هوس الجوائز.. وأوهامها

هوس الجوائز.. وأوهامها
TT

هوس الجوائز.. وأوهامها

هوس الجوائز.. وأوهامها

الجوائز بحد ذاتها، هي اعتراف وتقدير لعمل أو كاتب ما، على الرغم من أنها قد تضل طريقها، وهذا ما يحصل كثيرا للأسف، وتصل إلى من لا يستحقها. وهو أمر طبيعي يحصل مع كل الجوائز في كل العالم، ومن تاريخ أول جائزة. والعمل الفائز بأية جائزة مهما كانت قيمته الأدبية لا يعني أنه يمتاز بقدرات فنية وجمالية أعلى من تلك الأعمال التي لم تفز، فالجوائز ليست سباقا في العدو أو السباحة أو رمي الأثقال، يفوز به من هو الأفضل لياقة وتدريبا وجسدا، بعيدا عن احتمالات الخطأ والصواب. ومن الممكن جدا أن يتغير كثير من الاختيارات إذا اعتمدت لجان تحكيم مختلفة، فلكل لجنة حساباتها، وهي أحيانا غير حسابات الأدب، وأذواقها، وتقديراتها، وأحكامها.
منذ تأسيسها عام 1901، أخطأت جائزة نوبل، ربما، أكثر مما أصابت. ويكفي أن نقول إنها تجاهلت العملاق ليو تولستوي، وكأن لجانها لم تقرأ «الحرب والسلام» و«آنا كارنينا»، اللتين لا تزالان تشكلان واحدتين من أهم الروايات في التاريخ الأدبي، بينما ذهبت بالتتابع إلى كتاب معاصرين لتولستوي، لم يعد أحد يقرأ لهم، مثل الفرنسي رينيه سولي برودوم، والنرويجي بيورنتيرن بيورنسون، والألماني تيودور مومسن، والإسباني خوسيه اتشيغاراي. ألم يكن تولستوي يستحق الجائزة؟ أم إنها لا تستحقه؟ ثم، أخطأت الجائزة شاعرا بوزن ماريا ريلكه، أحد أعظم الشعراء في القرن العشرين. وفي سنوات لاحقة، فاز بها، مثلا، روائي لم يقرأ له أحد، فهو كان يكتب باليديشية، شبه الميتة، ونُسي اسمه تماما بعد وقت قصير، بينما لم ينلها كتاب وشعراء يزدادون حضورًا وتوهجًا مع مرور الزمن مثل ازرا باوند، «أب الأدب الحديث»، ولويس أراغون، وبول إيلوار، وغارسيا لوركا، وخوسيه بورخيس، الذي لا يزال مالئ الدنيا وشاغل الناس. والقائمة تطول جدا.
عربيًا، ونقصد هنا أشهر الجوائز، وهي البوكر للرواية العربية، لا يختلف الأمر جوهريا. صحيح أن هذه الجائزة الحديثة العهد، قلبت الطاولة، وعرفت القارئ بأسماء ما كان ليعرفها لولاها، بسبب هيمنة أسماء معينة اعتبرت كبيرة لأسباب مختلفة على المشهد الروائي العربي، ولعل هذا هو فضلها الأكبر. لكن في المقابل، استبعدت روايات مهمة كثيرة، ولا نقول أسماء، حتى من القائمة الطويلة لجائزة بوكر. وهذا بالطبع عائد لاجتهادات لجان التحكيم، التي ضمت في دورات كثيرة أناسا غير مؤهلين، تختارهم لجنة أمناء الجائزة، التي تضم بدورها أعضاء بعيدين لحد كبير عن المشهد الروائي العربي، بحكم وجودهم الطويل في الخارج، وبحكم اختصاصاتهم غير الأدبية، بالإضافة إلى وجود أعضاء لا يعرفون العربية أساسا. وقد خضعت الجائزة للأسف، وفي دورات كثيرة، لاعتبارات الجغرافيا والجندر، على حساب العملية الإبداعية الأكبر من أي جغرافيا أو تصنيف.
ويغيب عن أذهان الكثيرين، أن هذه الجائزة تمنح لعمل واحد، قد يوفق فيه هذا الكاتب أو ذاك. وهذا لا يعني بالطبع أنه ملك المجد، مهما كانت قيمة هذا العمل. الإنجاز الروائي شيء آخر، وهو الذي يبقى في نهاية المطاف. إنه تتويج لتجربة كتابية وإنسانية مؤلمة، تختزن شقاءنا وعذاباتنا ومصائرنا، وتعبر عن إيقاع عصرنا الذي نعيشه. وبالمقابل، لا يعني أي فوز عدم جدارة الآخرين، إنها اختيارات خاضعة لتقييم أشخاص معنيين، ولا ينبغي أن تفهم بشكل آخر. هذا الأمر دائما من جائزة نوبل إلى أصغر جائزة. لكن للأسف تسود أوهام كثيرة حول الجوائز في الأوساط الأدبية والشعبية، وهناك نوع من المبالغة غير المعقولة حول أهميتها، بل هناك هوس ملحوظ، عندنا وعند غيرنا.
في بريطانيا، مثلا، كلما تقرأ خبرا أو مادة أو مقابلة، يتصدر التقديم للكاتب بأنه حائز على جائزة. هكذا بالمطلق، من دون أن يذكروا أية جائزة، أهي محلية - وهي على الأغلب كذلك لكثرة الكتاب الفائزين - أم وطنية أم عالمية، وكأن الكاتب لا يكفيه أن يقدمه إبداعه الخالص. وربما نتيجة لهوس البريطانيين بالجوائز، صدروا بوكر إلى الهند، وسموها بوكر الهندية، وفشلت، ثم إلى روسيا وسموها بوكر الروسية، وفشلت أيضًا، وأخيرا صدروها إلى العرب، وسميت «الجائزة العالمية للرواية العربية» - لكن ماذا تعني «العالمية»؟ هل إذا اشترك مترجم من هذا البلد أو ذاك، في إحدى اللجان صارت الجائزة «عالمية»؟ ثم، إن راعي الجائزة مؤسسة عربية، والأموال المصروفة على الفائزين، وعلى دعواتها واحتفالاتها عربية، ولجان تحكيمها عربية، ومجلس أمنائها عربي، على الرغم من تطعيمهما بعضو غير عربي في كل دورة. مرة أخرى، فأين العالمية هنا؟ يبدو أن مؤسسيها البريطانيين، الذين باعوا الاسم كعلامة أدبية تجارية، يعرفون جيدا كم نحب الفخامة والألقاب، حتى لو كانت بلا مضمون. وهكذا تزرع الأوهام.
وعلى الرغم من كل شيء، لا ضير في الجوائز، بل في هذه الأوهام التي تحيط بها وحولها، والضجيج الإعلامي المبالغ به الذي يرافقها. صحيح أنها قد تطلق شهرة كاتب بها، وأن مبيعات كتبه، وخصوصا في الغرب، ستعرف رواجا أكثر، وبالتالي ربحا أكبر، لكن كل ذلك ليس له علاقة بالمبدعين، والعملية الإبداعية نفسها، التي هي عملية سرية، تجري في الغرف المغلقة ولا شأن لها بما يحصل لاحقا، إذا حصل، من تسويق وترويج يجيده الناشرون، الذين قد يحولون الكتاب بشطارتهم إلى بضاعة تنافس غيرها في السوق. للتجارة قوانينها، وللإبداع قوانينه.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!