بينما يشكل معتقل غوانتانامو الأميركي أشهر حالة عالمية من نوعها تتعلّق بالسجناء المتهمين بأعمال إرهابية من خلفية التطرف الديني، فإن معتقل (أو سجن) باغرام في أفغانستان، لا يقل سوءًا من حيث أوضاع السجناء. وهذا السجن الذي تسلمته السلطات الأفغانية أخيرا بعد فترة من الإشراف الأميركي يضم في جنباته عددًا كبيرًا من المتهمين المتطرّفين والإرهابيين، سواء من أفغانستان أو دول أخرى، في طليعتها باكستان. وتزداد التخمينات حول أهمية هذه الخطوة مع ظهور خطر تنظيم داعش، وإصرار الجمهوريين الأميركيين في سنة الانتخابات الرئاسية على رفض قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما بغلق معتقل غوانتانامو الذي يهددون الإرهابيين به.
منذ تولي الرئيس الأميركي باراك أوباما الرئاسة عام 2009، وعد بإغلاق معتقل غوانتانامو المثير للجدل. ومع اقتراب موعد انتهاء ولايته الثانية والأخيرة، لا يزال المعسكر موجودًا، وإن تقلص عدد سجنائه. وفي هذه الأثناء، تزداد التحديات والصعوبات على أوباما لوضع بصمة تاريخية في مسيرته الرئاسية جراء العراقيل التي يستمر بمواجهتها من الجمهوريين في الكونغرس، الذين يعتبرون بغالبيتهم هذا المعتقل أداة مفيدة في مكافحة الإرهاب، كما يؤمن البعض منهم بأهمية إبقاء المعتقل على حاله. إلى ذلك، قال رافاييلو بانتوتشي، رئيس قسم الدراسات الأمنية في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بالعاصمة البريطانية لندن، لـ«الشرق الأوسط» إن رهان أوباما الصعب مع اقتراب ساعة الصفر مهم جدا له «فإن استطاع إغلاقه سيعد انتصارا تاريخيا لأبعاده الإنسانية وإثباتًا للجميع أنه استطاع تحقيق وعده».
طي صفحة من التاريخ الأميركي
وفي أواخر شهر فبراير (شباط) الماضي، عرض أوباما خطته المرتقبة لإغلاق معتقل غوانتانامو الأميركي، بجزيرة كوبا، تقضي بمواصلة بلاده نقل السجناء الذين لا يشكلون خطرًا كبيرًا إلى دول أخرى، وتفصل كيف يمكن الاستعانة بـ13 منشأة أميركية بديلة، وتوفير ملايين الدولارات سنويًا على دافعي الضرائب الأميركيين. كذلك أكد الرئيس الأميركي أن إغلاق المعتقل يرمي إلى «طي صفحة من تاريخنا، ويعكس الدروس التي تعلمناها منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وهي دروس يجب أن ترشد بلادنا في مسيرتها قدمًا».
والحال أن المعتقل ما زال يضم نحو 91 متهمًا بـ«التطرف»، بينهم 35 تمت الموافقة على الإفراج عنهم، وللعلم، سبق للمعتقل أن ضم في مرحلة ما بين جدرانه نحو 700 سجين، واقترن اسمه حول العالم بالتعذيب والاعتقال المطوّل واللباس البرتقالي. وعلى أثر ذلك سارع السيناتور الجمهوري ماركو روبيو، الذي كان يسعى للحصول على ترشيح حزبه للرئاسة، إلى انتقاد الخطة، واعدًا بزيادة عدد سجناء غوانتانامو في حال انتخابه. وتابع: «لن نكتفي بمنع إغلاق غوانتانامو عندما أصبح رئيسًا، بل إذا ألقينا القبض على إرهابي حيًا، فلن يحصل على محاكمة في مانهاتن (بنيويورك). ولن يُرسل إلى نيفادا، بل سيذهب إلى غوانتانامو، وسنحصل على كل المعلومات التي لديه».
جدير بالذكر أن خطة إغلاق معتقل غوانتانامو التي استغرقت صياغتها شهرين لا تشمل تفاصيل تقنية دقيقة حول الموقع المحتمل لمنشأة أميركية بديلة، مع أن مسؤولين عسكريين ذكروا سابقا اسمَي قاعدة فورت ليفينوورث في مدينة كنزاس أو سجن البحرية الأميركية في مدينة تشارلستون بولاية ساوث كارولينا كوجهتين محتملتين للمعتقلين. غير أن هذين الموقعين يلقيان اعتراضات ساسة محليين. وفي حين أكد أوباما طويلاً ضرورة نقل العدد الأكبر من سجناء غوانتانامو إلى الخارج، ومحاكمة بعضهم أمام محاكم عسكرية، فرض الكونغرس حظرًا على النقل إلى الولايات المتحدة، مما ضاعف العراقيل القانونية.
«داعش» في الصورة
ومن العراقيل الأخرى التي تواجه حلم أوباما بترك بصمته والإيفاء بوعده سعي المشرّعين في الكونغرس لطرح مشروع قرار لضمان احتجاز مقاتلي تنظيم داعش في معتقل غوانتانامو٬ والاعتراض على سعي البيت الأبيض لإغلاق المعتقل. وللعلم، الخطة الحالية التي يعتمد عليها قادة البنتاغون٬ هي اعتقال مقاتلي تنظيم داعش في العراق لفترة قصيرة٬ وبعد الانتهاء من استجوابهم يُفرج عنهم أو تسليمهم إلى السلطات العراقية أو الكردية. وينصّ مشروع القرار الذي يدفع به الجمهوريون في الكونغرس - والذي جرى الكشف عنه أخيرا - أنه «نظرًا للحرب الدائرة بين الولايات المتحدة وتنظيم داعش٬ وقدرة قوات العمليات الخاصة على اعتقال مزيد من المعتقلين٬ فإن المكان الصحيح لاحتجاز المعتقلين من تنظيم داعش هو معتقل غوانتانامو».
وفي حين يقول السيناتور الجمهوري مارك كيرك: «لا مكان آخر يمكن احتجاز الإرهابيين أفضل من غوانتانامو٬ وهو المكان الذي يجب أن يتم إرسال الإرهابيين من (داعش) إليه عندما يقوم جنودنا بالقبض عليهم»، لا يرى الخبير بانتوتشي أن الإبقاء على المعتقل هو الخيار الصحيح، بقوله إن «غوانتانامو كان في الأساس حلاً مؤقتًا، وعليه فإن إبقاءه ليس الجواب النهائي، بل هناك آلية معتمدة للتعامل مع المشبوهين والمتطرفين».
والواقع أن معتقل غوانتانامو ليس السجن الوحيد الذي تديره أو كانت تديره السلطة الأميركية، الذي تعرض لانتقادات لاذعة من قبل منظمات حقوق الإنسان، بسبب تهم تعرض المعتقلين للتعذيب والضرب. ومع أن الإعلام عادة ما ركز في السابق على معتقل أبو غريب في العراق، فإن سجن باغرام في أفغانستان، شهد فظاعات أشد.
«باغرام» من إدارة أميركية إلى أحضان الدفاع الأفغانية
على بعد 80 كلم شمال العاصمة الأفغانية كابل، في ولاية بروان التاريخية، يقع سجن باغرام العسكري المثير للجدل والسيئ الصيت. وكان أسس هذا السجن بعدما حوّلت القوات الأميركية قاعدة باغرام الجوية - التي كانت قد أنشئت في ثمانينات القرن الماضي بعد غزو القوات السوفياتية السابقة أفغانستان - إلى سجن مركزي احتفظت فيه بمئات من سجناء من طالبان بعد انهيار نظامها وعشرات من مقاتلي تنظيم «القاعدة» الذين كانوا يقاتلون إلى جانب حركة طالبان.
سجن باغرام يحتوي على عدد من العنابر وزّع السجناء عليها وفقا لخطورتهم، ولقد أشرفت القوات الأميركية على السجن إشرافًا مباشرًا لمدة 13 سنة، ولكن وجهت لها انتقادات لاذعة من قبل منظمات حقوق الإنسان لما قيل من تعرض المعتقلين للتعذيب والضرب. وخلال عام 2002 كشفت تقارير مستقلة عن وفاة معتقلين اثنين من طالبان إثر تعرّضهما للضرب والتعذيب على أيدي القوات الأميركية الخاصة.
وفي العاشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2014 سلّمت الولايات المتحدة إدارة سجن باغرام إلى الحكومة الأفغانية بصورة كاملة، ومعه تسلمت الإدارة الأفغانية نحو 3 آلاف سجين بينهم أكثر من 50 من جنسيات أجنبية جلّهم من الباكستانيين.
هذه الخطوة اعتبرت انتصارًا للسيادة الوطنية واسترجاعًا لآخر ملف أمني من القوات الأجنبية إلى نظيرتها الأفغانية. ولقد شكلت الحكومة الأفغانية لجنة قضائية في حينه للنظر في ملفات السجناء وماضيهم برئاسة القاضي عبد الشكور دادرس، وقررت اللجنة الإفراج عن غالبية السجناء معتبرة أنهم «اعتقلوا بسبب إخباريات ومعلومات مغلوطة وكاذبة»، كما تقرر تسليم عدد من السجناء الباكستانيين إلى إسلام آباد.
وتفيد شهادات أحد المفرج عنهم لـ«الشرق الأوسط»، بعدما أمضى أربع سنوات في السجن بأنه اعتقل ظلما بسبب إشاعات وأخبار ملفقة بأنه يدعم طالبان في حربها ضد القوات الأميركية. وأشار الرجل - الذي طلب عدم كشف هويته - إلى أنه تعرض إلى شتى أنواع التعذيب والتهديد والشتم بغية أخذ الاعترافات منه. وأردف أنه كان يسمع صرخات السجناء من داخل العنابر التي جرى فيها توزيعهم، وأنه كان يحتجز في غرفة صغيرة وضيقة لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار.
وقال محمد جان، وهو سجين سابق في باغرام من ولاية باكتيكا بشرق أفغانستان، إنه سُجِنَ بسبب وشاية أحد الأفراد من قريته كان يكنّ له العداء. وبسبب هذه الوشاية أمضى عشر سنوات في السجن من دون أن تُعرَف أسباب اعتقاله، مدعيًا أنه تعرض لأبشع أنواع التعذيب والصعق بالكهرباء، وأنه عندما عاد إلى قريته تعرف عليه أهله وأقرباؤه بصعوبة كبيرة.
وفي أغسطس (آب) من عام 2008، نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية تحقيقًا باسم «شبح باغرام» يزعم أن «سيدة القاعدة» الباكستانية عافية صديقي، التي تقضي حكمًا مؤبدًا في أحد سجون ولاية تكساس الأميركية حاليًا، أمضت بعض الوقت في باغرام وكانت المرأة الوحيدة هناك. وفي شهادات معتقلين آخرين، أكدوا أنهم كانوا يسمعون صراخها عند تعذيبها. وفي ضوء مقترحات إغلاق غوانتانامو، يلح السؤال: ماذا عن معتقلات مماثلة كباغرام في أفغانستان؟
سجن «باغرام».. مركز توقيف مؤقت
يؤكد أفضال أشرف، كبير مستشاري العلاقات الدبلوماسية بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن والضابط الكبير بسلاح الجو البريطاني سابقا – كان قد أمضى جزءا من خدمته في أفغانستان - قال لـ«الشرق الأوسط» إن الغموض يخيم على سجن باغرام. واستطرد موضحًا «الوثائق المعنية بآلية المعتقل والمعتقلين فيه صعب الحصول عليها، وليست متداولة بين عامة الناس». وتابع «ليس للحكومة الأفغانية معايير الشفافية كالمعايير الأميركية التي تخضع تحت القانون للمساءلة الشعبية دائمًا». وجراء هذا التعتيم، يمكن الجزم أن ما يحدث داخل المعتقل بعيد عن نظر الرأي العام.
من جانبه، يرى بانتوتشي أن «هناك اختلافا كبيرا بين باغرام غوانتانامو»، مضيفًا «غوانتانامو معتقل خارج الأراضي الأميركية أسسه الأميركيون لاحتجاز المشبوهين مؤقتًا، وأصبح ذلك الاحتجاز المؤقت سجنًا مطوّلاً. وبخلاف ذلك، فإن باغرام قاعدة عسكرية في أفغانستان قرب المطار، كان يحتجز بها الأميركيون سجناء حرب هناك. وعند تسليم الولايات المتحدة إدارة السجن للحكومة الأفغانية، أتى ذلك مؤشرًا إلى أن أميركا أرادت تقليص دورها في أفغانستان». ويعود سبب التأخير، بحسب أفضال أشرف، إلى «ضرورة تأمين السجن من قبل الأميركيين قبل تسليم عهدته للحكومة الأفغانية». وإن كان تحت الإدارة الأميركية أو الأفغانية، ويعتبر بانتوتشي باغرام «محطة انتقال» قبل غوانتانامو، «لأن عددًا كبيرًا من الذين اعتقلوا في أفغانستان وباكستان جرى نقلهم إلى غوانتانامو بعدها».
معظم بيك لـ«الشرق الأوسط»: بعد فظاعة باغرام أسعدني خبر نقلي إلى غوانتانامو
«بعد تجربتي في باغرام، أسعدني خبر نقلي لغوانتانامو، فطبيعة باغرام المسمومة والمحبطة كانت سيئة جدا. وخلال وجودي هناك شاهدت حالتي وفاة لمسجونين قتلا تحت التعذيب من قبل جنود أميركيين». هكذا بدأ معظم بيك، المعتقل البريطاني من أصل باكستاني السابق في كل من باغرام وغوانتانامو، حواره مع «الشرق الأوسط».
معظم بيك المقيم في بريطانيا حاليا هو الناطق الرسمي باسم منظمة «سجناء الأقفاص» البريطانية، وهي منظمة حقوقية تحقق في عمليات التسليم الاستثنائي. كان معظم قد اعتقل في باغرام لمدة 11 شهرًا. وبحسب ما روى، تعرض لتعذيب واضطهاد خلالها. وعن تجربته في باغرام، قال: «أحد الذين قتلوا تعذيبا في المعتقل لقي حتفه أمام عيني؛ إذ ضربه الجنود الأميركيون حتى لفظ آخر أنفاسه وكانت يداه مقيدتين فوق جسمه في قفص». وتابع معظم «جرى تعذيبي أنا أيضًا في باغرام، إذ قيدوني وضربوني، وفي الزنزانة المجاورة التي جرى استجوابي فيها ولاستفزازي وضعوا أمامي صورًا لزوجتي فيما كنت أسمع صرخات امرأة مجاورة. وتحت التعذيب أقنعوني أن صرخات الألم هذه هي صرخات زوجتي.. وبعد هذه التجربة العصيبة.. خبر نقلي لغوانتانامو لم يكن بهذا السوء، وبالفعل لم تكن تجربتي في معتقل غوانتانامو بالقسوة ذاتها، فالتعذيب الجسدي كان أقل وحتى التعذيب عن طريق الاستفزاز لم يكن بقسوة باغرام».
وأطلق سراح بيك من غوانتانامو في يناير (كانون الثاني) 2005 من دون أي إدانات، ولا يزال بيك بحكم عمله على تواصل مع كثير من السجناء الذين جرى إطلاق سراحهم من غوانتانامو أخيرا، وأكدوا له أن الوضع داخل المعتقل يزداد سوءا وأن التعذيب في المعتقل بات أسوأ، كما اضطر بعض السجناء للإضراب عن الطعام مطالبة بأبسط حقوقهم.