من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

أميركا «الأنتروبية» والفرار إلى الراديكالية الدينية

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
TT

من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)

مع تقدم حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية يتزايد التوظيف السياسي للدين، والعزف على أوتار الأصولية الدينية اليمينية المسيحية، بنوع خاص في الولايات المتحدة. ويبدو من سوء الطالع أن أحداثا بعينها أضحت تزخّم هذا التوظيف عملا بمقولة «أبي البراغماتية السياسية» التي توظف الأديان والإنسان لخدمتها، نيكولا مكيافيللي «الدين ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة». ولعل أبرز هذه الأحداث، العمليات الإرهابية الأخيرة التي كان مدينة بروكسل، عاصمة بلجيكا والاتحاد الأوروبي، ومقر حلف شمال الأطلسي «ناتو».
جاءت أحداث الإرهاب الأخيرة في العاصمة البلجيكية بروكسل بمثابة جائزة على طبق من ذهب للمتنافسين في سباق الرئاسة الأميركية. ويلحظ المرء هنا أن التوظيف المشار إليه يكاد ينحصر في الحزب الجمهوري الذي بات يدغدغ مشاعر التيارات المسيحية الإنجيلية، عطفا على بعض غلاة اليمين من التيارات الكاثوليكية المتشددة. وهؤلاء يشكلون، ولا شك، مفتاحا جوهريا في طريق الوصول إلى البيت الأبيض، وتجمعهم في واقع الحال رؤية دينية واحدة، ومصالح اقتصادية مرتبطة ارتباطا جذريا بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي، المحرك الأول والرئيس للحروب حول العالم، وإن ارتدت زيا دينيا منخولا.
يتوجب علينا، ربما قبل الخوض في عملية تحليل المضمون لواقع الحال الديني الأصولي اليميني الأميركي، الذي قاد الولايات المتحدة في سنوات إدارة رونالد ريغان وتحكّم بمواجهته مع الاتحاد السوفياتي، والذي استعلن كذلك في أيام جورج بوش الابن وأدى إلى المواجهة مع طالبان في أفغانستان، ثم غزو العراق، يستوجب، ولو في اختصار غير مخل التأصيل للظاهرة.
يمكننا القول: إن تعبير «الأصولية» نُحت في عام 1920 في الولايات المتحدة على يد القس المعمداني والصحافي كورتيس لي لوز، الذي تعهد بأن المؤمنين «سيخوضون معركة حامية الوطيس من أجل الأصول». ولعل المتابع المحقق والمدقق للحياة الفكرية في الولايات المتحدة طوال العقدين الماضيين يرصد سلسلة مؤثرة من المقالات لمائة كاتب من مختلف المشارب والتوجهات الدينية، ركّزت على العناصر المفتاحية في الدين المسيحي، بعنوان «الأصول» شهادة على الحقيقة، وقد مثل هؤلاء الكتاب حركة قوية بين البروتستانت المحافظين والإنجيليين رفضت انتشار التفسيرات التاريخية - النقدية للكتاب المقدس، وعدت طرائق التفسير الجديدة خيانة للحقيقة المطلقة للإنجيل.
وفي الوقت ذاته، كان هؤلاء الأصوليون الأوائل يردّون بشكل صارم وسلبي على النزعات الليبرالية والشيوعية، وغيرها من النزعات الملحدة التي تزايدت وانتشرت في المجتمع الأميركي.
أما تعبير «أصولية» فقد وعد بتوفير أرضية آمنة للمؤمنين بالكتاب المقدس، والمتشبثين بإيمانهم وبقوة مبادئهم الأخلاقية، والملتزمين بالوقوف بصلابة في وجه نزعات الانحطاط والانحلال في العصر الحديث. والثابت، أن تيار الأصولية اليمينية يتجلى بنوع خاص في أوساط الجمهوريين الأميركيين الذين يميلون إلى تشكيل سبيكة النسيج الاجتماعي الأميركي للمؤمنين، بخلاف الديمقراطيين الذين تعد العلمانية حجر الزاوية بالنسبة إليهم. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم مواقف كل من دونالد ترامب وتيد كروز المرشحين الأبرز الساعيَين للحصول على بطاقة الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة.
إذا توقفنا أمام ترامب، الذي يعد ظاهرة مثيرة للجدل على الساحة السياسية الأميركية والذي يشكل حجر عثرة، لا نقطة ارتكاز للأميركيين عادة وللجمهوريين خاصة، نجد أنه يغازل التيارات اليمينية المسيحية، التي تؤمن بفكر المطلق الأصولي. ذاك الذي يقصي الآخر مرة وإلى الأبد. وبصراحة العبارة، غالبا ما تدور الدوائر حول الآخر «المسلم» تحديدا، وبالعزف على أوتار الإسلام السياسي، كأحد المصادر الرئيسة للإرهاب في تفسير اليمين الأميركي الديني وتبريره، وحتى لو لم يكن ترامب نفسه مؤمنا أو طقوسيا، إنما هي «الميكافيللية» بعينها.
والواقع، أنه منذ بداية حملته الانتخابية وضع ترامب يده على الجرح الذي لا يزال مفتوحا عند الأميركيين، والمتمثل في العلاقة مع المسلمين في الداخل والخارج. ولقد خيل لكثيرين، أن عقد ونصف العقد من الزمن منذ أحداث سبتمبر (أيلول) 2001. فترة كفيلة بمداواة جرح واشنطن ونيويورك. لكن ما جرى في باريس وبروكسل، أعطى ترامب فرصة ذهبية للسيطرة على مقدرات ملايين الأميركيين، أو في أضعف الأحوال محاولة الهيمنة عليها وتوجيهها إلى صناديق الاقتراع لانتخابه رئيسا للبلاد.
لقد طالب ترامب بإغلاق أميركا في وجه «المسلمين الجدد»، إن جاز التعبير، أي القادمين إليها لاجئين أو مهاجرين. وقال، إنه سيفكر بجدية في إغلاق عدد من المساجد، ووضع عدد آخر تحت المراقبة. وأبعد من ذلك، تعهد بأنه حال الوصول إلى البيت الأبيض سيصدر هويات شخصية خاصة بالمسلمين، وربما يمضي في طريق إنشاء قاعدة بيانات لتسجيل جميع المسلمين المقيمين في أميركا وتتبعهم.
وفي أعقاب حادثة بروكسل، شكك ترامب في وطنية المسلمين الأوروبيين والأميركيين معا، واصفا إياهم بمعنى قريب من «الخيانة»، إذ إنهم «لا يبلغون عن الأنشطة المثيرة للريبة، وإن قادت إلى وفاة الناس في عمليات إرهابية».
يعلم ترامب جيدا، وكذا العقول المفكرة في حملته، أن هذه الاتهامات سيتلقفها ربع الراشدين من الشعب الأميركي تقريبا الذين ينحون إلى اليمين المسيحي، والعهدة هنا على الراوي، البروفسور وليم مارتن، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة رايس الأميركية.
ويرصد كذلك الكاتب الأميركي، داميان طومسون، في كتابه «نهاية الوقت - العقيدة والخوف في ظل الألفية»، أن نسبة نمو المسيحية الإنجيلية في أميركا تزيد على أي اتجاه ديني آخر في العالم. وتؤكد صحة هذا الكلام الدراسة التي نشرت يوم 13 مايو (أيار) عام 2015. الصادر عن مركز بيو للأبحاث في واشنطن، إذ أشارت إلى أن الإنجيليين الأميركيين الذين تتجاوز نسبتهم ربع الأميركيين في ازدياد عددي، كما أن المسحة الدينية لأميركا بشكل عام تبدو واضحة، إذ يعرّف 70 في المائة من الأميركيين أنفسهم بوصفهم مسيحيين.
أما العالم الأميركي البروفسور جون غرين، من جامعة أكرون، فيقدر عدد الذين يتمسكون بالأصولية الإنجيلية الساعية للمواجهة الحتمية بين «الذين معنا والذين ضدنا»، وحالة التقابل المانوي التاريخي، بين «مدينة الله» و«مدينة البشر»، أو بالمفهوم الإسلامي «دار الحرب» و«دار الإسلام»، بنحو 62 مليون أميركي.
وما يلفت النظر في الحديث الخطابي الانتخابي لترامب، أن مفرداته تكاد أن تتطابق مع العبارات ذاتها التي تفوه بها من قبل بضع سنين بوش الابن، فترامب يصرح الآن بأن الله ـ وحاشا لله بالطبع - «اختارني لإنقاذ الأمة من العابثين بها». هو الخطاب نفسه، الفوقي الثيولوجي المنحول لبوش الابن في حديثه عن غزو العراق، وكيف أن السماء قد كلّفته دون البشر، بهذه المهمة. ولم يكن غريبا عليه ذلك، فقد ثبتت والدته باربارا بوش في مخياله الفكري قبل عقود أن شبها ما يربط بينه وبين النبي موسى. وكما أن موسي أخرج العبرانيين من أرض مصر، فإن بوش قادر على إخراجهم من وهدة الليبرالية وضلال العلمانية، إلى نور الدوغائية المسيحية المتشددة، الأمر الذي أثبتت التجربة والحكم فشله فشلا ذريعا.
لا يتوقّف الزخم اليميني الأميركي عند ترامب، بل يمضي كذلك لجهة مرشح آخر، من الجمهوريين كذلك، وحتى وإن لم تكن حظوظه، راهنا، تطال حظوظ ترامب، غير أنه، حكما، سيكون له دور بارز على خريطة الحياة السياسية الأميركية في المستقبل.
نتحدث هنا، ولا شك، عن السيناتور تيد كروز، المحامي المثقف والآيديولوجي صاحب المنهجية والكاتب المثقف خريج كبريات الجامعات الأميركية، والمحامي التكساسي، الذي يعد أكثر خطورة من ترامب العشوائي التفكير. لم تبدأ مغازلة كروز للتيار اليميني المسيحي مع هذه الحملة الانتخابية الرئاسية، وهذا يدلل على أنه صاحب رؤية زمنية مرتبة وواضحة منذ وقت بعيد. ورغم مواقفه الحديثة، فإن الأخطر في تواصله مع اليمين الأميركيين يرجع إلى الوراء وبقوة.
وطبعا، ما كان كروز ليفوّت فرصة حادثة بروكسل ليثير مشاعر الخائفين في الداخل الأميركي، ولهذا رأيناه يدعو السلطات الأميركية إلى منح دوريات الشرطة صلاحيات أكبر لمراقبة الأحياء التي تقطنها غالبية مسلمة، تجنبا لظهور نزعات راديكالية فيما بينهما.
وفي تدويناته على وسائط الاتصال الاجتماعي بعد ساعات من مأساة بروكسل، كان من الواضح جدا أننا أمام نسق للتفكير «الهنتنغتوني» (نسبة للمؤرخ صامويل هنتنغتون) الصدامي، إن جاز التعبير. إذ عدّ أن العالم بالفعل مقسّم لمعسكرات ثقافية وحضارية بين «نحن» و«هم». ولهذا كتب كروز يقول: «إننا جزء من ثقافة لا يحتملونها، ولهذا تعهّدوا بتدميرها. والآن يشهد حلفاؤنا الأوروبيون ما نتج من المزيج السام للمهاجرين الذين تداخل معهم الإرهابيون».
هذا الطرح، بلا شك، يلقى هوىً واسعا داخل صفوف اليمين الأميركي الرافض لاستقبال مزيد من المهاجرين من جهة، ويقلص من مساحات الوصل والتواصل مع المسلمين الوطنيين والمواطنين الطبيعيين في الداخل الأميركي، بل يضع العصا في دواليب التعايش السلمي بين الجميع، وبذا يحقق فكرة التمايز العنصري الثقافي والحضاري والديني في نهاية الأمر.
أما عن القديم في آليات كروز، فيتمثل في محاولاته الدءوبة لاستمالة غلاة اليمين المتطرف من مسيحي الولايات المتحدة عبر «كعب أخيل» في الفكر الديني الأميركي، أي إسرائيل والرؤى التوراتية، التي تشكل جدارا سميكا لليمين الأصولي.
ذلك أنه في الحادي عشر من سبتمبر من عام 2014. كانت العاصمة الأميركية واشنطن تستضيف مؤتمرا «للدفاع عن مسيحيي الشرق الأوسط». وفي تلك الليلة، كان السيناتور كروز أحد المتحدثين الرئيسين في اللقاء، ولقد استغل الفرصة لتوجيه هجمات إلى تيار المسيحيين العرب الذين يرون في إسرائيل دولة احتلال و«فصل عنصري»، والذين يرفضون واقع الدعم الأميركي لإسرائيل.
ولم يكن في واقع الحال شأن المسيحيين العرب، قضية تهم كروز في كثير أو قليل، بل كان الأمر بمثابة تقديم مسوّغات قبول لليمين الأصولي الأميركي الذي يرتكن ارتكانا مطلقا على «العهد القديم» والذي يرى في الأرض الأميركية «أرض كنعان الجديدة»، وفي الأميركيين «الشعب المختار الجديد».
ومنذ بضعة أسابيع، أطلقت بعض الأصوات المعروفة بعمق تحليلها للشؤون الأميركية عبر عقود طوال، على الانتخابات الرئاسية للعام 2016 وصف «الانتخابات الهرمجدونية» والمعروف أن «هرمجدون» (أو آرماجدون) هي قمة الحبكة الدرامية للرواية اليمينية الإنجيلية، البروتستانتية، التي تداخلت بشكل كبير مع عالم السياسة الأميركية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وصولا إلى بوش الابن، وها هي كما نرى تتصل بترامب وكروز.
«هرمجدون»، للذين لا يعلمون، هي فكرة الحرب الكونية التي لا بد لها أن تحدث بين «جيوش الشر» القادمة من الشرق، و«جيوش الخير» الآتية من الغرب، والمدينة المقدسة أورشليم القدس هي موقعها وموضعها. وتدخل الفكرة برمّتها في سياق ما يعرف بالتفكير «الأبوكاليبسي» عند غلاة اليمين المسيحي من جديد، وتأتي استعلانا «أسكاتولوجيا» يتصل بنهاية الأزمنة وقيام الساعة.
هذه الفكرة روج لها رونالد ريغان، وجراءها طرح مشروعه المعروف بـ«حرب النجوم»، وبسببها حرّك بوش الابن جيوشه إلى أفغانستان والعراق شرقا، ولهذا يرقص من حولها ترامب وكروز، واضعين التقسيم المؤلم لصامويل هنتنغتون من جديد، معسكر إسلامي – كونفوشيوسي شرقي، في المواجهة مع عالم مسيحي - يهودي غربي من ناحية أخرى.
وتاريخيا، تزداد وتيرة الأصولية مع الأزمات. ولقد ارتفع المد الأصولي الأميركي إلى عنان السماء في أعقاب الخسائر الفادحة التي حلت بالأميركيين في حرب فيتنام في ستينات القرن المنصرم. وعدّ الأميركيون يومذاك، أن يد الله تخلت عنهم، في حين ساندت دولة إسرائيل الصغيرة، التي، رغم عدد سكانها القليل جدا وإمكاناتها التي لا تقارن البتة مع قدرات أميركا العظمى، استطاعت أن تحتل من أراضي العرب والمسلمين في ست ساعات. ومن ثم استنتج هؤلاء أن «الرب يناصر الإسرائيليين ويتخلى عن الأميركيين الذين غرقوا في الحداثة، وما من حل إلا العودة إلى الأصول الدينية من جديد»، وهو ما جرت به المقادير فعلا وقولا.
اليوم تجد الولايات المتحدة ذاتها في أزمات هوية، تولّدت عن إشكاليات اقتصادية وسياسية وفكرية، وحيرة حول الهوية بين الدولة العلمانية بحكم الدستور والدولة الدينية في واقع الحال.
ولعل الإقبال على ترامب والتصويت له ليس إلا تعبيرا عن حالة أميركا «الأنتروبية»، المليئة بالقلق والملل، المضطربة والقلقة نهارا والمؤرقة ليلا، ولهذا ربما يجيء اختيار ترامب نوعا من أنواع العقاب من الطبقة الوسطى الأميركية للنخبة السياسية الزائفة. هذه الطبقة بطبيعة الحال، لا دالة لها على عمق البحث الفكري أو الديني لتبيان «الغي من الرشد»، ولهذا تشكل القاعدة العريضة لأصحاب «الإيمان المغلق»، أي غير القابل للمناقشة أو المجادلة، إيمان الأصوليين، الذين يقال لهم يمينا يمينا، أو يسارا يسارا.
وليس من المفاجئ إذن، والحالة هذه، أن نرى ترامب وكروز يتلاعبان بصفوف اليمين الأصولي الأميركي وصنوفه، والوقائع المستجدة من باريس إلى بروكسل تخدمهم، وما عليهم إلا أن يصوروا للناخب الأميركي اليميني، حال الأعداء من المسلمين خاصة، المتربّصين بهم عند كل ركن وخلف كل منعطف. أولئك الذين لهم رسالة واحدة، هي قتل الحضارة الغربية، والقضاء على المسيحيين حول العالم، وتصريحات «داعش» لا تعوز أحدا في هذا السياق.
ويضحى من الطبيعي هنا أن ترتفع الأصوات الساعية لاستحضار شكل الأمة وجوهرها، وقيم العائلة الأميركية التقليدية «المسيحية»، ومن ثم إعادتها إلى نقائها الأصيل واستقرارها الأصلي، كما يزعمون، وهي رؤية تخدم أصحاب ثقافة الحرب، الوثيقي واللصيقي العلاقة باليمين الأصولي الأميركي، أولئك المعروفون بجماعة المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الذين تخدم صراعات المطلقات حروبهم، وتزيد من ثرواتهم.
في كتابه «الصراع على الله في أميركا» يحدثنا جيكو موللر - فاهرنهولتز، اللاهوتي الألماني والباحث المستقل، الذي عمل مستشارا لحركة وحدة الكنائس العالمية عن حقيقة أن قرابة ثلث السكان في الولايات المتحدة يعيشون أفكارا وممارسات أصولية، إذ تهيمن الكنائس الوطنية الكبرى المغالية في توجهاتها المحافظة، وزعماؤها على محطات الإذاعة والتلفزيون في شتى أرجاء البلاد، والتي تغذي الانطباع بأن أميركا في حالة حرب تدافع فيها عن نفسها بعناد في مواجهة أعداء يتمتعون بقوة ساحقة داخل الوطن وخارجه.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.