مبادرة أميركية بتمويل خليجي لإنشاء معهد للثقافة العربية في واشنطن

يرأسه جون أنتوني رئيس المجلس الوطني للعلاقات العربية ـ الأميركية

د. جون انتوني
د. جون انتوني
TT

مبادرة أميركية بتمويل خليجي لإنشاء معهد للثقافة العربية في واشنطن

د. جون انتوني
د. جون انتوني

يعكف الدكتور جون ديوك أنتوني، الرئيس التنفيذي لمجلس العلاقات العربية - الأميركية في واشنطن على إقامة صرح ثقافي عربي في الولايات المتحدة، هدفه تغيير الصورة النمطية عن العرب وخاصة المرأة المسلمة في المجتمع الأميركي. تبلور هذا الجهد بإنشاء معهد للثقافة العربية في واشنطن، يمثل مشروعا فريدا من نوعه للتعريف بالثقافة العربية، وسط حزمة من مشاريع العلاقات العامة المعنية أكثر بالجانب السياسي.
ويرى أنتوني أن مشروعًا كالمعهد العربي في واشنطن لن يقتصر دوره على تعزيز الفهم وزيادة الوعي بالعالم العربي وتنمية العلاقات الأميركية العربية فحسب، بل السعي إلى تعميق الفهم وتقدير إسهامات الدول والشعوب والثقافة العربية في الحضارة الإنسانية.
وجون ديوك أنتوني؛ المؤسس والرئيس التنفيذي لمجلس العلاقات العربية - الأميركية، والذي يعمل حاليا في اللجنة الاستشارية للسياسة الاقتصادية العالمية بوزارة الخارجية الأميركية، هو مستشار ومحاضر في شؤون شبه الجزيرة العربية والخليج العربي في وزارة الدفاع ومجموعة من مراكز التفكير والمعاهد العلمية الأميركية العريقة. وسبق أن ترأس برنامج الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، في معهد الخدمة الخارجية التابع لوزارة الخارجية الأميركية. كما عمل رئيسا لبرنامج الدراسات المتقدمة لشبه الجزيرة العربية - وهو برنامج حكومي تعليمي رائد يهدف إلى إعداد واختيار الدبلوماسيين الأميركيين وأفراد الدفاع الذين يتم تعيينهم في المنطقة العربية.
وهو ضيف شبه دائم لحضور اجتماعات قمم وزراء مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه في عام 1981 إلى اليوم. وهو يعرف جيدا دول الخليج، وهو دائم التردد عليها، منذ تأسيسه نفذ مجلس العلاقات العربية - الأميركية نحو عشرين مشروعا ثقافيا وتعليميا وبرامج وفعاليات عقدت مجموعة منها في دولة قطر. تتمحور خطة المعهد في تنظيم مختلف أنواع المعارض التي توضح للزوار جوهر وثراء وتنوع الثقافة والتاريخ العربي. وتتيح هذه المعارض للزوار فرصة للتعرف على ثقافة البلدان العربية وتاريخها ومستوى التطور والحداثة فيها.
وخلال لقاء تعريفي عن «المعهد الثقافي العربي» أقيم في الدوحة أخيرا، تحدث الدكتور أنتوني عن هذا المعهد المزمع إنشاؤه في واشنطن، بالقول: إن هذا المشروع «يسعى إلى أن يكون نموذجا مثاليا لعرض وتقديم الحضارة والثقافة العربية لشعوب شمال وجنوب أميركا».
ويضيف: «يهدف (المعهد الثقافي العربي) لبناء جسر من التواصل الحضاري بين الشعب الأميركي والعالم العربي، وإرساء أرضية مشتركة يتحقق من خلالها الفهم المرجو للثقافة العربية والإسلامية، وإيجاد فضاء واسع ومكان لإجراء الحوارات والنقاشات والتعاون المشترك وإقامة البرامج والأنشطة والفعاليات عبر تنظيم أنماط مختلفة من المحاضرات التعليمية وإقامة الندوات وورش العمل وعقد المؤتمرات العالمية، وإقامة صالات لعرض الفنون والتحف والمقتنيات التراثية القديمة والحديثة التي تتميز بها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والاستثمار في مجالات البحوث والتعليم وتقديم المنح الدراسية في مجالات تتعلق بالثقافة العربية».
المعهد أيضا يهدف إلى بناء الشركات المستدامة مع السفارات التابعة للدول العربية والإسلامية والمؤسسات الثقافية بهدف التعريف بالإنتاج الثقافي العربي في الفن والأدب والإسهامات العربية في تطور العلوم والتكنولوجيا، خاصة أن هنالك الكثير من الإسهامات الكبيرة القديمة والحديثة التي تحتوي على الكثير من الخدمات التي استفادت منها البشرية وخدمة العلوم الإنسانية والعلمية والتي لم يسبق للعالم أن اطلع عليها. ويمنح المعهد، الجمهور فرصة كبيرة للالتقاء بباحثين معروفين، ومفكرين مشاهير، وفنانين وموسيقيين لم تتسنَ لهم من قبل فرص للقائهم أو الاستماع إليهم ناهيك أن يتعلموا منهم. ويتيح فرص إحياء مناسبات وأعياد عربية وإسلامية، وفعاليات ثقافية عربية مثل المعارض الفنية وقراءة الشعر، واللقاءات الخاصة وعرض الأفلام وتنظيم الحفلات. وبهذا سيعمل المعهد كمؤسسة أكاديمية ومحور ثقافي اجتماعي حضاري وإنساني.
تم اختيار العاصمة واشنطن كمقر لهذا المشروع باعتبارها العاصمة السياسية والثقافية لأميركا، وهي تضم بين جوانحها الكثير من المتاحف والمعاهد الثقافية الأميركية والعالمية ولكن لا يوجد بينها جهة تستعرض تاريخ وثقافة واقتصاد المجتمعات العربية. ويبلغ عدد من زاروا العاصمة واشنطن العام الماضي 20.2 مليون شخص. نحو 90 في المائة من هؤلاء الزوار جاءوا من داخل أميركا نفسها، والبقية من مختلف أنحاء العالم. وواشنطن هي من بين أهم ثماني جهات سياحية في أميركا يفضلها السياح القادمون من أرجاء العالم.
ومن شأن هذا المعهد أن يلعب دورا محوريا وفاعلا في محاربة الأفكار السلبية والصور النمطية المرتبطة بالعرب في أميركا. ويقول الدكتور أنتوني؛ إن إحدى مهام المعهد ستكون تصحيح المعلومات الخاطئة، والتحليلات المنحازة والتشويه المتعمد لصورة العرب في وسائل الإعلام الأميركية المكتوبة والمرئية والمسموعة.
يعالج المعهد النتائج الناجمة عن سوء الفهم وغياب المعلومات الضرورية لفهم الثقافة العربية والإسلامية. يسعى المعهد لأن يكون مصدرا للمعلومات لتثقيف الأميركيين بشأن التراث الحضاري العربي، وستكون برامج المعهد الثقافي وأنشطته وفعالياته مصممة لتعزيز التواصل بين الأميركيين والعالم العربي. يسعى هذا المشروع للحصول على الدعم المادي من الدول العربية والخليجية على نحو الخصوص، من خلال سفاراتها في واشنطن. ويقول مسؤولو المعهد إن تمويله «سيكون متعدد القنوات من جهات عربية وأميركية». وإن «القدر الكبير من الرغبة في توفير الموارد لهذا المشروع قد جاءت من مؤسسات وشخصيات كبيرة في دول مجلس التعاون الخليجي».



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟