«أولاد الغيتو».. تأملات في مآسي البشرية

إلياس خوري يعود ليكتب عن فلسطيني 48 في عمله الجديد

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«أولاد الغيتو».. تأملات في مآسي البشرية

غلاف الرواية
غلاف الرواية

لكثرة ما كتب إلياس خوري عن الشعب الفلسطيني، وتحديدا عن أهالي 48، يعتقد كثيرون أنه فلسطيني عاش القمع الإسرائيلي بحذافيره وتفاصيله، وكأنه موجود فيزيائيا هناك، حتى أصبح مثل مؤسسة توثيقية لكل القرى المهجرة الفلسطينية، بدءًا من باب الشمس حتى روايته الجديدة «أولاد الغيتو»، الصادرة عن «دار الآداب».
وعنوان الرواية باب عريض يضعنا مباشرة أمام سنة 1948، السنة التي دمر فيها الجيش الإسرائيلي مدينة اللدّ الفلسطينية، وطرد سكانها، فمشوا والموت يطاردهم بمسيرة عُرفت «بمسيرة الموت»، ولكن عددًا قليلاً من السكان لم يقبلوا الخروج من منازلهم، فحاصرهم الإسرائيليون، وطوقوا الحي، وأطلقوا عليه اسم «الغيتو».
وكلمة «الغيتو» تشير إلى «منطقة يعيش فيها، طوعًا أو كرهًا، مجموعة من السكان يعتبرهم أغلبية الناس خلفية لعرقية معينة أو لثقافة معينة أو لدين معين».
وقد عاش سكان الغيتو بين الجثث، وواجهوا كل أنواع وأشكال الْمَوْت والتعذيب، إلى أن أصبحت رائحة الجثث أليفة وكأنها جزء طبيعي من حياتهم اليومية.
وترتكز هذه الرواية على عناصر كثيرة تجعل منها عملاً يثبت أقدام كاتبه على منصة الروائيين أصحاب البصمة الأدبية، حتى وإن لم يكتب سواها.
ومن أبرز هذه العناصر الحكمة، وطرح الأسئلة الوجودية المتلاحقة، وقراءة التاريخ بشكل روائي يمزج بين الواقع المؤلم والخيال الخصب، بين الماضي والحاضر، وبين تقلبات الطبيعة الإنسانية وتغيراتها في أسلوب بارع يقطر ألما.
ولو تمعنا بقراءة «أولاد الغيتو»، لوجدنا أن الكاتب يضع القارئ أمام زبدة أفكاره التي عجنها بتجاربه وثقافته الكبيرة في قالب روائي مبني على تساؤلات وجودية وفلسفية وحكم تسحر القارئ، وتخرجه من إطار الرواية المحدود إلى أفق لا نهاية له، وكأنها رواية سحرية تتكاثر عبر الأسئلة المطروحة بين سطورها فتلد روايات أخرى تقرأها في خيال، كما أن «الحكم» التي جاءت خلاصة تجارب وتأملات في التجارب العامة والخاصة، ومصائر البشرية ومآسيها، تتغلل كل صفحات الرواية تقريبا، كما في: «يجب أن نتخلى نحن عن الأشياء قبل أن تتخلى الأشياء عنا (صفحة 23)»، و«أكتشف أن الصمت أكثر بلاغة من الكلام، وأريد لهذه الكلمات أن تحترق (صفحة 25)، و«أعرف أن الحب هو فن الانتظار(ص 36)»، و«الوقت لا يختفي إلا في لحظتين: الرقص والموت، فكيف إذا اجتمعا؟ (ص 212)». إنها حكم وأسئلة تفتح أبوابا من التأملات الفلسفية ضمن قالب روائي محكم.
وتذكرنا «أولاد الغيتو» بأسلوب جرجي زيدان الذي يعتمد على قراءة التاريخ بشكل روائي، فهو يروي الأحداث التاريخية بشكل درامي، محولا أبطالها إلى شخصيات واقعية نتعايش ونتآلف معها، كما في شخصيات آدم دنون، وإبراهيم النمر، وخلود، وغيرهم من شخصيات الرواية. إنها ليست بشخصيات عادية تمر أمامنا مرور الكرام، فصدق الكاتب في رسمه لها يجعلنا نعيش معهم الأحداث ونصادقهم، وربما نرتبط بهم أكثر من ارتباطنا بإلياس خوري.
تمامًا كما أشار في روايته، قائلاً «أنا لا أفهم كيف يدافع الكتاب عن أبطالهم بالقول إنهم خياليون، وليسوا واقعيين.. تبًا لهم، فأنا اعتبر هاملت حقيقيًا أكثر من شكسبير، والأبله أكثر حضورًا من ديستويفسكي».
أما بالنسبة للمزج الأدبي بين الماضي والحاضر، فقد تنقل خوري ببراعة بين الأدب القديم والأدب الحديث، وربط الصور الأدبية بشكل محكم، فأتى خوري بوضاح اليمن من الماضي ليشبه صمته داخل الصندوق بصمت الرجال في رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»:
«روايتي سوف تقود إلى الصندوق، وهي تشبه في ذلك رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، التي أوصلت أبطالها إلى خزان صهريج الماء كي تطرح عليهم السؤال الممض: لماذا؟»
إن أهم ما يشدنا في رواية إلياس خوري هو اعتماد أسلوب بارع في وصف الألم الإنساني، وتقديم صور من الألم تهز القارئ، وتوحي بأن أبشع أنواع الوحوش هو الإنسان حين يفقد إنسانيته، كما في مشهد الطبيب الذي بال على نفسه من الخوف، ولم يستطع الحراك من مكانه تحت التهديد:
«عندما تراجع الجنود إلى الخلف تاركين الطبيب الذي بال على نفسه من الخوف جالسًا في مكانه (صفحة 201)».
أو صورة أم ترقص طفلتها الرضيعة الموسخة بخرائها أمام جنود الاحتلال وهي تقدمها لهم ذبيحة من فرط قهرها ووجعها:
«تقدمت من الضابط تقول له: خذها، خود البنية، أنا بدي أموت... الأم تصرخ باكية والخراء ينتشر على يدها (صفحة 226)».
هل هناك أقسى من صورة أم تصل إلى مرحلة من الانهيار والضياع لتتخلى عن ابنتها، وتقدمها للموت بيديها، لولا تدخل أحد وجهاء البلد؟ كيف ننسى صورة رجل في حقله وهو يتمسك بحبات البرتقال رغم تهديد الجندي الإسرائيلي له وركله البرتقال بقدمه:
«تقدم الجندي من الكيس، ركله بقدمه، فتدحرجت حبات البرتقال التي داسها... رأي الشباب إبراهيم يمسك بالجبان المتخشبة التي أفلتت من قدمي الجندي، ويضعها في عبه (صفحة 336)».
أو صور الجثث المنتشرة في كل مكان إلى حد أن المنطقة استحالت إلى مقبرة في عيون سكانها:
«فجأة، اكتشفنا أننا نعيش في مقبرة (صفحة 346)».
القارئ السوي لا يمكن أن ينهي رواية إلياس خوري من دون أن يذرف دموعًا من القهر على بلد يغتصب، وشعب يذبح كالمواشي، إنها توقظ كل وجع الدنيا داخل قرائها، فيشعر القارئ وكأنه كان على موعد ليصرخ مع الأحداث، أو من خلالها، وكأن الروائي أرادنا أن نواجه الحقيقة ربما لنشفى من ألم ما مزمن مخزن في أعماق الروح.
قد تكون حدة الألم وقسوة الصور هي التي دفعت الكاتب لإدراج بعض الاستطرادات المحببة كي يعطي القارئ محطة استراحة قصيرة يسترجع بها أنفاسه، قبل أن يدخله في نفق مظلم جديد، ومن بعض هذه الاستطرادات:
«وإذا كانت كلمة الجمال أنثوية فعلاً، فأنا لا أعرف أن أصف الجمال بغير لغة الأنوثة، لأن الجمال مؤنّث ومؤنِّث، مثل الأدب الذي لا يصير أدبًا إلا إذا تأنّث باللغة، وأدخل إليها شفافية الماء، وخفر العيون (صفحة 43)».
وكان من الممكن أن يتخلى الكاتب عن هذا المقطع لأنه لا يرفع من السياق الدرامي، أو يؤثر عليه، ولكنه إضافة موظفة بشكل فني ذكي تنظم نبضات القارئ في هذا العمل الدرامي المتمدد.
ويلفتنا أيضًا في رواية «أولاد الغيتو» استعراض الكاتب للطبيعة الإنسانية وتغيراتها، وكأنه أراد أن يثبت لنا ما قاله هيراقليطس من أن المرء لا يستطيع عبور النهر ذاته مرتين، وبأن احتمالات الحياة لا تنتهي، فكل أحوالنا تتغير مع الظروف، ولا شيء ثابت في الطبيعة أو الإنسان، المرأة نفسها التي رقصت رقصة الموت شاهدناها في نهاية الرواية ترقص من الفرح:
«أغمض عيني، وأراها الآن، المرأة التي رقصت مرتين: في المرة الأولى رقصت للموت، وفي المرة الثانية رقصت للحب».
إلياس خوري، في روايته «أولاد الغيتو»، كان أكثر من وفي للقضية الفلسطينية، فقد حمل الوجع إلينا بإخلاص ونفس روائي طويل. إن «أولاد الغيتو» ليست مجرد رواية، إنها ملحمة شعب وعذاباته التي لا تحتمل، هذه العذابات التي قد ننساها أحيانا، فيأتي روائي مثل خوري ليذكرنا بها، ليس بشكل قوي فقط، ولكن بشكل فني أيضًا.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!