في أواخر النصف الأول من القرن الماضي نشط في منطقة السنجقدار المتفرعة من ساحة المرجة وسط العاصمة السورية دمشق، وفي شارع النصر المجاور، بناء الفنادق على الطراز المعماري الأوروبي، كطوابق متعددة بدلاً من النُزُلْ والخانات التي كانت منتشرة بشكل كبير في دمشق وهي عبارة عن فنادق ما قبل القرن العشرين، حيث تتركز في المدينة القديمة، وكان سبقها بناء فندق «الشرق»، (أوريان بالاس)، في منطقة الحجاز في بداية ثلاثينات القرن الماضي، الذي ما زال قائمًا كحال فنادق السنجقدار، وفي السنوات الأخيرة (ما قبل الأزمة) تم تحويل عشرات البيوت الشامية القديمة إلى فنادق لجذب السياح، خصوصا الغربيين منهم والذين تستهويهم دمشق القديمة والإقامة في بيوتها القديمة.
ولكن مع بدء الأزمة السورية قبل خمس سنوات، اضطر كثير من فنادق دمشق القديمة لتوقيف نشاطه لانعدام الزبائن، ومنها ما أعلن عن بيعه عبر المكاتب العقارية وحتى على صفحات التواصل الاجتماعي، وبأسعار أقل مما تستحق، وحسب إحصائية نشرت أخيرًا، فإن هناك 120 فندقًا قديمًا في دمشق، توقف 20 منها عن العمل بسبب الأحداث والأزمة، فيما حاولت فنادق أخرى داخل المدينة القديمة التغلب على مشكلة انعدام الزبائن بجذب السكان المحليين، من خلال إقامة أنشطة فنية وثقافية واحتضان فعاليات اجتماعية، حتى تبقى مفتوحة.. أحدها فندق «بيت روز». يقول صاحب الفندق سومر هزيم لـ«الشرق الأوسط»: «اضطررنا لإغلاقه في بدايات الأزمة مع غياب السياح، ولكن عدنا قبل فترة وافتتحناه من جديد على أمل انتهاء الأزمة وعودة الزبائن للفندق». كما عمل معظمها على الإعلان عن تحويل باحات هذه الفنادق وصالوناتها إلى كافيتريات ومقاه، وحتى الاستفادة من الرصيف المجاور لها كمقاهي هواء طلق بعلم محافظة المدينة، مثل فنادق منطقة البحصة ودمشق القديمة، في حين أن فنادق السنجقدار وساروجة وشارع النصر وفنادق أزقة ساحة المرجة، استطاعت التغلب على غياب زبائن السياحة من خلال استقبال العائلات المهجرة من أماكن الاشتباكات في الريف الدمشقي وبعض المحافظات السورية، حيث قدّمت لهم عروضًا مغرية بتخفيضات على الإقامة التي تحولت لشبه دائمة، كما استطاعت هذه الفنادق جذب زوار دمشق من المحافظات الأخرى، بسبب أجور الإقامة الرخيصة نسبيًا فيها، ولوجودها في وسط المدينة، وقربها من مختلف الأسواق الدمشقية والمؤسسات العامة والخاصة والمشافي وعيادات الأطباء.
فنادق تراثية أخرى تغلبت على الأزمة، من خلال استقبال طلاب الجامعات الخاصة التي اضطرت إداراتها لترك مقراتها بسبب وجودها في أماكن اشتباكات أو مناطق غير آمنة، فعملت على الاستفادة من هذه الفنادق بتحويل قاعاتها الكبيرة إلى غرف صفية مؤقتة، وغرف المنامة لإيواء الطلاب وتأمين منامتهم فيها، خصوصا أولئك القادمين من المحافظات البعيدة عن دمشق، ومن هذه الفنادق التي استثمرت بشكل مؤقت من قبل الجامعات الخاصة مقابل مبالغ مادية جيدة تُغْنِي عن استقبال السياح، كان فندق «الفراديس» في ساحة المرجة، وفندق «الشرق»، (أوريان بالاس) مقابل محطة الحجاز في شارع النصر. وفي هذا المجال يوضح صاحب الفندق سعيد عماد لـ«الشرق الأوسط»: «مع بداية الأزمة قبل خمس سنوات توقف مجيء السياح، فكان هناك طلب من إحدى الجامعات الخاصة، وهي الجامعة السورية - الأوروبية التي كان مقرّها على طريق درعا جنوب دمشق، وهي منطقة ساخنة أمنيًا، ولم يستطع الطلاب الوصول للجامعة بسهولة وأمان، فاضطرت حفاظًا على استمرار العملية التعليمية لطلابها ولاستثمار الوقت، إلى أن تستثمر فندقنا لصالحها، فاتفقنا مع إدارة الجامعة، وجهزنا بعض القاعات لتكون أماكن للمحاضرات والتدريس، كذلك تعاملنا معهم بالنسبة للطلاب القادمين من المحافظات بتأمين أماكن سكن لهم آمنة ومريحة وقريبة من أماكن التدريس، فالفندق محجوز حاليًا بالكامل للجامعة؛ إدارة وكادرا تدريسيا وطلابا، حتى تتحسن الأمور وتعود الجامعة لمنشآتها الرئيسية، وسنعمل بعد انتهاء الأزمة على تجديد الفندق وتزويده بأحسن وسائل الرفاهية ليواكب التطور السياحي ومستلزمات السياح. ولكن «الشرق بالاس» هو أقدم فندق بني على الطراز الأوروبي في دمشق.. أليس كذلك؟ يجيب عماد: «نعم الفندق شيّده المهندس اللبناني أنطوان ثابت بين عامي 1928 و1932 لصالح ابن مدينة زحلة اللبنانية يوسف خوّام، وظلّ يملكه ويديره خوّام، ومن ثمّ ورثته من أفراد عائلته، حيث لم يكن لديه أولاد حتى أواخر الستينات، واضطر الورثة لبيعه بسبب ضعف مردوده الاقتصادي، حيث كانت سوريا تمّر بأزمة اقتصادية بعد حرب 1967، فاشترته منهم عائلة عماد السورية التي ما زالت تديره حتى الآن، حيث كان الفندق في خمسينات القرن الماضي أهم فندق دمشقي، فقد استقبل كثيرا من الملوك والرؤساء والشخصيات الأدبية والفنية، ومنهم: أسمهان وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وفيروز والأخوان رحباني وصباح وأغاثا كريستي مع زوجها عالم الآثار ماكس مالوان؛ حيث كتبت بعض قصصها في الفندق، وتحدثت عنه في رواياتها ومقالاتها الصحافية. كذلك أقام فيه الملك سعود بن عبد العزيز أثناء زيارته لسوريا، وكان ذلك قبل بناء قصور الضيافة الرئاسية، كذلك احتضن الفندق كثيرا من المؤتمرات المفصلية في تاريخ سوريا». ويتميز الفندق من الناحية المعمارية بطراز أوروبي مع صبغة شرقية؛ إذ إن كتلة البناء كبيرة جدًا وذات شكل هرمي متراجع، وهذا يحقق رؤية لكل الغرف والأماكن بشكل واسع جدًا، كذلك ارتفاع الأسقف، وكبر مساحات الغرف، فهي مزايا كثيرة لا تتمتع بها الأبنية الحديثة. ويضم الفندق 80 غرفة في 4 طبقات، مع لوبي واسع جدًا، وقاعات كبيرة للمؤتمرات والاحتفالات. ويضيف عماد: «لذلك، رأينا أنه من الأفضل قبول عرض الجامعة الخاصة، فهي غاية نبيلة أن يُوَظَّفْ الفندق مؤقتًا للتعليم الأكاديمي الجامعي، بدلاً من تركه هكذا دون توظيف مع غياب السياح والزبائن».
ومن اللافت أيضًا توقف مشروع فنادق «سيرينا» في المدينة القديمة، وهو المشروع الذي أطلقه في عام 2008 الآغا خان الرابع، عندما زار دمشق؛ حيث قامت «شبكة الآغا خان العالمية للتنمية» بالتعاقد مع محافظة دمشق لتحويل أشهر وأكبر ثلاثة بيوت شامية تقليدية في حي مادنة الشحم بدمشق القديمة، وهي: بيوت نظام والقوتلي والسباعي، والتي تعود للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى فنادق تراثية بنمط ثقافي سياحي عالمي، وكان مقررًا أن تكون واحدة من سلسة فنادق «سيرينا» العالمية المصنفة عالميًا واحدة من أفضل خمسة فنادق في العالم صديقة للبيئة، وكانت بالفعل قد انطلقت ورشات الترميم في البيوت الثلاثة لتتوقف مع بداية الأزمة السورية قبل خمس سنوات.
فنادق دمشق التراثية تصارع من أجل البقاء
الأزمة حولت صالوناتها وأرصفتها إلى مقاه ومبانيها إلى جامعات
فنادق دمشق التراثية تصارع من أجل البقاء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة