تكشف المراجعة والاستقراء الدقيق لنصوص وأدبيات «داعش»، أن التنظيم الإرهابي المتطرف لم يتخذ قرار إعلان ضم الشام إلى دولته ثم إعلانه «الخلافة» خبط عشواء، أو جاء طارئًا بعد الخلاف مع تنظيم القاعدة أو فرعه «جبهة النصرة»، كما راج لدى كثير من المراقبين والمحللين، بل جاء محطة في استراتيجية مرحلية وضعها ودشنها التنظيم قبل ذلك بسنوات. بل لقد التقط مبكرا إمكانية توظيف سياسات التمييز الطائفي لحكم نوري المالكي في العراق، كما التقط ووظف «عسكرة» الثورة السورية وتجييشها طائفيًا شيعيًا من قبل نظام بشار الأسد والميليشيات التابعة لنظام الثورة الخمينية الإيراني التي ظهرت مبكرًا في ساحاتها وميادينها منذ أبريل (نيسان) ومايو (أيار) من عام 2011.
سياقات فهمها «داعش» وتمدد في بناها المشروخة، وأجاد توظيفها كما يتضح في خطة «هدم الأسوار» التي أعلنها «أبو محمد العدناني» عام 2012 أو الوثيقة الاستراتيجية الثانية للتنظيم في العراق الصادرة في يناير (كانون الثاني) عام 2010 أو شهادة أحد قيادات «جبهة النصرة» - أبو ماريا القحطاني - قبل إعلان الخلافة بسنة واحدة، وهو ما سنعرضه فيما يلي:
أولا: شهادة «أبو محمد العدناني» عام 2012:
أشار «أبو محمد العدناني» في رسالة صوتية بعنوان «لاقتحامات أنجع» قال فيها، نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 2012 لما سماه خطة «هدم الأسوار»، وكان ذلك قبل إعلان الخلافة وظهور فيديو يكسر الحدود بين سوريا والعراق، بأكثر من عام ونصف، كاشفًا لعناصره ومؤيديه عن هذه الخطة الجديدة، حيث يقول فيها:
«أعلن أمير المؤمنين في دولة العراق الإسلامية - حفظه الله - الشيخ المجاهد (أبو بكر البغدادي) عن بدء مرحلةٍ جديدة من العمل (الجهادي) للعودة إلى المناطق وبسط السيطرة عليها بالقوة ودحر الجيش الصفوي وأنصاره، فأعلن - حفظه الله - عن خطة (هدم الأسوار) وأعطى توجيهاته وأوامره لضرب مفاصل المشروع الصفوي وأركانه، واستهداف دقيق لرؤوس الحكومة الصفوية». ثم يضيف: «وأتت المرحلة تمامًا كما أراد الشيخ وخطط، فتم اقتحام الثكنات وسحق السيطرات ودك المقرات وإسقاط الطائرات وقطف رؤوس الكفر في كل أنحاء البلاد، وبحمد الله ومنِّه فقط تحققت الخطة المرسومة وأُنجزت الأهداف الموسومة». ثم يضيف عن المرحلة التالية بعد نجاح السيطرة على العراق قائلاً: «وسوف تنتهي هذه المرحلة في الفترة الزمنية التي تم إقرارها وتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ نعلن عنها في وقتها المناسب إن شاء الله».
ويبشر عناصره وتابعيه بأنه ستعلن «الخلافة» على البلدين، وأنه لو شاء لعرفهم الخليفة ولظهر لهم، ولكنه لن يعلن لهم ذلك الآن. هكذا كانت الخطة التالية هي التمدد لسوريا وإلغاء اسم «دولة العراق الإسلامية» ليصبح «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، كما جاء في بيان البغدادي في أبريل 2013، ثم إعلان «خلافة» هذا الزعيم المزعوم لأتباعه رغم أنه مجهول عند غالبهم، كما ذكر بيان متحدثه الرسمي السالف.
لقد وجد تنظيم داعش الفرصة سانحة بعد نجاح «جبهة النصرة»، التي مثلت فرعًا عنه، في سوريا من أواخر 2012 حتى أبريل 2013، وكانت خطوته الاستباقية بطلب بيعة واليه وأميره عليها «أبو محمد الجولاني»، الذي رفض فغادر تنظيمه ثلاثة أرباعه على الأقل، كان ينوي من إعلانه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» إعلان «الخلافة» في النهاية، التي كان يدرك أنه لا يعيقها غير الظواهري وبيعته السابقة لأيمن الظواهري، وإن تأخرت بعد وفاة بن لادن في مايو 2011، ولكن انضمام الظواهري إلى صف «الجولاني» و«النصرة» جعلته يسير في طريق الفصم وأعلنت «الخلافة» فيما بعد، وليس فقط «الدولة الإسلامية في العراق والشام».
من هنا جاء البيان التالي لـ«داعش» على لسان المتحدث باسم التنظيم «أبو محمد العدناني» بعد سنتين في 12 مايو 2014 بعنوان «عذرًا أمير القاعدة» ليؤكد هذا الطموح، حيث خاطبه العدناني بقوله: «عذرًا أمير القاعدة.. الدولة ليست فرعًا تابعًا للقاعدة ولم تكن يومًا كذلك، بل لو قدر لكم الله أن تطأ قدمكم أرض (الدولة الإسلامية) لما وسعكم إلا أن تبايعوها وتكونوا جنودًا لأميرها القرشي حفيد الحسين كما أنتم اليوم جنود تحت سلطات الملا عمر». وأضاف «العدناني» في خلع بيعة الظواهري عن التنظيم الطعن في علاقة الظواهري بالنظام الإيراني الذي احتفظ تنظيم القاعدة بعلاقات جيدة معه، وفي مقدمتها إيواؤه عددًا من أهم عناصرها وأسرهم، بعد الفرار من أفغانستان عام 2001.
شهادة «أبو مارية القحطاني» القيادي في «جبهة النصرة»:
أهمية شهادة «أبو مارية القحطاني» أنه لم يكن فقط أحد أبرز شرعيي وقاعديي «جبهة النصرة»، ولكنه كان أيضًا أحد العناصر الفاعلة في «قاعدة العراق»، وقريبًا من هياكل قيادتها رغم استقراره منذ فترة قبل الثورات في سوريا، بعد سقوط تنظيم «دولة العراق الإسلامية» عام 2007، وقد نشرها على المواقع التواصلية في أغسطس (آب) 2014.
ولقد توقع «القحطاني» طموح «البغدادي» ونزوعه نحو الانفصال عن قيادة أيمن الظواهري وتنظيم «القاعدة»، متوجهًا لإنشاء «خلافة» وإعلان نفسه «خليفة»، ومن هؤلاء «أبو مارية القحطاني» الذي عد الرجل الثاني في «جبهة النصرة»، ولقد وضع على حسابه التواصلي عددًا من الرسائل - نشرت فيما بعد - مندهشًا من صمت الظواهري على «البغدادي» الذي وفق كلامه «شوه الجهاديين في الشام» وارتكب ما يشبه الإبادة الجماعية لقبيلة سنية سورية هي قبيلة الشعيطات، وقال له: «شيخنا الدكتور الظواهري، ساحة الشام كادت أن تلفظ آخر أنفاسها بسبب ما حصل من ظلم وجرم من قبل عصابة البغدادي. وأهل الشام لم يروا موقفًا واضحًا منكم، ويعتقدون إما أن هناك من ينقل لكم الصورة ويؤيد الخوارج، وإما أنكم تعلمون ما يجري، لكنكم عجزتم أن تنصروا إخوانكم وتذودوا عن منهجكم بالبراءة».
وتابع «القحطاني»، مؤكدًا حدسه وظنه في «البغدادي» قائلاً إن «البغدادي» يسعى إلى التمرد على تنظيم «القاعدة» وإعلان «خلافة» تكون ضررًا ليمرد الغلاة بكل ساحة ويجذب أتباعه. ولفت إلى أن «البغدادي» وأتباعه «كادوا يمسخون المنهج. والسبب الذي ساعد هو صمتكم وصمتنا لماذا نصمت؟ لماذا نترك دين الله يلعب به الغلاة ونربت على أكتافهم؟»، وهو ما يؤكد ما سبق أن ذهبنا إليه من كون إعلان تنظيم داعش خلافته المزعومة وتنصيب أميرهم «خليفة»، كان أمرًا معدًا له سلفًا، ولم يكن الخلاف مع الظواهري إلا فكا للارتباط وإعلان سيادة للتنظيم على غيره من التنظيمات (الجهادية)، بهذا الإعلان.
ثالثا: استراتيجية التنظيم في يناير 2010:
لا تصح قراءة «داعش» وتطورها الاستراتيجي والتنظيمي دون مراجعة الوثيقة الاستراتيجية التي وضعها تنظيم «القاعدة» في العراق في قبل تولي «أبي بكر البغدادي» زعامتها بشهور قليلة، إذ صدرت في الأول من يناير 2010، وأعلنت هدفها واضحًا في «إحياء دولتها، التي سقطت عاصمتها في الأنبار عام 2007، وسقطت بشكل كامل عام 2008 استطاعت العودة وبقوة لا لتستعيد حدودها الأولى فقط.
ولكن مناخ ما بعد الثورة السورية وأزمات الولاية الثانية لنوري المالكي دفعها للتمدد سوريًا وعراقيًا، وكذلك التبرير الذي قدمته الميليشيات الشيعية الموالية لإيران لها، فأرسلتها نصرتها «جبهة النصرة» في ما بعد «للاصطياد في هذا المناخ الطائفي - كعادتها مع الميليشيات الشيعية في العراق - مع ضعف النظام الأسدي الذي استمر، ووظف من وجودها في تبرير وجوده، ولكن مع استمرار ضعفه وتراجعه وتقهقره الذي أُقر به في مايو ثم في يونيو (حزيران) 2015 مرتين متتاليتين، ولم ينقذه من السقوط سوى التدخل الروسي في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه. وهو ما زاد من مبررات «داعش» وحمى من أوارها، وهو ما سيستمر ما استمر الأسد وميليشياته الطائفية في كل الأحوال.
لذا نرى أن «داعش» نجح في تحقيق استراتيجيته المعلنة بشكل كامل وكبير في يونيو 2014، وفق هذه الظروف ولم يكن تمدده بعد استحيائه إلا بسياسات أنظمة طائفية فاشلة كنظام المالكي، ثم متمددًا نحو بقايا نظام الأسد ليعلن خلافته. ومن ثم، مثلت هذه الوثيقة سنة 2010 استراتيجية إحيائية لـ«دولة القاعدة في العراق» التي سقطت في الأنبار عام 2007 وسقطت - بفضل الصحوات التي وأدها المالكي - بشكل كامل عام 2008 محددة أولوياتها الجديدة، والسيناريوهات الممكنة لذلك.
لقد تضمنت هذه الوثيقة استراتيجية عسكرية لـ«دولة القاعدة في العراق»، الذي اعترف بانهيار دولتها فيها، كما تحتوي على معاملة مختلفة للأقليات الدينية وشيوخ العشائر بهدف استقطاب تأييدهم، وجذب قواعد اجتماعية مؤيدة لمحاولات «القاعدة» في استعادة دولتها التي تعترف بسقوطها وبوجود عداء ضدها. وأتى الفصل الأول من الوثيقة معبرًا عن الأزمة البنيوية وتشرذم القوى المقاتلة المتشددة، تحت عنوان «السعي الجاد لتوحيد الجهود»، وفيه تدعو «القاعدة» القوى المقاتلة المختلفة للتوحد تحت راية «دولة العراق الإسلامية».
ومن الأزمات الإعلامية التي تكشفها وثيقة سنة 2010 أزمة الرمز السياسي في تنظيم «القاعدة في العراق»، خاصة بعد رحيل «أبي مصعب الزرقاوي» عام 2006 وخفوت رمزية «أبي عمر البغدادي» أو «أبي حمزة المهاجر» من قيادات «القاعدة»، وهو ما يفسر توجه التنظيم للتلميع الشديد والمتكرر لشخصية «البغدادي» قبل ظهوره وبعده رغم قلته.
كذلك دعت هذه الوثيقة لتقديم استهداف الصحوات على سواها من القوات الأميركية أو الأمنية، حسب نصها اختصرتها في جملة واحدة «رصاصة واحدة للأميركيين وتدعو وتسع رصاصات للصحوات»، وتؤكد الوثيقة على أن المرحلة القتالية الحقيقية التي عليها أن تعد لها هي مرحلة ما بعد الخروج الأميركي من العراق، كما أثبتت التجربة الأفغانية بعد الجلاء السوفياتي عن أفغانستان، والاستثمار في التمييز الطائفي تمهيدًا لإقامة «الدولة» ثم «الخلافة».