البحث عن التفرد في مجتمع متنوع

«كالكنج أو الليلة الثانية بعد الألف وما يتبعها» لسالمة صالح

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

البحث عن التفرد في مجتمع متنوع

غلاف الرواية
غلاف الرواية

تُذكِّرنا رواية «كالكنج أو الليلة الثانية بعد الألف وما يتبعها» للقاصة والروائية العراقية سالمة صالح بكثير من القصص الإطارية Frame Story التي يمكن أن نتلمسها في «ألف ليلة وليلة»، و«كليلة ودمنة»، و«حكايات كانتربري»، وغيرها من قصص وملاحم الشعوب المعروفة التي هيمنت على الذاكرة الجمعية للناس في كل مكان من هذا العالم.
تقنية القصة الإطارية ليست جديدة إذن، كما أن فكرة الترحال، وركوب الأهوال قديمة قِدم الإنسان. فما جديد سالمة صالح في هذه الرواية الفانتازية؟ هل أن الجديد يكمن في الثيمات غير المطروقة من قبل؟ أم في طريقة معالجتها؟ أم أن هناك رهانًا قويًا على اجتراح قصص جديدة لم تجترحها المخيلة العجائبية للقصاصين والروائيين العالميين من قبل؟
أُعجب الملك شهريار بالقدرة السردية لشهرزاد، واقتنع برجاحة عقلها في الليلة الألف لذلك استبقاها زوجة له، وتوأما لروحه الملتاعة. أما شهرزاد: «الليلة الثانية بعد الألف وما يتبعها» من ليالٍ تسع لا غير فهي امرأة جديدة بكل تأكيد حتى وإن كانت تروي قصصها الخرافية إلى ملك ظالم سفّاح اسمه شهريار، ذلك لأن الخيانة عند بعض النساء مستمرة استمرار الوفاء عند البعض الآخر مثل شهرزاد ومنْ هنَّ على شاكلتها، وشهرزادنا الجديدة تروي قصصها التسع إلى ملوك جُدد وقرّاء يتناسلون على مرّ الزمان.
يتمثل الخُطّاف السردي Narrative Hook في الليلة الثانية بعد الألف بإجابة أحد الأبناء لسؤال والده السندباد عن السبب الذي منع ابنه الأصغر من الحضور، بينما هو راقد على فراش المرض، حيث قال له: «إنه في أرض لا يعرفها أحد» (ص5). وبما أنّ هذه الجزيرة لا يعرفها أحد فإنها تلفت انتباه القارئ الذي يتشوّق إلى معرفتها، واكتشاف مجاهيلها.
السندباد الصغير يفكر برحلته الجديدة ويقنع صديقه هشام في خوض هذه المغامرة التي سينضمّ إليها البحّار الحكيم الذي يعده أهل الحي معتوهًا، لكنهم أطلقوا عليه صفة «الحكيم» تهكمًا، وقد يبالغ البعض فيسمّيه الفيلسوف، لأنه يقرأ كتبًا كثيرة، وينطق بعبارات لا يفهمها أحد.
ينطلق الثلاثة من مدينة البصرة، وفي أثناء الرحلة يتفقون على تسمية جزيرتهم «كالكنج»، وهي تسمية جميلة وغامضة في آنٍ معا.
تتعدد الأنساق السردية بتعدد الحوادث، ولعل أبرزها في هذا الفصل مساعدة الشبان الأربعة الذي كانوا يتشبثون بقارب نجاة في الصعود إلى ظهر السفينة، ليصبح العدد سبعة أشخاص كانوا يقتربون من جزيرة مجهولة لا يعرفون عنها شيئا.
على الرغم من دهشة الترحال ومفاجآت المغامرة فإن السأم بدأ يتسلل إلى النفوس، وسوف يأخذ أشكالاً أخرى مثل الإحساس بالضيق، والشعور بالغربة المكانية والروحية وما إلى ذلك.
إن الجزر الثماني التي سوف يطأها المغامرون الثلاثة ويكتشفون مدنها الغريبة، ويتعرفون على أناسها وطرق تفكيرهم وعيشهم هي الهدف غير المُعلن للرحلة، آخذين بنظر الاعتبار رغبتهم في اكتشاف جزيرة غير مألوهة لا يملكها أحد. ففي جزيرة «أضاليا» أدهشهم الشبه الغريب بين أبنائها كأنهم نسخ مكررة أوحت لهم بأن هذه المدينة تكره الاختلاف، بل إن الرجال الأربعة قد تغيرت ملامحهم وأصبحوا يشبهون أبناء الجزيرة فقرروا البقاء فيها، لأنهم اعتقدوا أنها الأكثر رغدًا وثراءً من أي جزيرة أخرى في العالم.
في جزيرة «غافث» تفقد اللغة وظيفتها. فحينما يذهب هشام بصحبة الحكيم لاقتناء حذاء جديد من السوق، يجلس السندباد في أحد مقاهي الأرصفة، ويستمع إلى أحاديث الناس من دون قصد، فيكتشف أنهم يتكلمون في آنٍ واحد أو تباعًا، لكن «لا أحد يصغى إلا إلى صوته الخاص» (ص35)، فيشعر بالغربة، لأن اللغة ليست وسيلة اتصال، وإنما أداة تشويش وانفصال، الأمر الذي يدفعهم إلى الرحيل بحثًا عن جزيرة أخرى يتواصلون فيها مع الناس في أقل تقدير.
أدهشتهم «كرمة» أو «المدينة القبّة» فتوقعوها مركبة فضائية قادمة من كوكب آخر، ثم تصوروها قاعدة عسكرية، لكن وصول رجلين في مركبة غريبة الشكل قطع دابر التصورات، فتبين أنها مدينة عزلت نفسها بقُبّة زجاجية، لأن الطيور أكلت كل شيء تقريبًا، كما أنها نأت بنفسها عن «الضيوف المزعجين، والأمراض الوافدة، والسحنات الغريبة» (ص42). وعلى الرغم من وجودهم في مدينة مستقبلية وحداثية جدًا فإنهم شعروا بأنفسهم «مثل حيوانات حبيسة» مختنقة، فسرعان ما غادروها ليجدوا أنفسهم على الساحل يتنفسون هواءً نقيًا يعيدهم إلى صفاء الطبيعة وبراءتها الأولى.
تتواصل دهشة المغامرين في «مكنانة» أو المدينة العمودية المكتفية بنفسها، والمقسمة إلى خمس وحدات إدارية تربطها مصاعد يسمونها شوارع عمودية. المدينة مبنية على مساحة ضيقة من الأرض، وفيها متحف تاريخي يروي قصة أجدادهم القراصنة الذين هاجموا سفينة، واستولوا على محتوياتها، وبنوا برجًا عموديًا مثيرًا للدهشة.
لعل أهم ما في هذا الفصل من حيث التقنية والبناء المعماري للرواية هو Chekhov›s gun، أي «بندقية تشيكوف»، فالزجاجات المختلفة الأحجام، والمرتفعة الأسعار تبدو فارغة، لكنها في واقع الحال مليئة بأربعة أنواع من الرياح، الأولى خفيفة، والثانية قوية، والثالثة للعواصف، والرابعة للأعاصير. اشترى السندباد زجاجتين، واحدة للريح الخفيفة المنعشة والثانية للأعاصير بعد أن عرف طريقة استعمالهما. كانت هاتان الزجاجتان بمثابة «بندقية تشيكوف» التي سوف نسمع لاحقًا صوت طلقاتها أو نشمّ رائحة بارودها المحترق.
تُعزِّز «ودنة» عنصري الدهشة والغرابة، فحينما يتجول السندباد ورفيقاه في هذه المدينة يكتشفون أنها مهجورة، ولم يبق فيها سوى الملك الذي تركته مؤخرًا ابنته، وودعه حارسه الشخصي «سرور»، لكي يقيم مع أبنائه الثلاثة، بسبب كبره وعجزه عن تقديم أي خدمة للملك. اقترح عليهم أن يسكنوا في الجزيرة، لكنهم رفضوا، ثم طلب منهم أن يأخذوه معهم ويتركوه عند الوصول إلى أول مكان مأهول. فلم تُغْرِهم التحف المعمارية التي بناها، لأن العزلة سوف تحاصرهم، وسوف تفتك الوحدة بكل واحد منهم على انفراد.
في مدينة «بشرى» يعوّض الملك أصحاب مزارع التفاح ويدمرها كلها باستثناء مزرعة واحدة يبقيها لاستهلاكه الخاص، لكن الصبيان الثلاثة الذين كانوا يبحثون عن الكمأة يكتشفون هذه المزرعة الخاصة ويأكلون من تفاحها دون أن يتسمموا، الأمر الذي يشجع رجال «بشرى» على مطاردة الملك وزراعة التفاح من جديد.
شعر السندباد بالضيق في مدينة «كارلين» التي تجاوزت عصر المكننة ووفرت لأبنائها كل شيء تقريبًا، لكن عددهم لم يتجاوز المائة وعشرين نسمة، الأمر الذي أشعر السندباد بالضيق في هذه المدينة الخالية من البشر تقريبًا.
لم يعثر المغامرون الثلاثة على الجزيرة وحتى لو وجدوها فإن السأم سوف يتسلل إليهم تباعًا. وبحسب خبرة الحكيم فإن المتعة في الرحلة ذاتها. أما زجاجات الريح فقد ظهرت الحاجة إليها عند أول عاصفة هبّت عليهم، حيث أخرج السندباد زجاجته ووجهها صوب العاصفة فأخذت تدور في محلها حتى هدأت كليًا. وحينما وصلوا إلى البصرة ورأى هشام يتصبب عرقًا أخرج زجاجة النسيم من جيبه وفتحها فهبّت نسـمة باردة على المدينة، ليقنعنا السندباد الذي تختبئ وراءه المؤلفة بالمنحى العجائبي لمجمل القصص التي وردت ضمن القصة الإطارية. باختصار شديد، إن شخصيات «كالكنج» تحارب السأم، وتكافح العزلة، وتبحث عن التفرد في مجتمع متنوِّع لا يحبّذ الاستنساخ والتشابه المملّين.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!