بموازاة تعاظم اتساع دائرة الاهتمام بأعمال الروائية الإيطالية الأشهر هذه الأيام إيلينا فيرانتي - مليونا نسخة بيعت في أكثر من 39 بلدًا حول العالم - يتسارع الاهتمام بمعرفة الشخصية الحقيقية وراء الاسم المستعار، إذ إنه - وفق إديزيوني ناشر الروايات - هو الاسم الأدبي الذي اختاره كاتب أو كاتبة الروايات التي صدر أولها عام 1991، التي خلبت رباعيتها الأخيرة لباب العالم، وأنشأت شبكة واسعة من القراء المتابعين لا سيما بين النساء.
لعل آخر التطورات بشأن البحث عن شخصية الكاتب الحقيقي ترافقت مع إعلان ترشيح آخر الأعمال المنسوبة لفيرانتي (قصة طفل ضائع) - ضمن سلسلة من أربعة مجلدات تتمحور حول بيئة الحياة في نابولي الإيطالية في النصف الثاني من القرن العشرين - لجائزة مان بوكر لعام 2016، وهي الجائزة الأهم للرواية العالمية. فقد كشفت صحيفة إيطالية مرموقة أن البروفسور (والروائي بدوره) ماركو سانتاغاتا قد وضع نظرية تبدو شديدة الواقعية للشخصية الحقيقية وراء فيرانتي، إذ يكشف عن اعتقاده بأنها أستاذة جامعية تدعى مارسيلا مارمو، وتتوافق سيرتها الذاتية بشكل عجيب مع التصورات المفترضة عن شخصية إيلينا فيرانتي. فمبدئيًا على الأغلب هي امرأة كونها تحدثت عن نفسها بوصفها أمًا، وذلك في مقابلة نادرة عبر البريد الإلكتروني نشرت قبل فترة في مجلة «الجنتل وومان»، إضافة إلى أسلوب السرد الروائي ذي النفس النسوي الظاهر، والظن أنها ولدت وعاشت في نابولي - مسرح مجموعة الروايات الأربع الأخيرة لفيرانتي - ويبدو أنها نشأت في بيئة فقيرة تتناسب مع أجواء نابولي بعد الحرب الثانية.
لكن النقطة الحاسمة التي يكشفها البروفسور سانتاغاتا - الذي درس مع الأستاذة مارمو في جامعة بيزا في الوقت نفسه تقريبًا - تتعلق بكون فيرانتي تكتب في إحدى رواياتها عن حانة صغيرة كانت مقصد طلاب الجامعة في الستينات من القرن الماضي، وتصف حفلة أعياد الميلاد في سنة معينة لا يمكن أن يكون قد حضرها أي أحد ما لم يكن طالبًا في الجامعة ذاتها، كما أن إحدى فضائح الغراميات المشهورة بين طلاب جامعة بيزا تلك الفترة تروى في إحدى رواياتها بالتفاصيل. ويلاحظ البروفسور أيضًا غياب أحداث حاسمة في تاريخ المدينة مثل فيضانات 1966 واحتجاجات الطلاب في 1968 من الروايات، نظرًا لغياب الروائية عن المدينة في تلك الفترة، وهو ما يتوافق مع سجلات تسجيل الأستاذة مارمو في جامعة بيزا التي تظهر أن امرأة واحدة من نابولي درست التاريخ الإيطالي المعاصر - وهو الإطار الزمني لروايات فيرانتي - وهي ذات الأستاذة مارمو. أيضًا يقول البروفسور سانتاغاتا إن ارتباطات الأستاذة مارمو الاجتماعية - هي تزوجت من ابن أخ كارلو ليڤي وهو مؤسس حركة يسارية مناهضة للفاشية - تفسر مواقف فيرانتي الناقدة للأجواء الفاشية واطلاعها الدقيق على دواخل السياسة في إيطاليا وأوروبا.
وقد سارع ناشر الروايات والأستاذة مارمو كلاهما إلى نفي صحة استنتاجات البروفسور سانتاغاتا، مما ضاعف غموض شخصية المؤلفة، وزاد من جاذبية الروايات، وهذا بالتأكيد يحسن من أرقام المبيع. لكن ذلك ربما ليس الدافع الوحيد لإخفاء شخصية المؤلفة، إذ تقول - في مقابلة البريد الإلكتروني ذاتها - إن «الكتب بعد أن تكتب، لا تعد بحاجة إلى مؤلفيها، وإن الكتاب يجب أن يضم بين دفتيه كل أسباب الحياة المستقلة عن كاتبه وإلا فليس هنالك داع لنشره»، و«أنها ترغب في إبعاد حياتها الشخصية عن أي ضغوط اجتماعية أو التزامات قد تترتب على الشهرة»، وأنها أيضًا «ترغب في حماية حريتها في الكتابة واستكشاف النثر». لكن بعض خبراء النشر والأدب في إيطاليا يعتقدون أنها قد تحاول حماية المجتمع الذي تنتمي إليه لا سيما أن رواياتها جميعًا تحتوي في الغالب على ما يمكنه تفسيره بكونه أجزاء مختلفة من سيرة ذاتية تتداخل بشدة مع شخصيات الروايات وتقلبات مصائرها، علما بأن فيرانتي لم تنكر بأنها تنحدر من بيئة متواضعة ماديًا، فهي تقول «لا يمكنك أن تمحو ببساطة أصولك الطبقية سواء صعدت أو هبطت على السلم الاجتماعي - الاقتصادي. هي أشبه بحمرة الوجنتين التي تكشف مشاعرنا القوية مهما كانت ظروفنا المادية في تلك اللحظة».
تمتاز روايات فيرانتي بقدرة متفردة على السرد الذي يأخذ بعقول القراء من خلفيات ثقافية مختلفة مع انحياز واضح لها في صفوف النساء الناضجات لا سيما المثقفات منهن. مسرح الروايات مدينة نابولي الإيطالية في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى نهاية القرن العشرين، حيث تتكامل زوايا الجمال والعنف والطموح والهزيمة والولادة والموت والجنس لخلق أجواء غاية في التشويق تأخذك من دون رحمة من صفحة لصفحة ومن مجلد لمجلد، لكن دون أن تنحدر إلى مستوى سرد الأحداث في أدب الجرائم الرومانسية.
يمتزج مناخ رباعية الروايات بظلال ما بعد الفاشية، حروب اليمين الإيطالي ضد اليسار ومرحلة اغتيال ألدو مورو والألوية الحمراء في السبعينات من القرن الماضي، لكن النموذج الأكثر سطوعًا الذي يمتلك السيطرة على مسار القصة هو الأداء النسوي المختلف، سواء في وصف العلاقات الجنسية أو في وصف مشاعر الغيرة بين النساء والصداقة العميقة المختلطة بالحسد والتظاهر أحيانا. شخصيات فيرانتي مبهرة، بحجم الحياة ذاتها، لكنها في ذات الوقت - وكما نحن جميعًا ربما - مصابة بالتشوش والذهول والقدرة على ارتكاب الحماقات كما الشجاعة والنبل والتعلق بالأمل.
تبدو فيرانتي - إذا جاز أن نحكم عليها من خلال مقابلتها عبر البريد الإلكتروني إلى جانب نصوصها المنشورة - مشغولة بالهم النسوي أساسًا، حيث تبدو رواياتها كأنها دفاع حميم عن عالم المرأة في مواجهة العنف المنظم والعبثي، كلاهما كما الفقر والبؤس اللذان يحكمان نسيج الحياة في المدينة. المرأة عند فيرانتي مخلوق شديد التعقيد، عميق المشاعر أقدر على التعامل مع التحولات مقارنة بالرجال الأميل إلى التبسيط، وقد نقل عنها في المقابلة المذكورة أن النساء - أمهات أو عازبات - يعانين الأمرين في الموازنة بين إدارة متطلبات الحياة اليومية وبناء مساحات الإبداع الذاتي، وهن غالبًا ما ينتهين إلى التضحية بطموحاتهن من أجل مشاعرهن نحو الشركاء والأبناء.
لم يتم القبض إذن على فيرانتي هذه المرة، بل إن البعض في الدوائر الأدبية الإيطالية يتحدث عن أن فيرانتي ليست امرأة على الإطلاق، وإنما هي انتحال أدبي يقوم به المؤلف الإيطالي دومينيكو ستارنور.
وهذا الأمر يبدو أقل إقناعا - مقارنة بحبكة قصة الأستاذة مارسيلا مارمو - لكن لا يمكن استبعاده بالمطلق، وهكذا يستمر التشويق وتتصاعد الإثارة التي يغذيها الناشر بكل طريقة ممكنة، إذ قالت المتحدثة باسمها بأن المؤلفة لا تعتزم الكشف عن شخصيتها الحقيقية وليست لديها النية في ذلك مستقبلاً.
ليلة القبض على إيلينا فيرانتي
مليونا نسخة بيعت في أكثر من 39 بلدًا حول العالم
ليلة القبض على إيلينا فيرانتي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة