يمثل الرئيس أندرو جاكسون أحد أهم الشخصيات السياسية الأميركية منذ استقلالها حتى اليوم. وكما أشرنا في الأسبوع الماضي، فهو ابن الأسرة الآيرلندية الفقيرة التي هاجرت لأميركا وتيتم في الخامسة عشرة، إلا أنه استطاع أن يعلّم نفسه إلى أن أصبح محاميًا ونائبًا قضائيًا في سن العشرين. ومن ثم استقر في ولاية تينيسي، تزوج من امرأة متزوجة بالفعل بعدما هرب معها من دون أن يعلم أن إجراءات طلاقها لم تكن قد حُسمت بعد، وهو ما سبب له مشكلات في مستقبله بعدما لفظها المجتمع الأميركي المحافظ، خصوصًا في الطبقة الأرستقراطية. ولكن على الرغم من ذلك دخل جاكسون عالم الساسة عبر مجلسي الكونغرس قبل أن يستقيل لضيقه من الحياة السياسة فيه، وعيّن بعد ذلك قائدًا لميليشيا ولاية تينيسي، وبنى شهرته على محاربة الأميركيين الأصليين (الهنود الحمر) وطردهم من أراضيهم. ثم جاء انتصاره العظيم في معركة نيو أورليانز عام 1814 في مواجهة الجيش البريطاني. وبعدها احتل فلوريدا مع أن أرسل لمراقبة الحدود في الولاية التي تتبع إسبانيا الإسبانية لحماية المستعمرين من غارات الهنود الحمر. لم يستطع عزل «البطل القومي» إلى أن انتهت ولايته، فازداد طموحه وترشح لانتخابات الرئاسة ممثلاً عن الطبقة الكادحة والمتوسطة. ومع خسر في المرة الأولى - مع حصوله على العدد الأكبر من الأصوات الشعبية - استطاع الفوز في الانتخابات التالية.. فدخل البيت الأبيض.
لقد جاءت ولايتا جاكسون كرئيس للولايات المتحدة (1829 - 1833 و1833 - 1837) لتدخل واشنطن في صراع طبقي متوقع لما مثله الرجل من خلفية اجتماعية وتعليمية متواضعة لم يشهدها البيت الأبيض من قبل. فهو رجل يعتبره معظم أعضاء الكونغرس من فئة دنيا بينما كان هو يمقت هذه الطبقة بكل ما أوتي من قوة. وهذا الوضع ما عصف بواشنطن في مشكلة تلو الأخرى، خصوصًا إبان صراعه مع الكونغرس الذي كان يخشى قوة جاكسون وخوفه من تحويل البلاد إلى ديكتاتورية لصلابته وعناده واندفاعاته وعنفه الفطري. وكانت أولى الخلافات قصة الحب التي جمعت وزير دفاعه بامرأة متزوجة من ضابط في الجيش الأميركي، ويومذاك ساند جاكسون وزيره بكل قوة وصمد ضد المؤامرات التي كانت تحاك ضده. ولكن المشكلة التالية كادت تعصف بالوحدة الأميركية ذاتها، ويمكن اعتبارها الجذور الحقيقية للحرب الأهلية الأميركية بعدها بثلاثة عقود. ذلك أن الكونغرس مرّر بدعم من نائب جاكسون قانونًا يسمح للولايات برفض القوانين الفيدرالية التي لا تتناسب وظروفها السياسية والاقتصادية. وعُرِف هذا القانون باسم «قانون الإلغاء» Nullification Act. هذا القانون شجّع ولاية ساوث كارولينا على رفض تطبيق الضرائب على العبيد، وأخذت هذه الولاية (وهي نفسها التي تفجّرت منها شرارة الحرب الأهلية في أواخر عام 1860) تعد العدة عسكريًا لمواجهة أي تحرّك حربي ضدها من الدولة الفيدرالية. وعلى الأثر تدخل الرئيس بتوجيه نداء إلى الولاية لحماية الوحدة الأميركية مع بعض التهديدات المستترة، وبالنتيجة سوّي الأمر بخفض الضريبة بصفة عامة لرأب الصدع، ولكن ليس قبل أن بذر البذور الأولى للحرب الأهلية خصوصًا بعد انتشار الحركات التحرّرية للعبيد في ولايات الشمال، لا سيما في ولاية ماساتشوستس، من أجل إلغاء الرّق (العبودية) تمامًا لأنها تتنافى مع المبادئ العامة للدستور الأميركي. وحقيقة الأمر أن جاكسون لم يكن متعاطفًا مع هذا التوجه لأنه كان يدرك أهمية العبيد بالنسبة لاقتصادات الولايات الجنوبية التي ينتمي إليها، وكانت تعتمد على زراعتي القطن والتبغ، وهاتان زراعتان تحتاج لأيدٍ عاملة كثيفة ورخيصة. وهو ما وضعه في موقف حرج للغاية، لكن جاكسون استطاع أن يوائم بين قناعاته وقسمه كرئيس للبلاد للمحافظة على وحدة التراب الأميركي.
من ناحية ثانية، لعل أهم تركة لجاكسون في السياسية الأميركية ما هو معروف بقانون «إزاحة الهنود» الذي صدر عام 1830، إذ يدرك تمامًا أن مستقبل الولايات المتحدة يكمن في توسّعها غربًا والاستفادة من الأراضي الخصبة التي تسمح ببناء الدولة القوية التي كان يسعى لها وبما يفتح المجال أمام استيعاب أعداد كبيرة من المستوطنين الجدد. وما كان لهذا الاستيطان القائم على التوسّع أن يتحقق إلا على حساب السكان الأصليين، دفعه لطرد كل الهنود من مناطق شرق نهر الميسيسيبي إلى غربه. وعلى الرغم من أن قبائل الهنود الحمر انصاعت لدعواته إلى تغيير عاداتها وتقاليدها كي يسهل صهرها في المجتمع الأميركي المسيحي الأبيض، فإن هذا لم يشفع لها، إذ كان لا بد من خلق حدود فاصلة بين طريقتين من الحياة مختلفتين تمامًا. وهكذا جرى ترحيل الهنود الحمر قسرًا عبر النهر في مشاهد مأسوية مات خلاله كثيرون. وكانت هذه الصفحة تركة سيئة للغاية لجاكسون، ولكن التقدير أنه لم يكن يأبه بذلك لأن رؤيته الصارمة ما كانت تقبل الحلول الوسط أمام اقتناعه بـ«سمو الجنس الأبيض الذي يحمل في ضميره كاهل الإنسانية والحضارة والدين»!
ومع انقضاء فترة ولاية جاكسون الأولى وحلول الانتخابات الرئاسية، بدأ يعد لحملته الانتخابية الجديدة. وردًا على منتقديه، بدأ رجال حملته يرون ضرورة إنشاء مؤسسة تساعدهم على تنظيم الصفوف لهذا الحدث، وهو ما أسفر عن إنشاء كيان سُمي باسم «الديمقراطيين» لمساندة جاكسون في حملته الانتخابية عن جمع تأييد الطبقتين الوسطى والدنيا، وهو ما تحوّل إلى «الحزب الديمقراطي» بعد ذلك. ولقد رد معارضو جاكسون بإنشاء كيان مضاد تحول فيما بعد إلى «الحزب الجمهوري»، وهكذا رسمت انتخابات الفترة الثانية لجاكسون مسيرة السياسة الداخلية الأميركية من خلال الكيانين السياسيين الحزبيين اللذين لا يزالان حتى اليوم يسيطران على مقاليد السياسة الأميركية.
وجه جاكسون خلال فترة حكمه الثانية للدفع بمساندة الطبقتين الوسطى والدنيا التي أتى منها، وكان يرى أن النظام الرأسمالي بشكله القائم لا يفيد إلا الطبقات الغنية خصوصًا في الولايات الشمالية، وهو ما يحتاج إلى مراجعة. وعليه، كان هدفه التالي القضاء على إحدى أهم الوسائل المتاحة أمام الأرستقراطية الرأسمالية في البلاد وهو «بنك الولايات المتحدة الثاني» الذي كان يركز جهوده نحو تمويل الشركات العملاقة، إذ لم تكن المجتمعات في ذلك الوقت تعرف مفهوم تمويل الصناعات المتوسطة والصغيرة كما هو معروف اليوم، ناهيك بافتقار البلاد للمصارف والمؤسسات التمويلية آنذاك. وحقيقة الأمر أن هذا البنك كان في حينه بمثابة البنك المركزي الأميركي، وكانت الدولة تضع فيه كل أرصدتها. وبينما رأى معارضو جاكسون أن استهداف البنك سيمثل ضربة للاقتصاد الأميركي، كان الرئيس مصممًا على القضاء عليه، وهو ما أدخله في صراع مع الكونغرس لا سيما بعدما استخدم «الفيتو» بهدف تقزيم البنك في نهاية ولايته. وحقًا، استطاع جاكسون الصمود أمام الضغوط ضده، خصوصًا أنه لم تكن له طموحات شخصية بعدما فقد زوجته، وبالتالي، كرّس جهوده في الحياة للدفاع عن معتقداته السياسية والاجتماعية التي يتناقض معها البنك تمامًا. واستمرت المعركة بكل قوة ضد الكونغرس بقيادة غريمه اللدود السناتور هنري كلاي، ومع ذلك فرض جاكسون على الإدارة سحب الأرصدة الحكومية من البنك والعمل على كسب الوقت لحين انتهاء ولاية البنك، ومن ثم موته ميتة طبيعية بعد رفضه التجديد لبقائه. هذا التصرف دفع مجلس الشيوخ للتقدم بما هو معروف باسم «motion of centure» أو ما يمكن وصفه بـ«التقريع» دون أي عواقب قانونية، وهو ما لم يحدث من قبل أو من بعد في تاريخ الولايات المتحدة ضد رئيس الجمهورية، ولكنه حدث مع جاكسون. وأصدر الكونغرس بالفعل «تقريعه» ضده، ومع ذلك لم يأبه الرجل وصمد بكل قوة ورفض التنازل عن موقفه إزاء البنك، الذي أغلق أبوابه في عام 1836 ليعلن انتصار الرئيس «الشعبوي» على الكونغرس، وكان هذا الانتصار آخر معارك جاكسون الشهيرة، الذي انتهت ولايته في عام 1838 وعاد إلى ولاية تينيسسي، حيث توفي عام 1845 ودفن بجوار زوجته.
«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين
«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة