اقتبست في مقالة سابقة في «فضاءات» كلامًا لوزيرة ثقافة ألمانية سابقة تقول فيها إنه يجب على الثقافة أن تؤلم أحيانًا، وفسرتُ كلامها على أنه إشارة إلى أن النتاج الثقافي، من فنون وآداب وغيرها، ليس مكانًا لتزييف الواقع أو رسمه بصورة وردية تخالف ما قد يراه الفنان من أسى وبؤس لا يغيبان عن المجتمعات الإنسانية مهما بلغت من التحضر أو الثراء. فالثقافة تؤلم بقدر ما هي مؤتمنة على الصدور عن ذلك الواقع في لوحة أو مسرحية أو رواية أو عمل موسيقي أو غنائي، أو في شكل فكر ينقله كتاب أو مقالة، أو غير ذلك من أوعية الثقافة العالمة، أو الجادة. ولربما كانت تلك رؤية قاتمة للثقافة؛ لأن في الثقافة ما هو مبهج أيضًا: فيها «أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا» وفيها الكوميديا التي تضحك وإن أبكت، واللوحة التي تنظر إلى الجوانب المشرقة من الحياة. الثقافة بتعبير آخر قد تكون مصدرًا لتخفيف العناء عن الإنسان، وإن كان التخفيف الذي لا يسقط في التفاهة، فهي ترفِّه دون أن تتفِّه.
من هنا شدتني كلمات الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي، وهو يتحدث عن الثقافة، لاسيما حديثه عن المتاحف وعن الثقافة العربية الضاربة الجذور قبل الإسلام وبعده، ففي ذلك ملامسة لجانب جاد ومهم من الثقافة وارتقاء بها وحيث تتجاوز الترفيه إلى ملامسة الجوانب العميقة في حياة المجتمع. فلما جاء الأمر الملكي بإنشاء الهيئة العامة للثقافة تأكدت عملية المسعى وواقعيته، وأن الأمر يتصل بمعدل عالٍ من الاستقلالية لذلك القطاع الحيوي. فالمهم هنا هو خروج الثقافة من ربقة البيروقراطية، وإن استلزم ذلك وقتًا. استقلال الثقافة بهيئة عامة يعني أن للثقافة مستقبلاً غير الذي عهدنا، مستقبلاً رسمت خطوطه الأولى خطة 2030، وأتى الأمر الملكي لينقله من الخطة إلى الواقع على النحو الذي لا بد أن يسعد كل محب لهذا الوطن.
لقد تضمنت خطة المملكة المستقبلية، وذات المرتكزات الاقتصادية في المقام الأول، عددًا كبيرًا من التغيرات الجذرية المحتملة التي لا أظن محبًا لهذا الوطن إلا وهو ينتظرها ويرقب تماثل بشائرها للعيان في أقرب الفرص. وكانت الإشارة إلى الثقافة في معرض حديث الأمير محمد بن سلمان، الذي يقف وراء هذه الخطة، مفرحة بحد ذاتها، فنحن معشر المعنيين بالثقافة في هذا البلد لم نعتد من المسؤولين كثرة الحديث عن الثقافة، ناهيك عن إيلائها أهمية كالتي ظهرت في حديث الأمير. ومن هنا فقد استبشر الكثيرون خيرًا وتطلعوا إلى غد أكثر إشراقًا للحياة الثقافية في المملكة.
أشار الأمير إلى المتاحف وأن المملكة، حيث قبلة المسلمين ومهبط الوحي، تخلو من متحف إسلامي كبير، فأكد أهمية إنشاء متحف للفن الإسلامي يكون قبلة أيضًا للمعنيين بالتاريخ العظيم للفنون الإسلامية على اختلافها. ولا شك أن ذلك هدف رائع بحد ذاته، فمن شأنه أن يأخذ بالثقافة في منحى بعيد وعميق. سيأخذ بها في مسارات التفاعل مع الحضارة والتاريخ لتكون مصدر توعية وإثراء للناس ومنبرًا يرى منه الجميع، مسلمين وغير مسلمين، أن الإسلام لم يكن مجرد عبادات، ناهيك عما يشيع عنه أعداؤه ظلمًا أنه مصدر إرهاب وتدمير لا مصدر تحضر وبناء.
غير أن الثقافة أيضًا لا تتوقف عند حدود المتاحف، على أهميتها وجدية رسالتها، وإنما هي ميدان واسع لتعبير الإنسان عن رؤاه وارتقاء في ذلك التعبير بحيث يكون مصدر استنارة للآخرين. المتعة وبالتالي الترفيه ستكونان محصلة من محصلات الثقافة، لكنهما ليستا جوهرها ولا رسالتها. الثقافة مسرح وسينما وأدب وفنون تشكيلية وموسيقى، والثقافة نشاط مجتمعي يتاح فيه لجميع الأفراد القادرين والراغبين أن يشاركوا ضمن ضوابط الدين الذي لم يقف يومًا ولن يقف الآن بسماحته ووسطيته ضد الفنون، وهو الذي يحث عليها طالما عبرت عن رؤية الفرد المسلم، ولو كان الدين عائقًا لما أذهل الفنانون المسلمون العالم بألوان العمارة والنقوش والتحف في آسيا وأفريقيا بل أوروبا، بل لما تطورت لديهم فنون تمثيلية وموسيقية في أوج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية.
كنت قبل نحو شهرين في المتحف الإسلامي ببرلين، وهو من أكبر المتاحف من نوعها في العالم، فرأيت روعة الفن ودهشة الزوار من مسلمين وغير مسلمين. لكن المتحف، كما هو معروف، ليس مجرد مجموعة تحف صفت بطريقة جاذبة للناس، وإنما هو معبر للتاريخ ومدرسة لكيفية التفاعل مع الحياة على النحو الذي جعل المسلمين في أزهى عصورهم يتفاعلون مع البيئة من حولهم بأساليب خلاقة، فيتضح، كما في متحف برلين، كيف كان الناس يبنون منازلهم ويزخرفونها بالآيات الكريمة والنقوش المختلفة، وكيف كانوا يعنون بجمال الأقمشة ولغة الألوان. كان السجاد الفارسي والتركي، مثلما كان الخط العربي، شواهد على فن رفيع تتنافس عليه وتتباهى به عواصم الغرب من نيويورك إلى برلين ومن فيينا إلى إسطنبول. هذا بالإضافة إلى احتفاء المتحف بالتاريخ العربي قبل الإسلام من خلال حضارات الرافدين وبلاد الشام وغيرها.
إنني أجزم أن الرؤية التي تنبلج أمامنا ستنظر إلى الثقافة على أنها إحدى قنوات التغيير الاقتصادي والاجتماعي ليس فقط من خلال السياحة والترفيه، على أهميتهما، وإنما أيضًا من خلال توعية الناس على جزء من إرثهم الحضاري من ناحية وإتاحة الفرصة لهم من ناحية أخرى للإضافة إلى ذلك الإرث على نحو جاد ومسؤول. وأرجو ألا يخفى على الأمير أو الواقفين وراء هذه الخطة، أن وضع الثقافة في المملكة ليس مما يسر، فلا دعم يذكر، ولا قوانين كافية تنظم، ولا مؤسسات أكاديمية مختصة بالفنون أو حاضنة له. ميزانية وزارة الثقافة والإعلام للجانب الثقافي مخجلة حاليًا (خمسون مليون ريال فقط، أي أقل مما يحتاج إليه متحف واحد أو دار أوبرا في ألمانيا)، والأندية الأدبية وجمعية الثقافة والفنون، المؤسسات الحاضنة حاليًا للمنتج الثقافي، تئن تحت وطأة إمكانياتها الهزيلة (لم تحصل جمعية الثقافة على أي من المنح الملكية التي نالتها الأندية الأدبية رغم أن لها 16 فرعًا في المملكة وهي الحاضنة للفنون على اختلافها). ومن هنا يأتي الأمل بأن تكون الخطة المستقبلية خطة للرفع من وضع الثقافة لنباهي بها دولاً أقل منا إمكانيات ولكنها أكثر دعمًا لها، وأن يكون العمل القادم مستوعبًا للمؤسسات القائمة ومضيفًا إليها وليس منبتًا عنها متناسيًا لمنجزاتها.
وثمة أمر آخر..
إن من لطائف اللغة العربية الغنية بالمغزى أن كلمة «ثقافة»، مثلما هي «طبيعة» و«حياة» وغيرها من الكلمات الأساسية في اللغة، الكلمات المؤسسة للوجود، كلمة مؤنثة. والمغزى هنا هو أن ذلك يجب أن يستدعي اهتمامًا خاصًا بدور المرأة في صنع الثقافة، المرأة السعودية التي لم تعد تقف في الصفوف الخلفية، بل في الصفوف الأمامية أستاذة ومبدعة وباحثة وكاتبة، فنانة تشكيلية وروائية وكاتبة مسرح ومخرجة سينمائية إلى غير ذلك. هذه المرأة ما نصيبها من 2030؟ أكاد أجزم أن مكتسبات اليوم ستتضاعف وأن عدم ذكرها عند عرض الخطة المستقبلية إنما هو لأن ذلك من عداد البدهيات التي لا تحتاج إلى ذكر. قلت أكاد أجزم وأرجو أن أكون محقًا.
الثقافة السعودية 2030.. أي احتمالات؟
وضعها حاليًا لا يسر فلا دعم يذكر ولا قوانين ولا مؤسسات أكاديمية مختصة
الثقافة السعودية 2030.. أي احتمالات؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة