أي عاصفة يقصدها الشاعر عزمي عبد الوهاب في ديوانه «يمشي في العاصفة» الصادر حديثا عن دار «آفاق» بالقاهرة، ثم «هل يعني ذلك أن العاصفة هي سؤال الشاعر وقدره الذي يصعب الفكاك منه، سواء داخليا على المستوى النفسي، أو خارجيا في مواجهة عالم اهتزت فيه ثقة الشعر والشاعر معا؟».
تومض هذه الأسئلة بخفة في نصوص الديوان، ويستعير الشاعر دلالة العاصفة وزخمها في الطبيعة، ناسجا منها رمزية فنية موحية، تمتزج فيها مشاعر من الخوف والقلق، والبحث عن خلاص وملجأ، وفي الوقت نفسه الرغبة في البوح والهتك والمساءلة، وكأن العاصفة مثير سري، يستفز الحواس للذهاب إلى ما هو أبعد من اعتيادية الصورة والمشهد الشعري، حيث يحتمي الشاعر بنصه، بذاته العارية وصراخه في مواجهة عبث الواقع، متأملا مشهد حياته على مسرح أحلامه المنكسرة، المهزومة والمؤجلة، وكأنها خيوط متشابكة في لوحة شعرية سردية، لا انقطاع فيها بين الماضي والحاضر، بين الخيال والواقع، بين العاصفة والنص الشعري نفسه.
مائة صفحة من القطع المتوسط، وأربعة عناوين رئيسية، في ظلالها يحاور الشاعر نفسه، يعتصرها بحدة، فيما تبدو النصوص وكأنها مرايا مهشمة، يصارع وسط شظاياها كابوسا قاتلا من الوحدة والفقد، والشعور الدائم بالإحباط والفشل، واللاجدوى.
تراوح هذه المفاتيح بين القصيدة ذات النفس الطويل، والقصيدة القصيرة ذات النفس الخاطف، مما يمنح عالم الرؤية في الديوان زوايا ومساقط اكتشاف وتكشُّف متنوعة. ويتحرك النفَسَان في خط درامي متشابك الأبعاد والرؤى، مشدودا دائما إلى نقطة البداية، وهي نقطة نائية وجارحة معا، يتناوب عليها إيقاع الحلم والذاكرة، ويختلط فيها الحنين بالألم.
تتراءى هذه النقطة أحيانا في مناخات الطفولة، طفولة القلب والعشق والطبيعة، وتبدو أليفة ودافئة في صورة الأب والأم، لكنها تصبح أكثر حدة وقسوة في صورة الحبيبة العشيقة والتي يقارنها الشاعر بالرصاصة الغادرة قائلا: «الرصاصةُ التي قد تأتي في الظهر/ لأسباب غير منطقية/ أكثر رحمةً/ من انسحابك المقررِ سلفًا/ فلا تبحثي عن مبررات للغضب»، وعل العكس من ذلك يحنو الشاعر على المرأة ويتعاطف مع آلامها، موجها اللوم إلى القصيدة، قائلا «فلتذهب القصيدةُ إلى الجحيم / ما دامت لم تدفئ غرفة امرأة في الشتاء / هذه القصيدة سيعذبها الله كثيرا / لأنها نامت في أوراق شاعر / وتركت امرأة تتعذب في برد الوحدة».
هذه المسافة التي تفصل بين ما يخص الذات والأشياء، إحدى العلامات الفنية المهمة في الديوان، وبيقظة حواس طازجة استطاع الشاعر أن يحفظ لهذه المسافة قدرا عاليا من الشفافية، فأصبحت بمثابة جسر يربط ويفرق بين الاثنين معا، كاشفا عن جدلية خاصة بهما، فلا الذات تخفي الأشياء في حراكها واشتباكها مع العالم ولا الأشياء تخفي الذات، وإنما كلاهما نافذة مفتوحة بحيوية على الآخر، تملك حرية الذهاب والإياب منه وإليه، بقوة النص نفسه، وما يفرزه في نسيجه من اشتباكات وتقاطعات ودلالات وتجاوزات على مستويي الشكل والمضمون.
ينعكس هذا المناخ على طبيعة اللغة في الديوان، فهي لغة تتوخى النصوع، غير ملتوية، ليس بها نتوءات ولا تعرجات، تصل إلى المعنى بسلاسة، وتحيله إلى ما يخصها، تارة في شكل مفارقة فنية، أو حزمة معينة من الدلالات والرموز، وتارة أخرى بالوقوف على حافة الحكاية والإيهام بها، باعتبارها تمثل تقطيرا لعلاقة الذات بالزمن، سواء في بعده الواقعي أو المتخيل، كما أنها تتيح للذات الشاعرة مساحة رحبة إنسانيا لتفجير الأسئلة والحوار، وفي الوقت نفسه، التوغل في عتمة الحاضر عبر استحضار الغائب المهمش، ووضعه في دائرة الضوء بعلاقات وإيقاعات شعرية، تنتفي فيها الفواصل بين الحاكي والمحكي عنه، وكأنهما عجينة واحدة.
يتجسد هذا الملمح على نحو لافت في القصيدة التي وسمت عنوان الديوان، ويقول فيها الشاعر:
«ربما تعرفين معنى أن يمشي رجل في العاصفة وحيدا
دون يد، تمسح الغبار عن روحه المتسخة بالمطر
أنت الآن نائمة في دهاليزك السرية
فامنحي تلك القصيدة العجوز
فرصة أن تلوك سنوات عمرك
كوحش
يقتلع مدينة ساحلية من جذورها
ويعلقها في الهواء
بين صدره وقائمتيه الأماميتين
ليت روحه تخف
ليت الطاقة الشريرة
التي يدعيها لنفسه كانت حقيقية».
هذا التمني الذي يناوش الحقيقة بكل ثقلها وخفتها، يتبلور أحيانا عبر جمل مركزية ذات مقومات سردية، تتصدر بداية قصائد أساسية بالديوان، كتلة للتشكيل ونواة للإيقاع، مثل (سأحكي لك كثيرا / سأحكي عن الثورة.. أو: اتركيه لحاله يا حنين). تفوح من هذه الجمل رائحة الرسائل الخاصة، كما تمتزج في نجواها ودلالاتها طبيعة الحب مشرّبا بغلالة إيروسية شفيفة، أيضا يومض الواقع والحياة اليومية بأقنعتها السياسية وغيرها.
هكذا يتعامل الشاعر مع ماضيه، فهو الحاضر بقوة في علاقة عاطفية لم ينته غبارها بعد، وفي مشهد ثورة تعثرت خطاها في دروب الحرية، لكن يبقى ما يوحّد بينهما شعريا وفكريا، أن كليهما (الثورة والحبيبة) لم يستوعبا تعارضات الجسد والروح، لم يمنحاها فرصة النمو بحرية، بعيدا عن خمائر التكيف والإذعان ونصب الفخاخ، بحجة البحث عن حقيقة مضللة وكاذبة.. لذا، لم يبق أمام الشاعر سوى أن يرثي الاثنين معا، بل يسخر منهما أحيانا، وكأنهما صدى لصرخة وحلم لم يتنفسا هواءً حقيقيا.
واللافت أيضا أن الديوان يتمثل هذه العلاقة باعتبارها ظلا ليقين مبتور ومشوَّه، وصرخة عاتية، أصبحت مادة للاستهلاك والثرثرة، قائلا في قصيدته «لرجل حمل البحرَ على كتفيه»، والتي يفتتح بها الديوان:
«الأشجارُ تكره الوقوف
العصافيرُ قتلها الصمت
القطارات ماتت انتظارا في المحطات
الهواتف لا تنقل الكلامَ بين المحبين
المحبون حبسوا البهجةَ في عيونهم
المراهقون بحثوا عن حديقة مناسبة للغرام
وتجمّدوا في مقاعدهم
تركوا بينهم مسافاتٍ يجرِّب فيها الهواءُ سطوته
البردُ أكل أطراف الرجال
النساءُ استسلمن في معركة غير متكافئة مع الوحدة
حتى الأطفال شاخت براءتهم
كل شيء أصابه الخرس».
صور متلاحقة تشبه ضربات فرشاة في لوحة تشكيلية تشير إلى «طبيعة صامتة»، وصمت يتحول في النص إلى طبيعة مقموعة ومغدورة، ترفده دلالة العنوان الفرعي للنص «متحف الشمع»، وجمل اسمية لا تكف عن إثبات هذا اليقين المبتور، وفي الوقت نفسه، تشف في ظلال الصور محاولة حثيثة لـ«الأنا» و«النحن»، بحثا عن نقطة ضوء لتثبيت أقدامهما الممزقة حتى لا تنزلق في هوة النسيان، وتصبح الحكاية مجرد قشرة لحلم فارغ من المعنى، تروى من قبيل البحث عن مرثية ضائعة، لأزمة وطن، سرقوا منه ثورته في وضح النهار.
يجسد الشاعر هذا المشهد في قصيدته الطويلة بعنوان «سأحكي لك كثيرا» قائلا:
«سأحكي
عن الثورة التي سرقت من ميدان التحرير
لأن الأشجار لا تكبر في الصحراء
وأعمدة الكهرباء لا تصدق غناء الطيور
ولأن رجلًا مهزومًا
أيقن أن الأبدية شيء مستحيل
أخذ يحكي هاربًا
في أحاديث الثورة
ولماذا يكره الإخوان والسلفيين
ولأن شيئًا انطفأ في روحه
لم يعد قادرًا على الطيران
وستبقين صامتة كبحيرة مهجورة
وأنت بكامل ملابسك تمامًا
وأنا بكامل الحمى والهذيان
لا أعرف كيف أعود إلى بيتي
عاريًا هكذا!».
من ثم، يوحد عزمي عبد الوهاب بين فكرة الشعر وفكرة الحياة، سواء على مستوى الخاص والعام.. ويرى أن الوجه الأمثل للحقيقة هو الجهر بها، أيا كانت: صورة باهتة على جدار العاطفة، أو محاولة للبحث عن إغراءات أخرى للشعر والحياة، أو الفرح بالعثور على شذرات لقصيدة عصية، لا تقبل التناسخ فوق حوائط اللغة والتاريخ.. لذلك، لا مناص عن المغامرة، عن المشي في العاصفة، حتى تمارس انقلابك على ذاتك، على العالم، قبل أن ينقلب هو عليك، وتتحول دوائر الوعي واللاوعي، من محاولة للإمكان والفهم، إلى متاهة سرمدية في كون أصبح محفوفا بمخاطر لا حد لها من الوجع والاستلاب.. يعي الشاعر ذلك، ويربطه بوجه الحقيقة الهارب، ويحاول أن يجد له تفسيرا أو معادلا شعريا، وهو ما نحسه في ختام قصيدته «اتركيه.. لحاله يا حنين»، حيث يصبح الحبيبة، هو نفسه سؤال الحقيقة والحلم والوطن والحرية، قائلا:
«متى تكونين حقيقية يا حنين؟
- عندما تريدني امرأتكَ
اذهبي .. يا حنين
فالجمل التي لا محل لها من الإعراب
تباع في الدكاكين، وتصنع كتبا مصيرها الحريق
والرجال المحشوُّون بالقش مرميون على قارعة الطريق
اذهبي.. يا حنين».
يبقى أن أقول في هذه الإطلالة على عالم هذا الديوان، وبتحريض من مناخاته الثرية، «إن الشعر سيفشل دائما في أن يكتب الثورة، إن لم يعشها أولا في داخله، كما أنه من الصعب أن يشكل وعاءً لخبراتنا وتجاربنا وعواطفنا الشخصية، إن لم يعلمنا كيف نثور على أنفسنا.. حينئذ يحق لنا أن نقول، نحن شجرة الشعر، شجرة الجمال والحرية».
الشعر.. في العاصفة
عزمي عبد الوهاب اتخذ منها رمزية فنية تمتزج فيها مشاعر من الخوف والقلق
الشعر.. في العاصفة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة