ليس عن عبث أن حياكة السجاد في كل أنحاء العالم مهنة نسوية، فهي تتطلب السهر والصبر والعمل الدؤوب، بداية من تحويل الصوف إلى خيوط، ثم صبغ هذه الخيوط، وبعدها يبدأ العمل الحقيقي على النول ببطء، غرزة إثر غرزة، بصبر وأناة لا يقدر عليهما سوى امرأة. وقد تمضي حائكة السجاد اليدوي حياتها أمام النول لتنسج سجادة واحدة فتودعها أحلامها.. آلامها.. آمالها، بصبر لا يعرفه إلا من جربه ولا يقدر عليه إلا امرأة، كما قلنا. عمل مضن لا يشبه إلا عملهن الأساسي بحفظ النوع البشري، بيولوجيًا بواسطة الإنجاب، وثقافيًا بتربية الأطفال.
بحكم عملي طبيبًا تعرفت، خلال السنين الماضية، على كثير من النساء السوريات اللائي يحملن كل صفات حائكات السجاد.. يحملن أبناءهن المرضى من الفجر ويمشين في الطرقات الترابية الجانبية الملتفة عشرات الكيلومترات ليخرجن من منطقة محاصرة أو منطقة أعمال قتالية سعيًا منهن للوصول إلى مدينة آمنة تتوفر فيها طبابة الطفل، ثم يعدن بالطريقة نفسها مجتازات حواجز المتحاربين ومناطق القصف، محملات بالدواء والغذاء. هؤلاء النسوة اللاتي ينتزعن أطفالهن انتزاعًا من أشداق الموت، مرضًا أو جوعًا أو بالرصاص، يحتجن إلى مجلدات لجمع حكاياتهن، فظروف الحرب جعلتهن يقمن بدور الأب والأم والأخ، ولولاهن لانهار المجتمع بالكامل. ومع الأسف، فإن حائكات السجاد من هذا النمط يعملن بصمت، وغالبًا لا يذكرهن التاريخ، لأن التاريخ يحتاج إلى أعمال استثنائية ليسجلها، وهذا من عيوبه أو من عيوب كتّابه. دلوني على كتاب تاريخ ذكر امرأة لأنها أنجبت طفلاً وربته وعلمته ما لم يصبح الطفل بحد ذاته مشهورًا. مع أن فعل الولادة والتربية أهم عمل قام ويقوم به كائن بشري عبر التاريخ، دون النظر إلى نجاحات الطفل أو إخفاقاته المستقبلية.. فهل كان النوع البشري ليستمر لولا النساء حافظات النوع؟ ولا يقتصر عمل النساء على حفظ النوع بيولوجيًا؛ بل إنهن حافظات للموروث الثقافي أيضًا، فأغاني المهد وحكايا قبل النوم حفظت ثقافة المجتمع الشفهية قرونًا طويلة قبل أن يتم تدوينها.
خلال سنوات من تتبعي مذكرات وأوراق السياسيين الذين مروا على تاريخ سوريا في القرن العشرين، اكتشفت أي دور لعبته النساء في الحفاظ على تاريخ هذا البلد المنكوب. فنسبة كبيرة من هذه المذكرات والأوراق مرت من بين أيدي النساء مراجعة وتحقيقًا. عملن عليها بصبر وصمت، فشذبنها ورتبنها، وصححن التواريخ، وضبطن الهوامش والمراجع غرزة إثر غرزة، أو ورقة إثر ورقة، حتى صارت مقروءة، ولو بقيت هذه الأوراق على حالتها الخام لما أمكن لأحد أن يستفيد منها. لكن أنامل النساء الحائكات حولت الصوف إلى خيوط ملونة ثم نسجن من الأوراق المبعثرة نصًا كاملاً.
بعضهن ينتسب بيولوجيًا إلى السياسي المعني، فجميل مردم بيك (1893 – 1960) وزير الخارجية ورئيس الوزراء السوري الشهير، قامت ابنته سلمى مردم بيك بتقديم أوراقه للمهتمين بالتاريخ بعد جمعها وتحقيقها، فأنقذتها من الضياع. وكذلك فعلت سلمى الحفار بمذكرات أبيها السياسي لطفي الحفار (1891 - 1968)، وزير الداخلية ورئيس الوزراء، وأحد مؤسسي الكتلة الوطنية، وأحد مؤسسي مشروع جر مياه الفيجة إلى بيوت الدمشقيين. وعلى الخطى نفسها سارت كوليت خوري، فقدمت أوراق جدها فارس الخوري (1877 - 1962) وهو أيضًا وزير ورئيس وزراء ورئيس برلمان وأحد مؤسسي الكتلة الوطنية وممثل الجمهورية الوليدة لدى الأمم المتحدة عام 1945. ومنذ سنوات انضمت ريم الأطرش ابنة القيادي البعثي والوزير السابق منصور الأطرش إلى هذه المجموعة؛ إذ قدمت أوراق والدها «الجيل المدان».
النوع الثاني من «حائكات السجاد»، وأنا أصر على تسميتهن «الحائكات» لأن عملهن يتطلب صبرًا لا تقدر عليه سوى امرأة، فالتنقيب سنوات بين أوراق ربما لو وقعت في أيدي غيرهن لرماها، واستخراج الأساسي، والتصحيح، والقراءة، وإعادة التدقيق، عمل يشبه حياكة السجاد اليدوي.. عمل لا تتقنه ولا تقوم به سوى امرأة تعرف بالغريزة معنى حفظ النوع بيولوجيًا وثقافيًا. النوع الثاني من هؤلاء الحائكات مختلف قليلاً عن النوع الأول اللاتي يعملن بدافع مباشر بحكم انتمائهن بيولوجيًا للسياسي، مع ملاحظة أن هذا لا يقلل من قيمة عملهن، فقد ضاعت كثير من أوراق السياسيين لعدم وجود امرأة، مما خلق فجوة في قراءة التاريخ. أين أوراق أو مذكرات الرئيس شكري القوتلي على سبيل المثال؟
النوع الثاني لا يمت بصلة بيولوجية إلى السياسي، وعلى رأس هؤلاء دون منازع الدكتورة خيرية قاسمية التي رحلت منذ سنوات قليلة، فالمذكرات والكتب التاريخية التي حققتها وأنقذتها من الضياع، لا تعد ولا تحصى، وتحتاج إلى جهد خاص لمجرد تعدادها. أستطيع أن أعدد بعض هذه الأعمال من مذكرات فوزي القاوقجي، إلى مذكرات سامي السراج، إلى أوراق نبيه وعادل العظمة.. مذكرات محسن برازي.. الحكومات العربية في دمشق.. أوراق عوني عبد الهادي.. إلخ. والسيدة الأخرى هي دعد الحكيم التي حققت رسائل عبد الرحمن الشهبندر، ومذكرات فخري البارودي.. وغيرها. وأخيرًا وليس آخرًا أصل إلى سعاد جروس التي انضمت إلى هذا النسق من حافظات النوع عبر كتابها عن الصحافي السوري نجيب الريس «من الانتداب إلى الانقلاب».
لولا هؤلاء النسوة، ولا بد أني نسيت غيرهن، لضاع كثير من ذاكرتنا الثقافية والسياسية عن القرن العشرين الذي شهد ولادة هذا البلد المنكوب «سوريا» الذي يوشك أن يغادرنا ولا نملك سوى أن نلوح له بالوداع، وننكب على دراسة مائة سنة من حياته لنستخلص العبر والدروس لننقلها لأجيال لاحقة قد تستطيع أن تنهض ببلاد الشام مع امتدادها العربي والإسلامي من كبوة طالت.
«حائكات السجاد» السوريات حافظن على تاريخ البلد المنكوب
نسبة كبيرة من مذكرات وأوراق السياسيين خرجت من أيديهن
«حائكات السجاد» السوريات حافظن على تاريخ البلد المنكوب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة