادرة السلام العربية اليوم من المراجع الأساسية إيجاد حل لهذا النزاع».
وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل تجاهلت لسنوات طويلة المبادرة العربية التي أطلقت في العام 2002 في قمة بيروت العربية، لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية عاد إليها مؤخرا عندما اشتدت عليه الضغوط السياسية؛ بسبب المبادرة الفرنسية التي رفضها شخصيا، وأشار إلى وجود «عناصر إيجابية» في المبادرة العربية، لكنه طالب بتعديل بعض ما تنص عليه دون أن يحدده بدقة. كما أن رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس ركز عليها في مقابلة أجرتها معه صحيفة «يديعوت أحرونوت» بمناسبة زيارته الأخيرة لإسرائيل، وطالب فيها الدول العربية بالاعتراف بإسرائيل لتشجيعها على اجتياز خطوة السلام. وذكر الجبير بأن هذه الخطة، إلى جانب إقامة الجدولة الفلسطينية، وإيجاد حلول لموضوع اللاجئين والمياه، تنص على وضع آلية للأمن لحماية المنطقة ودولها «وبالمقابل تعقد معاهدة سلام بين إسرائيل والدول العربية، وتقوم بين الطرفين علاقات طبيعية».
وجاء في البيان الختامي، الذي وزع عقب الاجتماع إشارتان لمبادرة السلام العربية في الفقرتين الثالثة والرابعة؛ حيث أشارت الثالثة إليه من ضمن مرجعيات الحل، وإلى أهمية «تفعيلها»، فيما شددت الفقرة الرابعة على ما يمكن أن تحمله على صعيد توفير السلام والأمن الإقليميين في حال العمل بها.
والأمر الثابت الذي شددت عليه كل المداخلات داخل قاعة الاجتماع وخارجها هو الحاجة إلى التحرك، وعدم الارتكان للأمر الواقع القائم حاليا؛ لأن أحد مخاطره، وفق الرئيس هولاند: «أن يستغله المتطرفون والإرهابيون من كل حدب وصوب». وما قاله هولاند عن الحاجة إلى دولتين، جاء أيضا في البيان الختامي الذي تضمن تعبيرا عن المخاوف من أن ما يحصل على الأرض و«تحديدا النشاطات الاستيطانية» من شأنه أن يهدد حل الدولتين، وهو ما يحذر منه الفلسطينيون باستمرار، وما شددت عليه موغيريني التي كشفت أن الرباعية الدولية ستنشر في الأيام القادمة تقريرا يشخص الحالة الراهنة، ويوصي بمبادرات لم ترد الكشف عنها. كما أشار البيان النهائي إلى الحاجة إلى أن يظهر الطرفان عمليا رغبتهما في إعادة ترميم الثقة بينهما، و«توفير كل الشروط لوضع حد كامل للاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ عام 1967» على أساس القرارات الدولية ومبادرة السلام العربية. لكن البيان لم يخض في التفاصيل ولا في المحددات، بل بقى عاما لتلافي الخلافات بين المشتركين.
وفي الخلاصات التي عكسها الوزير أيرولت بنهاية الاجتماع، شدد على الحاجة إلى إطار للمفاوضات، وإلى أجندة دقيقة للعمل بموجبها، ووعد بالاستمرار في التشاور مع جميع الأطراف من أجل المؤتمر الدولي قبل نهاية العام، الذي ستعمل باريس من أجله. أما بخصوص موضوع الأجندة، فقد أشار أيرولت إلى تشكيل مجموعات العمل التي ستركز على إجراءات خفض العنف وعلى الضمانات الأمنية، وعلى المحفزات الاقتصادية والتجارية، خصوصا مع الاتحاد الأوروبي.
وترغب باريس في أن تبدأ بلورة كل هذه المعطيات مع نهاية الشهر الحالي على أن تكون جاهزة بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي قبيل نهاية العام الحالي، ما يعني عمليا أن المطلوب انعقاد المؤتمر المذكور في المرحلة الساخنة من الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبينما تكون باريس أيضا مشغولة بانتخاباتها الرئاسية والتشريعية المقررة ربيع 2017.
من جانبه، عرض وزير الخارجية المصري سامح شكري رؤية مصر للتوصل إلى حل عادل وشامل لها، الذي يرتبط بها استقرار منطقة الشرق الأوسط، بما يفضي إلى إنهاء الاحتلال وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.
وشدد شكري خلال مشاركته في مؤتمر باريس على ضرورة على التزام المجتمع الدولي بما قطعه من وعود لإخراج الدولة الفلسطينية من إطارها النظري والقانوني لتصبح واقعا ملموسا يعيشه الفلسطينيون ويتعايش معه الإسرائيليون بسلام، وشدد على أن تحقيق الاستقرار يتطلب الموازنة بين الشرعية وتوازن المصالح. وأشار شكري إلى حديث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول ما يمكن تحقيقه من تفاهم في المنطقة حال إيجاد حل حقيقي للقضية الفلسطينية، مؤكدا أن أفكار السيسي تحقق آمال الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وشدد على ضرورة أن تتعاون واشنطن وموسكو والدول الأوروبية مع دول المنطقة لتحريك العملية السلمية باتجاه الحل، موضحا استعداد مصر لبذل كل جهد ممكن، سواء فيما يتعلق بالعمل على تهيئة الأجواء الفلسطينية، أو فيما يخص العمل على تفعيل مبادرة السلام العربية، وقال بهذا الخصوص: «دعوتنا اليوم حول هذه الطاولة إنما يعكس إدراكا، ليس مستغربا على فرنسا في كل الأحوال لأهمية بل حتمية التوصل إلى تسوية حقيقية لقضية الشعب الفلسطيني، ليس فقط احتراما لمبدأ إعادة الحقوق لأصحابها، وإنما حفاظا كذلك على الاستقرار الإقليمي والدولي»، وأكد في السياق نفسه أن «العرب يذكرون لفرنسا مواقف تاريخية مبكرة داعمة بوضوح للحقوق الفلسطينية وداعية إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، فاعتبارا من 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1974 صوتت فرنسا لصالح الاعتراف بمنظمة التحريـر الفلسطينية مراقبا في الأمم المتحدة، مؤكدة الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، كما كان الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران عام 1982 أول رئيس غربي يعلن أمام الكنيست في إسرائيل عن دعمه لهدف إنشاء دولة فلسطينية».
وأعاد شكري مطالبة المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته التاريخية إزاء استحقاقات السلام ومتطلباته، مشيرا إلى ضرورة أن ينظم المجتمع الدولي علاقاته بما يسمح بتعامل فعال مع التحديات المشتركة التي تواجهه.
وكانت جامعة الدول العربية قد أدانت التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في جلسة الكنيست الإسرائيلي، الأربعاء الماضي، التي أكد خلالها «أنه لا عودة إلى الواقع الذي ساد مدينة القدس ما قبل يونيو (حزيران) 1967، ولن نعود إلى ذلك الواقع، ولا حاجة إلى أن نعتذر عن وجودنا في القدس.. ومصيرنا مرتبط بها».
وفي أول رد فعل من جانب إسرائيل توجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، طالبا تدخله لتخفيف حدة البيانات والقرارات الصادرة على هامش قمة باريس. وقال له خلال محادثة هاتفية، مساء أول من أمس، إن «إسرائيل معنية بتحريك عملية السلام، ولكن ليس من خلال مهرجانات دولية تطوقها وتفرض عليها الإملاءات».
وجاءت محادثة نتنياهو في إطار اتصالات جرت على مستوى أدنى، حاول فيها الإسرائيليون التأثير على عدد من الدول التي شاركت في مؤتمر باريس، أمس، حتى يعملوا على تخفيف حدة بيانات المؤتمر.
وكان نتنياهو قد دعا إلى «مشاورات سياسية - إعلامية»، على ضوء انعقاد مؤتمر باريس، بمشاركة مسؤولين من وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي وهيئة الإعلام الوطنية. وتقرر القيام بمحاولة ممارسة ضغوط على عدة دول مشاركة في مؤتمر باريس من أجل «التأكد من عدم اتخاذ قرارات مهمة، مثل وضع جدول زمني لمفاوضات مستقبلية بين إسرائيل والفلسطينيين، وعدم القيام بخطوات مثل دعم من جانب مجلس الأمن الدولي لتحريك عملية السلام». وتقرر خلال المشاورات أن توضح إسرائيل عبر قنوات دبلوماسية وعلنية إنها تفضل دفع «المبادرة الإقليمية» التي يطرحها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على المبادرة الفرنسية؛ حيث قال مسؤول حكومي إسرائيلي رفيع المستوى إن إسرائيل تعتقد أن احتمالات نجاح مبادرة السيسي أكبر بأضعاف من احتمالات نجاح المبادرة الفرنسية، مع أن هناك قناعة بأن مبادرة السيسي تحتوي على مطالب أشد من إسرائيل.
وعقد مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية الدكتور دوري غولد مؤتمرا صحافيا في أعقاب المشاورات، شبَّه خلاله المبادرة الفرنسية باتفاقية سايكس - بيكو، وقال: «إن المبادرة الفرنسية ستفشل». وقال: «إن الطريق الوحيدة لصنع السلام هي بواسطة مفاوضات مباشرة ومن دون شروط مسبقة، وبدعم دول عربية، وليس من خلال مؤتمرات في باريس. وإذا كان لديك صراع مع جار لا ينبغي السفر إلى فرنسا وإحضار السنغال من أجل حله».
المجتمع الدولي يركز على صعوبات إعادة إطلاق عملية السلام خلال قمة باريس
عادل الجبير لـ «الشرق الأوسط» : لا تعديلات على المبادرة العربية
المجتمع الدولي يركز على صعوبات إعادة إطلاق عملية السلام خلال قمة باريس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة